صفحة جزء
[ ص: 558 ] باب أما دلائل النبوة الحسية - أعني المشاهدة بالأبصار - فسماوية وأرضية

ومن أعظم ذلك كله انشقاق القمر المنير فرقتين ، قال الله تعالى : اقتربت الساعة وانشق القمر وإن يروا آية يعرضوا ويقولوا سحر مستمر وكذبوا واتبعوا أهواءهم وكل أمر مستقر ولقد جاءهم من الأنباء ما فيه مزدجر حكمة بالغة فما تغن النذر [ القمر : 1 - 5 ] وقد اتفق العلماء مع بقية الأئمة على أن انشقاق القمر كان في عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وقد وردت الأحاديث بذلك من طرق تفيد القطع عند الأمة .

رواية أنس بن مالك قال الإمام أحمد : حدثنا عبد الرزاق ، ثنا معمر ، عن قتادة ، عن أنس قال : سأل أهل مكة النبي صلى الله عليه وسلم آية ، فانشق القمر بمكة مرتين ، فقال : اقتربت الساعة وانشق القمر وإن يروا آية يعرضوا ويقولوا سحر مستمر ورواه مسلم ، عن محمد بن رافع ، عن عبد الرزاق .

وقال البخاري : حدثني عبد الله بن عبد الوهاب ، ثنا بشر بن المفضل ، ثنا [ ص: 559 ] سعيد بن أبي عروبة ، عن قتادة عن أنس بن مالك ، أن أهل مكة سألوا رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يريهم آية فأراهم القمر شقتين ، حتى رأوا حراء بينهما . وأخرجاه في " الصحيحين " من حديث شيبان ، عن قتادة ، ومسلم من حديث شعبة ، عن قتادة .

رواية جبير بن مطعم : قال أحمد : حدثنا محمد بن كثير ، ثنا سليمان بن كثير ، عن حصين بن عبد الرحمن ، عن محمد بن جبير بن مطعم ، عن أبيه قال : انشق القمر على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فصار فرقتين ؛ فرقة على هذا الجبل ، وفرقة على هذا الجبل ، فقالوا : سحرنا محمد . فقالوا : إن كان سحرنا فإنه لا يستطيع أن يسحر الناس كلهم . تفرد به أحمد . ورواه ابن جرير والبيهقي من طرق ، عن حصين بن عبد الرحمن به .

رواية حذيفة بن اليمان : قال أبو جعفر بن جرير حدثني يعقوب ، حدثني ابن علية ، أنا عطاء بن السائب ، عن أبي عبد الرحمن السلمي قال : نزلنا المدائن فكنا منها على فرسخ فجاءت الجمعة فحضر أبي ، وحضرت معه ، فخطبنا حذيفة ، فقال : إن الله تعالى يقول : اقتربت الساعة وانشق القمر ألا وإن الساعة قد اقتربت ، ألا وإن القمر قد انشق ، ألا وإن الدنيا قد آذنت [ ص: 560 ] بفراق ، ألا وإن اليوم المضمار ، وغدا السباق . فقلت لأبي : أتستبق الناس غدا ؟ فقال : يا بني ، إنك لجاهل إنما هو السباق بالأعمال . ثم جاءت الجمعة الأخرى فحضرنا فخطب حذيفة ، فقال : ألا إن الله يقول : اقتربت الساعة وانشق القمر ألا وإن الساعة قد اقتربت ، ألا وإن القمر قد انشق ألا وإن الدنيا قد آذنت بفراق ، ألا وإن اليوم المضمار ، وغدا السباق ، ألا وإن الغاية النار ، والسابق من سبق إلى الجنة .

ورواه أبو زرعة الرازي في كتاب " دلائل النبوة " من غير وجه ، عن عطاء بن السائب ، عن أبي عبد الرحمن ، عن حذيفة فذكر نحوه ، وقال : ألا وإن القمر قد انشق على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم .

رواية عبد الله بن عباس : قال البخاري : ثنا يحيى بن بكير ، ثنا بكر ، عن جعفر ، عن عراك بن مالك ، عن عبيد الله بن عبد الله بن عتبة ، عن ابن عباس قال : انشق القمر في زمان النبي صلى الله عليه وسلم . ورواه البخاري أيضا ومسلم من حديث بكر بن مضر ، عن جعفر بن ربيعة به .

طريق أخرى عنه : قال ابن جرير ثنا ابن مثنى ، ثنا عبد الأعلى ، ثنا داود بن أبي هند ، عن علي بن أبي طلحة ، عن ابن عباس في قوله : اقتربت الساعة وانشق القمر وإن يروا آية يعرضوا ويقولوا سحر مستمر قال : قد مضى ذلك ، كان قبل الهجرة ، انشق القمر حتى رأوا شقيه . وروى العوفي ، عن ابن عباس نحوا من هذا .

[ ص: 561 ] وقد روي من وجه آخر عن ابن عباس ، فقال أبو القاسم الطبراني : ثنا أحمد بن عمرو البزار ، ثنا محمد بن يحيى القطعي ، ثنا محمد بن بكر ، ثنا ابن جريج ، عن عمرو بن دينار ، عن عكرمة ، عن ابن عباس قال : كسف القمر على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم فقالوا : سحر القمر . فنزلت : اقتربت الساعة وانشق القمر وإن يروا آية يعرضوا ويقولوا سحر مستمر وهذا سياق غريب . وقد يكون حصل للقمر مع انشقاقه كسوف فيدل على أن انشقاقه إنما كان في ليالي إبداره . والله أعلم .

رواية عبد الله بن عمر بن الخطاب : قال الحافظ أبو بكر البيهقي : أنا أبو عبد الله الحافظ وأبو بكر أحمد بن الحسن القاضي ، قالا : ثنا أبو العباس الأصم ، ثنا العباس بن محمد الدوري ، ثنا وهب بن جرير عن شعبة ، عن الأعمش ، عن مجاهد ، عن عبد الله بن عمر بن الخطاب في قوله : اقتربت الساعة وانشق القمر قال : وقد كان ذلك على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم انشق فلقتين ، فلقة من دون الجبل ، وفلقة من خلف الجبل ، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : اللهم اشهد وهكذا رواه مسلم والترمذي من طرق عن شعبة عن الأعمش عن مجاهد . قال مسلم كرواية مجاهد عن أبي معمر عن ابن مسعود . وقال الترمذي : حسن صحيح .

رواية عبد الله بن مسعود : قال الإمام أحمد : ثنا سفيان ، عن ابن [ ص: 562 ] أبي نجيح ، عن مجاهد ، عن أبي معمر ، عن ابن مسعود قال : انشق القمر على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم شقتين حتى نظروا إليه ، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " اشهدوا " ورواه البخاري ومسلم ، من حديث سفيان بن عيينة ، وأخرجاه من حديث الأعمش ، عن إبراهيم ، عن أبي معمر عبد الله بن سخبرة ، عن ابن مسعود به . قال البخاري : وقال أبو الضحى ، عن مسروق ، عن عبد الله : بمكة .

وهذا الذي علقه البخاري قد أسنده أبو داود الطيالسي في " مسنده " فقال : حدثنا أبو عوانة ، عن المغيرة ، عن أبي الضحى ، عن مسروق ، عن عبد الله بن مسعود قال : انشق القمر على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فقالت قريش : هذا سحر ابن أبي كبشة قال : فقالوا : انظروا ما يأتيكم به السفار ، فإن محمدا لا يستطيع أن يسحر الناس كلهم . قال : فجاء السفار فقالوا ذلك .

وروى البيهقي عن الحاكم ، عن الأصم ، عن عباس الدوري ، عن سعيد بن سليمان ، عن هشيم عن مغيرة عن أبي الضحى ، عن مسروق ، عن عبد الله قال : انشق القمر بمكة حتى صار فرقتين ، فقال كفار قريش أهل مكة هذا سحر سحركم به ابن أبي كبشة ، انظروا السفار ، فإن كانوا رأوا ما رأيتم فقد صدق ، وإن كانوا لم يروا ما رأيتم فهو سحر سحركم به . قال : فسئل السفار - وقدموا من كل وجه - فقالوا : رأينا .

[ ص: 563 ] ورواه ابن جرير من حديث المغيرة وزاد : فأنزل الله : اقتربت الساعة وانشق القمر .

وقال الإمام أحمد : حدثنا مؤمل ، عن إسرائيل ، عن سماك ، عن إبراهيم ، عن الأسود ، عن عبد الله قال : انشق القمر على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى رأيت الجبل بين فرجتي القمر .

وروى ابن جرير ، عن يعقوب الدوري ، عن ابن علية ، عن أيوب عن محمد بن سيرين قال : نبئت أن ابن مسعود كان يقول : لقد انشق القمر .

ففي " صحيح البخاري " من حديث الأعمش ، عن أبي الضحى ، عن مسروق ، عن ابن مسعود ، أنه كان يقول : خمس قد مضين ؛ الروم واللزام والبطشة والدخان والقمر . في حديث طويل عنه مذكور في تفسير سورة " الدخان " .

وقال أبو زرعة في " الدلائل " : حدثنا عبد الرحمن بن إبراهيم الدمشقي ، حدثنا الوليد ، عن الأوزاعي ، عن ابن أبي كثير قال : انشق القمر بمكة ، [ ص: 564 ] والنبي صلى الله عليه وسلم بها قبل الهجرة ، فخر شقتين ، فقال المشركون : سحره ابن أبي كبشة . وهذا مرسل من هذا الوجه .

فهذه طرق عن هؤلاء الجماعة من الصحابة ، وشهرة هذا الأمر تغني عن إسناده مع وروده في الكتاب العزيز ، وما يذكره بعض القصاص من أن القمر دخل في جيب النبي صلى الله عليه وسلم وخرج من كمه ، ونحو هذا الكلام ، فليس له أصل يعتمد عليه ، والقمر في حال انشقاقه لم يزايل السماء ، بل انفرق باثنتين ، وسارت إحداهما حتى صارت وراء جبل حراء ، والأخرى من الناحية الأخرى ، وصار الجبل بينهما ، وكلتا الفرقتين في السماء ، وأهل مكة ينظرون إلى ذلك ، وظن كثير من جهلتهم أن هذا شيء سحرت به أبصارهم ، فسألوا من قدم عليهم من المسافرين ، فأخبروهم بنظير ما شاهدوه ، فعلموا صحة ذلك وتيقنوه . فإن قيل : فلم لم يعرف هذا في جميع أقطار الأرض ؟ فالجواب ؛ ومن ينفي ذلك ؟ ولكن تطاول العهد والكفرة يجحدون بآيات الله ، ولعلهم لما أخبروا أن هذا كان آية لهذا النبي المبعوث ، تداعت آراؤهم الفاسدة على كتمانه وتناسيه ، على أنه قد ذكر غير واحد من المسافرين أنهم شاهدوا هيكلا بالهند مكتوبا عليه : إنه بني في الليلة التي انشق القمر فيها . ثم لما كان انشقاق القمر ليلا قد يخفى أمره على كثير من الناس ؛ لأمور مانعة من مشاهدته في تلك الساعة ، من غيوم متراكمة كانت تلك الليلة في بلدانهم ، ولنوم كثير منهم ، أو لعله كان في أثناء الليل حيث ينام كثير من الناس ، وغير ذلك من الأمور . والله أعلم . وقد حررنا [ ص: 565 ] هذا فيما تقدم في كتابنا " التفسير " .

التالي السابق


الخدمات العلمية