صفحة جزء
القول فيما أوتي إبراهيم الخليل ، عليه السلام .

قال شيخنا العلامة أبو المعالي بن الزملكاني ، رحمه الله وبل بالرحمة ثراه : وأما خمود النار لإبراهيم ، عليه الصلاة والسلام ، فقد خمدت لنبينا صلى الله عليه وسلم نار فارس ولم تخمد قبل ذلك بألف عام ، لمولده صلى الله عليه وسلم وبينه وبين بعثته أربعون سنة ، وخمدت نار إبراهيم لمباشرته لها ، وخمدت نار فارس لنبينا صلى الله عليه وسلم وبينه وبينها مسافة أشهر . كذا ، وهذا الذي أشار إليه من [ ص: 329 ] خمود نار فارس ليلة مولده الكريم قد ذكرناه بأسانيده وطرقه في أول السيرة عند ذكر المولد المطهر المشرف المكرم ، بما فيه كفاية ومقنع .

ثم قال شيخنا : مع أنه قد ألقي بعض هذه الأمة في النار فلم تؤثر فيه ببركة نبينا صلى الله عليه وسلم ، منهم أبو مسلم الخولاني . قال : تنبأ الأسود بن قيس العنسي باليمن ، فأرسل إلى أبي مسلم الخولاني فقال له : أتشهد أن محمدا رسول الله ؟ قال : نعم . قال : أتشهد أني رسول الله ؟ قال : ما أسمع . فأعاد عليه ، فقال : ما أسمع . فأمر بنار عظيمة فأججت ، وطرح فيها أبو مسلم فلم تضره . فقيل له : لئن تركت هذا في بلادك أفسدها عليك . فأمره بالرحيل ، فقدم المدينة وقد قبض رسول الله صلى الله عليه وسلم واستخلف أبو بكر ، فقام إلى سارية من سواري المسجد يصلي ، فبصر به عمر فقال : من أين الرجل ؟ قال : من اليمن . قال : ما فعل عدو الله بصاحبنا الذي حرقه بالنار فلم تضره ؟ قال : ذاك عبد الله بن ثوب . قال : نشدتك بالله أنت هو ؟ قال : اللهم نعم . قال : فاعتنقه ثم بكى ، ثم ذهب به حتى أجلسه بينه وبين أبي بكر الصديق ، وقال : الحمد لله الذي لم يمتني حتى أراني في أمة محمد صلى الله عليه وسلم من فعل به كما فعل بإبراهيم خليل الرحمن ، عليه السلام . وهذا السياق الذي أورده شيخنا بهذه الصفة قد رواه الحافظ الكبير أبو القاسم بن عساكر ، رحمه الله ، في ترجمة أبي مسلم عبد الله بن ثوب في " تاريخه " [ ص: 330 ] من غير وجه ، عن عبد الوهاب بن نجدة ، عن إسماعيل بن عياش الحمصي ، حدثني شرحبيل بن مسلم الخولاني ، أن الأسود بن قيس بن ذي الخمار العنسي تنبأ باليمن ، فأرسل إلى أبي مسلم الخولاني فأتى به ، فلما جاءه قال : أتشهد أني رسول الله ؟ قال : ما أسمع . قال : أتشهد أن محمدا رسول الله ؟ قال : نعم . قال : أتشهد أني رسول الله ؟ قال : ما أسمع . قال : أتشهد أن محمدا رسول الله ؟ قال : نعم . قال : فردد ذلك عليه مرارا ، ثم أمر بنار عظيمة فأججت فألقى أبا مسلم فيها فلم تضره ، فقيل للأسود : انفه عنك وإلا أفسد عليك من اتبعك . فأمره ، فارتحل أبو مسلم ، فأتى المدينة وقد قبض رسول الله صلى الله عليه وسلم واستخلف أبو بكر ، فأناخ أبو مسلم راحلته بباب المسجد ، ثم دخل المسجد وقام يصلي إلى سارية ، وبصر به عمر بن الخطاب فأتاه فقال : ممن الرجل ؟ فقال : من أهل اليمن . قال : ما فعل الرجل الذي حرقه الكذاب بالنار ؟ قال : ذاك عبد الله بن ثوب . قال : فأنشدك بالله أنت هو ؟ قال : اللهم نعم . قال : فاعتنقه وبكى ، ثم ذهب به حتى أجلسه بينه وبين أبي بكر الصديق ، فقال : الحمد لله الذي لم يمتني حتى أراني في أمة محمد صلى الله عليه وسلم من فعل به كما فعل بإبراهيم خليل الرحمن . قال [ ص: 331 ] إسماعيل بن عياش : فأنا أدركت رجالا من الأمداد الذين يمدون إلينا من اليمن ; من خولان ، ربما تمازحوا فيقول الخولانيون للعنسيين : صاحبكم الكذاب حرق صاحبنا بالنار فلم تضره .

وروى الحافظ ابن عساكر أيضا من غير وجه ، عن إبراهيم بن دحيم : حدثنا هشام بن عمار ، حدثنا الوليد أخبرني سعيد بن بشير ، عن أبي بشر جعفر بن أبي وحشية ، أن رجلا من خولان أسلم ، فأراده قومه على الكفر ، فألقوه في نار فلم يحترق منه إلا أنملة لم يكن فيما مضى يصيبها الوضوء ، فقدم على أبي بكر فقال : استغفر لي قال : أنت أحق . قال أبو بكر : إنك ألقيت في النار فلم تحترق . فاستغفر له ، ثم خرج إلى الشام فكانوا يشبهونه بإبراهيم ، عليه السلام .

وهذا الرجل هو أبو مسلم الخولاني ، وهذه الرواية بهذه الزيادة تحقق أنه إنما نال ذلك ببركة متابعته الشريعة المحمدية المطهرة المقدسة ، كما جاء في حديث الشفاعة : " وحرم الله على النار أن تأكل مواضع السجود " . وقد نزل أبو مسلم بداريا من غربي دمشق ، وكان لا يسبقه أحد إلى المسجد الجامع بدمشق وقت الصبح ، وكان يغازي في بلاد الروم ، وله أحوال وكرامات كثيرة جدا ، وقبره مشهور بداريا ، والظاهر أنه مقامه الذي كان يكون فيه ، فإن الحافظ ابن عساكر رجح أنه مات ببلاد الروم ، في خلافة معاوية ، وقيل : في أيام ابنه [ ص: 332 ] يزيد ، بعد الستين . والله أعلم . وقد وقع لأحمد بن أبي الحواري مع شيخه أبي سليمان الداراني قصة تشبه هذا ، كما رواه الحافظ أبو القاسم بن عساكر في " تاريخه " في ترجمة أحمد بن أبي الحواري من غير وجه : أنه جاء إلى أستاذه أبي سليمان يعلمه أن التنور قد سجروه ، وأهله ينتظرون ما يأمرهم به ، فوجده يكلم الناس وهم حوله ، فأعلمه بذلك ، فاشتغل عنه بالناس ، ثم أعلمه فلم يلتفت إليه ، ثم أعلمه مع أولئك الذين حوله ، فقال له وهو مغضب : اذهب فاجلس فيه . ثم تشاغل بالحديث مع أولئك الذين حوله ، وذهب أحمد بن أبي الحواري إلى التنور ، فجلس فيه وهو يتضرم نارا ، فكان عليه بردا وسلاما ، وما زال فيه حتى استيقظ أبو سليمان من كلامه ، فقال لمن حوله : قوموا بنا إلى أحمد بن أبي الحواري ، فإني أظنه قد ذهب إلى التنور فجلس فيه امتثالا لما أمرته به ، فذهبوا فوجدوه جالسا فيه ، فأخذ بيده الشيخ أبو سليمان وأخرجه منه ، رحمة الله عليهما ، ورضي الله عنهما .

وقال شيخنا أبو المعالي : وأما إلقاؤه - يعني إبراهيم عليه السلام ، من المنجنيق ، فقد وقع في حديث البراء بن مالك في وقعة مسيلمة الكذاب ، وأن أصحاب مسيلمة انتهوا إلى حائط حفير فتحصنوا به وأغلقوا [ ص: 333 ] الباب ، فقال البراء بن مالك : ضعوني على ترس ، واحملوني على رءوس الرماح ، ثم ألقوني من أعلاها داخل الباب . ففعلوا ذلك وألقوه عليهم ، فوقع وقام وقاتل المشركين حتى قتل عشرة أو أكثر ، وفتح الباب للمسلمين ، فكان سبب هلاك المشركين وقتل مسيلمة .

قلت : وقد ذكرت ذلك مستقصى في أيام الصديق حين بعث خالد بن الوليد لقتال مسيلمة وبني حنيفة ، وكانوا في قريب من مائة ألف أو يزيدون ، وكان المسلمون بضعة عشر ألفا ، فلما التقوا جعل كثير من الأعراب يفرون ، فقال المهاجرون والأنصار : أخلصنا يا خالد . فميزهم عنهم ، فكان المهاجرون والأنصار قريبا من ألفين وخمسمائة ، فصمموا الحملة وجعلوا يتذامرون ويقولون : يا أصحاب سورة " البقرة " بطل السحر اليوم . فهزموهم بإذن الله وألجأوهم إلى حديقة هنالك - وتسمى حديقة الموت - فتحصنوا بها ، فحصروهم فيها ، ففعل البراء بن مالك أخو أنس بن مالك ، وكان الأكبر ، ما ذكر من رفعه على ترسه فوق الرماح حتى تمكن من أعلى سورها ، ثم ألقى نفسه عليهم ونهض سريعا إليهم ، ولم يزل يقاتلهم وحده ويقاتلونه حتى تمكن من فتح باب الحديقة ، ودخل المسلمون يكبرون وانتهوا إلى قصر مسيلمة وهو واقف خارجه عند ثلمة جدار ، كأنه جمل أورق ، أي من سمرته ، فابتدره وحشي بن حرب الأسود قاتل حمزة بحربته ، وأبو دجانة سماك بن خرشة [ ص: 334 ] الأنصاري - وهو الذي ينسب إليه شيخنا هذا أبو المعالي بن الزملكاني - فسبقه وحشي فأرسل الحربة عليه من بعد فأنفذها منه ، وجاء إليه أبو دجانة فعلاه بسيفه فقتله ، لكن صرخت جارية من فوق القصر تندب مسيلمة ، فقالت : واأمير المؤمنيناه ، قتله العبد الأسود . ويقال : إن عمر مسيلمة ، لعنه الله ، يوم قتل مائة وأربعون سنة . فهو ممن طال عمره وساء عمله ، قبحه الله . وهذا ما ذكره شيخنا فيما يتعلق بإبراهيم الخليل ، عليه السلام .

وأما الحافظ أبو نعيم فإنه قال : فإن قيل : فإن إبراهيم خص بالخلة مع النبوة . قيل : فقد اتخذ الله محمدا خليلا وحبيبا ، والحبيب ألطف من الخليل . ثم ساق من حديث شعبة ، عن أبي إسحاق ، عن أبي الأحوص ، عن عبد الله بن مسعود ، رضي الله عنه ، قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " لو كنت متخذا خليلا لاتخذت أبا بكر خليلا ، ولكن صاحبكم خليل الله . وقد رواه مسلم من طريق شعبة والثوري ، عن أبي إسحاق ، ومن طريق عبد الله بن مرة وعبد الله بن أبي الهذيل ، كلهم عن أبي الأحوص عوف بن مالك الجشمي قال : سمعت عبد الله بن مسعود يحدث عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : لو كنت متخذا خليلا لاتخذت أبا بكر خليلا ، ولكنه أخي وصاحبي ، وقد اتخذ الله ، عز وجل ، صاحبكم ، خليلا . هذا لفظ مسلم . ورواه مسلم أيضا منفردا به ، عن جندب بن عبد الله البجلي ، كما سأذكره . وأصل الحديث [ ص: 335 ] في " الصحيحين " عن أبي سعيد ، وفي أفراد البخاري ، عن ابن عباس وابن الزبير ، كما سقت ذلك في فضائل الصديق ، رضي الله عنه ، وقد أوردناه هنالك من رواية أنس ، والبراء ، وجابر ، وكعب بن مالك ، وأبي سعيد بن المعلى ، وأبي هريرة ، وأبي واقد الليثي ، وعائشة أم المؤمنين ، رضي الله عنهم أجمعين . ثم إنما رواه أبو نعيم من حديث عبيد الله بن زحر عن علي بن يزيد ، عن القاسم ، عن أبي أمامة ، عن كعب بن مالك أنه قال : عهدي بنبيكم صلى الله عليه وسلم قبل وفاته بخمسة أيام ، فسمعته يقول : لم يكن نبي إلا له خليل من أمته ، وإن خليلي أبو بكر ، وإن الله اتخذ صاحبكم خليلا . وهذا الإسناد ضعيف .

ومن حديث محمد بن عجلان ، عن أبيه ، عن أبي هريرة قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : لكل نبي خليل ، وخليلي أبو بكر بن أبي قحافة ، وخليل صاحبكم الرحمن . وهو غريب من هذا الوجه .

ومن حديث عبد الوهاب بن الضحاك ، عن إسماعيل بن عياش ، عن صفوان بن عمرو ، عن عبد الرحمن بن جبير بن نفير ، عن كثير بن مرة ، عن [ ص: 336 ] عبد الله بن عمرو بن العاص ، قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : إن الله اتخذني خليلا كما اتخذ إبراهيم خليلا ، ومنزلي ومنزل إبراهيم في الجنة تجاهين ، والعباس بيننا مؤمن بين خليلين . غريب وفي إسناده نظر . انتهى ما أورده أبو نعيم ، رحمه الله .

وقال مسلم بن الحجاج في " صحيحه " : حدثنا أبو بكر بن أبي شيبة وإسحاق بن إبراهيم ، قالا : حدثنا زكريا بن عدي ، حدثنا عبيد الله بن عمرو ، حدثنا زيد بن أبي أنيسة ، عن عمرو بن مرة ، عن عبد الله بن الحارث ، حدثني جندب بن عبد الله قال : سمعت النبي صلى الله عليه وسلم قبل أن يموت بخمس وهو يقول : إني أبرأ إلى الله ، عز وجل ، أن يكون لي منكم خليل ; فإن الله قد اتخذني خليلا ، كما اتخذ إبراهيم خليلا ، ولو كنت متخذا من أمتي خليلا لاتخذت أبا بكر خليلا ، ألا وإن من كان قبلكم يتخذون قبور أنبيائهم وصالحيهم مساجد ، ألا فلا تتخذوا القبور مساجد ، إني أنهاكم عن ذلك . وأما اتخاذه حبيبا فلم يتعرض لإسناده أبو نعيم .

وقد قال هشام بن عمار في كتابه " المبعث " : حدثنا يحيى بن حمزة الحضرمي وعثمان بن علاق القرشي ، قالا : حدثنا عروة بن رويم اللخمي ، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : إن الله أدرك بي الأجل المرقوم ، وأخذني المقربة ، واحتضرني احتضارا ، فنحن الآخرون ، ونحن السابقون يوم القيامة ، وأنا قائل قولا غير فخر : إبراهيم خليل الله ، وموسى صفي الله ، وأنا حبيب الله ، وأنا سيد [ ص: 337 ] ولد آدم يوم القيامة ، وإن معي لواء الحمد ، تحته كل نبي وصديق وشهيد يوم القيامة ، وأنا أول من تفتح له أبواب الجنة ، وأجارني الله عليكم من ثلاث ; أن لا يهلككم بسنة ، وأن لا يستبيحكم عدو ، وأن لا تجتمعوا على ضلالة .

وأما الفقيه أبو محمد بن عبد الله بن حامد فتكلم على مقام الخلة بكلام طويل إلى أن قال : ويقال الخليل الذي يعبد ربه على الرغبة والرهبة ، من قوله : إن إبراهيم لأواه حليم [ التوبة : 114 ] . من كثرة ما يقول : أوه . والحبيب الذي يعبد ربه على الرؤية والمحبة . ويقال : الخليل الذي يكون معه انتظار العطاء ، والحبيب الذي يكون معه انتظار اللقاء . ويقال : الخليل الذي يصل بالواسطة . من قوله : وكذلك نري إبراهيم ملكوت السماوات والأرض وليكون من الموقنين [ الأنعام : 75 ] . والحبيب الذي يصل به إليه . من قوله : فكان قاب قوسين أو أدنى [ النجم : 9 ] . وقال الخليل : والذي أطمع أن يغفر لي خطيئتي يوم الدين [ الشعراء : 82 ] . وقال الله للحبيب محمد صلى الله عليه وسلم : ليغفر لك الله ما تقدم من ذنبك وما تأخر [ الفتح : 2 ] . وقال الخليل : ولا تخزني يوم يبعثون [ الشعراء : 87 ] . وقال الله للنبي صلى الله عليه وسلم يوم لا يخزي الله النبي والذين آمنوا معه [ التحريم : 8 ] . وقال الخليل حين ألقي في النار : حسبي الله ونعم الوكيل . وقال الله لمحمد : يا أيها النبي حسبك الله ومن اتبعك من المؤمنين [ الأنفال : 64 ] . وقال الخليل : إني ذاهب إلى ربي سيهدين [ الصافات : 99 ] . وقال الله لمحمد : ووجدك ضالا فهدى [ الضحى : 7 ] . وقال [ ص: 338 ] الخليل : واجعل لي لسان صدق في الآخرين [ الشعراء : 84 ] . وقال الله لمحمد : ورفعنا لك ذكرك [ الشرح : 4 ] . وقال الخليل : واجنبني وبني أن نعبد الأصنام [ إبراهيم : 35 ] . وقال الله للحبيب إنما يريد الله ليذهب عنكم الرجس أهل البيت [ الأحزاب : 33 ] . وقال الخليل : واجعلني من ورثة جنة النعيم [ الشعراء : 85 ] . وقال الله لمحمد : إنا أعطيناك الكوثر [ الكوثر : 1 ] . وذكر أشياء أخر ، وسيأتي الحديث في " صحيح مسلم " عن أبي بن كعب أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : إني سأقوم مقاما يوم القيامة يرغب إلي الخلق كلهم حتى أبوهم إبراهيم الخليل . فدل على أنه أفضل منه ، إذ هو محتاج إليه في ذلك المقام ، ودل على أن إبراهيم أفضل الخلق بعده ، ولو كان أحد أفضل من إبراهيم بعده لذكره .

ثم قال أبو نعيم : فإن قيل : إن إبراهيم عليه السلام ، حجب عن نمرود بحجب ثلاثة . قيل : فقد كان كذلك ، وحجب محمد صلى الله عليه وسلم عمن أرادوا قتله بخمسة حجب ، قال الله تعالى في أمره : وجعلنا من بين أيديهم سدا ومن خلفهم سدا فأغشيناهم فهم لا يبصرون [ يس : 9 ] . فهذه ثلاث ، ثم قال : وإذا قرأت القرآن جعلنا بينك وبين الذين لا يؤمنون بالآخرة حجابا مستورا [ الإسراء : 45 ] . ثم قال : فهي إلى الأذقان فهم مقمحون [ يس : 8 ] . فهذه خمسة حجب . وقد ذكر مثله سواء الفقيه أبو محمد بن حامد ، [ ص: 339 ] وما أدري أيهما أخذ من الآخر ؟ والله أعلم . وهذا الذي قاله غريب ، والحجب التي ذكرها لإبراهيم ، عليه السلام ، لا أدري ما هي ، كيف وقد ألقاه في النار التي نجاه الله منها ؟ ! وأما ما ذكره من الحجب المستدل عليها بهذه الآيات ، فقد قيل : إنها جميعها معنوية لا حسية ، بمعنى أنهم مصرفون عن الحق ، لا يصل إليهم ، ولا يخلص إلى قلوبهم ، كما قال تعالى : وقالوا قلوبنا في أكنة مما تدعونا إليه وفي آذاننا وقر ومن بيننا وبينك حجاب [ فصلت : 5 ] . وقد حررنا ذلك في " التفسير " وقد ذكرنا في السيرة وفي " التفسير " أن أم جميل امرأة أبي لهب لما نزلت السورة في ذمها وذم زوجها ، ودخولهما النار ، وخسارهما ، جاءت بفهر ، وهو الحجر الكبير المستطيل ; لترجم النبي صلى الله عليه وسلم ، فانتهت إلى أبي بكر وهو جالس عند النبي صلى الله عليه وسلم ، فلم تر رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وقالت لأبي بكر : أين صاحبك ؟ فقال : وما له ؟ فقالت : إنه هجاني . فقال : وما هجاك فقالت : والله لئن رأيته لأضربنه بهذا الفهر . ثم رجعت وهي تقول : مذمما أبينا ودينه قلينا . وكذلك حجب ومنع أبي جهل حين هم أن يطأ برجله رأس النبي صلى الله عليه وسلم وهو ساجد ، فرأى خندقا من نار وهولا عظيما ، وأجنحة الملائكة دونه ، فرجع القهقرى وهو يتقي بيديه ، فقالت له قريش : ما لك ؟ ويحك ! فأخبرهم بما رأى ، وقال النبي صلى الله عليه وسلم : " لو أقدم لاختطفته الملائكة عضوا عضوا " . وكذلك لما خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم ليلة [ ص: 340 ] الهجرة وقد أرصدوا على مدرجته وطريقه وحوالي بيته رجالا يحرسونه ; لئلا يخرج ، ومتى عاينوه قتلوه ، فأمر عليا فنام على فراشه ، ثم خرج عليهم وهم جلوس ، فجعل يرش على رأس كل إنسان منهم ترابا ويقول : " شاهت الوجوه " . ثم خرج ولم يروه حتى صار هو وأبو بكر الصديق . إلى غار ثور ، كما بسطنا ذلك في السيرة ، وكذلك ذكرنا أن العنكبوت سد على باب الغار ; ليعمي الله عليهم مكانه .

وفي " الصحيح " أن أبا بكر قال : يا رسول الله ، لو نظر أحدهم إلى موضع قدميه لأبصرنا . فقال : " يا أبا بكر ، ما ظنك باثنين الله ثالثهما ؟ " . وقد قال بعض الشعراء في ذلك :


نسج داود ما حمى صاحب الغا ر وكان الفخار للعنكبوت

وكذلك حجب ومنع من سراقة بن مالك بن جعشم حين اتبعهم ، بسقوط قوائم فرسه في الأرض ، حتى أخذ منه أمانا ، كما تقدم بسطه في الهجرة .

وذكر ابن حامد في كتابه في مقابلة إضجاع إبراهيم ، عليه السلام ، ولده للذبح مستسلما لأمر الله تعالى ، بذل رسول الله صلى الله عليه وسلم نفسه للقتل يوم أحد وغيره حتى نال منه العدو ما نالوا ; من هشم رأسه ، وكسر ثنيته اليمنى السفلى ، [ ص: 341 ] كما تقدم بسط ذلك في السيرة .

ثم قال : قالوا : كان إبراهيم ، عليه السلام ، ألقاه قومه في النار فجعلها الله بردا وسلاما . قلنا : وقد أوتي رسول الله صلى الله عليه وسلم مثله ، وذلك أنه لما نزل بخيبر سمته الخيبرية ، فصير ذلك السم في جوفه بردا وسلاما إلى منتهى أجله ، والسم يحرق - إذ لا يستقر في الجوف - كما تحرق النار . قلت : وقد تقدم الحديث بذلك في فتح خيبر . ويؤيد ما قاله أن بشر بن البراء بن معرور مات سريعا من تلك الشاة المسمومة ، وأخبر ذراعها رسول الله صلى الله عليه وسلم بما أودع فيه من السم ، وكان قد نهش منه نهشة ، وكان السم فيه أكثر ; لأنهم كانوا يفهمون أنه ، عليه الصلاة والسلام ، يحب الذراع ، فلم يضره السم الذي حصل في باطنه بإذن الله ، عز وجل ، حتى انقضى أجله ، عليه الصلاة والسلام ، فذكر أنه وجد حينئذ من ألم ذلك السم الذي كان في تلك الأكلة ، صلوات الله وسلامه عليه . وقد ذكرنا في ترجمة خالد بن الوليد المخزومي فاتح بلاد الشام أنه أتي بسم فتحساه بحضرة الأعداء ; ليرهبهم بذلك ، فلم ير بأسا ، رضي الله عنه .

ثم قال أبو نعيم : فإن قيل : فإن إبراهيم خصم نمرود ببرهان نبوته فبهته ، قال الله تعالى : فبهت الذي كفر [ البقرة : 258 ] . قيل محمد صلى الله عليه وسلم أتاه المكذب بالبعث أبي بن خلف بعظم بال ففركه وقال : من يحيي العظام وهي رميم [ يس : 78 ] . فأنزل الله تعالى البرهان الساطع : قل يحييها الذي أنشأها أول مرة وهو بكل خلق عليم [ يس : 79 : ] فانصرف مبهوتا ببرهان [ ص: 342 ] نبوته . قلت : وهذا أقطع للحجة ، وهو استدلاله على المعاد بالبداءة ، فالذي خلق الخلق بعد أن لم يكونوا شيئا مذكورا قادر على إعادتهم ، كما قال : أوليس الذي خلق السماوات والأرض بقادر على أن يخلق مثلهم بلى وهو الخلاق العليم [ يس : 81 ] . أي يعيدهم كما بدأهم كما قال في الآية الأخرى : بقادر على أن يحيي الموتى [ الأحقاف : 33 ] . وقال : وهو الذي يبدأ الخلق ثم يعيده وهو أهون عليه [ الروم : 27 ] . هذا وأمر المعاد نظري لا فطري ، ضروري في قول الأكثرين ، فأما الذي حاج إبراهيم في ربه فإنه معاند مكابر ، فإن وجود الصانع مذكور في الفطر ، وكل واحد مفطور على ذلك ، إلا من تغيرت فطرته ، فيصير نظريا عنده ، وبعض المتكلمين يجعل وجود الصانع من باب النظر لا الضروريات ، وعلى كل تقدير فدعواه أنه هو الذي يحيي الموتى ويميت لا يقبله عقل ولا سمع ، وكل واحد يكذبه بعقله في ذلك ، ولهذا ألزمه إبراهيم بالإتيان بالشمس من المغرب إن كان كما ادعى : فبهت الذي كفر والله لا يهدي القوم الظالمين [ البقرة : 258 ] . وكان ينبغي أن يذكر مع هذا أن الله تعالى سلط محمدا صلى الله عليه وسلم على هذا المعاند لما بارز النبي صلى الله عليه وسلم يوم أحد ، فقتله بيده الكريمة ; طعنه بحربة فأصاب ترقوته فتدأدأ عن فرسه مرارا ، فقالوا له : ويحك ما لك ؟ ! فقال : والله إن بي لما لو كان بأهل ذي المجاز لماتوا أجمعين ، ألم يقل : " بل أنا أقتله ؟ " والله لو بصق علي لقتلني . وكان أبي هذا ، [ ص: 343 ] لعنه الله ، قد أعد فرسا وحربة ليقتل بها عليها رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فقال : " بل أنا أقتله إن شاء الله " . فكان كذلك يوم أحد .

ثم قال أبو نعيم : فإن قيل : فإن إبراهيم ، عليه السلام ، كسر أصنام قومه غضبا لله . قيل : فإن محمدا صلى الله عليه وسلم كسر ثلاثمائة وستين صنما نصبت حول الكعبة فأشار إليهن فتساقطن . ثم روي من طريق عبد الله العمري ، عن نافع ، عن ابن عمر قال : وقف رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم فتح مكة وحول البيت ثلاثمائة وستون صنما قد ألزقها الشيطان بالرصاص والنحاس ، فكان كلما دنا منها بمخصرته تهوي من غير أن يمسها ، ويقول : " جاء الحق وزهق الباطل ، إن الباطل كان زهوقا " . فتساقط لوجوهها ، ثم أمر بهن فأخرجن إلى المسيل ، وهذا أظهر وأجلى من الذي قبله ، وقد ذكرنا هذا في أول دخول النبي صلى الله عليه وسلم مكة عام الفتح بأسانيده وطرقه من الصحاح وغيرها ، بما فيه كفاية . وقد ذكر غير واحد من علماء السير أن الأصنام تساقطت أيضا ليلة مولده الكريم ، وهذا أبلغ وأقوى في المعجز من مباشرة كسرها ، وقد تقدم أن نار فارس التي كانوا يعبدونها خمدت أيضا ليلتئذ ، ولم تخمد قبل ذلك بألف عام ، وأنه سقط من شرفات قصر كسرى أربع عشرة شرفة ، مؤذنة بزوال دولتهم الكافرة بعد هلاك أربعة عشر من [ ص: 344 ] ملوكهم في أقصر مدة ، وكان لهم في الملك قريب من ثلاثة آلاف سنة .

وأما إحياء الطيور الأربعة لإبراهيم ، عليه السلام ، فلم يذكره أبو نعيم ولا ابن حامد ، وسيأتي في إحياء الموتى على يد عيسى ، عليه السلام ، ما وقع من المعجزات المحمدية من هذا النمط ما هو مثل ذلك وأعلى من ذلك ، كما سيأتي التنبيه عليه إذا انتهينا إليه ; من إحياء أموات بدعوات من أمته ، وحنين الجذع ، وتسليم الحجر والشجر والمدر عليه ، وتكليم الذراع له ، وغير ذلك . وأما قوله تعالى : وكذلك نري إبراهيم ملكوت السماوات والأرض وليكون من الموقنين [ الأنعام : 75 ] . والآيات بعدها ، فقد قال الله تعالى : سبحان الذي أسرى بعبده ليلا من المسجد الحرام إلى المسجد الأقصى الذي باركنا حوله لنريه من آياتنا إنه هو السميع البصير [ الإسراء : 1 ] . وقد ذكر ذلك ابن حامد فيما وقفت عليه بعد ، وقد ذكرنا في أحاديث الإسراء من كتابنا هذا ، ومن " التفسير " ما شاهده رسول الله صلى الله عليه وسلم ليلة أسري به من الآيات فيما بين مكة إلى بيت المقدس ، وفيما بين ذلك إلى سماء الدنيا ، ثم ما عاين من الآيات في السماوات السبع وما فوق ذلك ، وسدرة المنتهى ، وجنة المأوى ، والنار التي هي بئس المصير والمثوى . وقال عليه أفضل الصلاة والسلام في حديث المنام - وقد رواه أحمد والترمذي وصححه ، وغيرهما - : " فتجلى لي كل شيء وعرفت " .

وذكر ابن حامد في مقابلة ابتلاء الله يعقوب ، عليه السلام ، بفقد ولده [ ص: 345 ] يوسف ، عليه السلام ، وصبره واستعانته ربه ، عز وجل ، موت إبراهيم ابن رسول الله صلى الله عليه وسلم وصبره عليه‌‌ ، وقوله : " تدمع العين ويحزن القلب ، ولا نقول إلا ما يرضي ربنا ، وإنا بك يا إبراهيم لمحزونون " . قلت : وقد ماتت بناته الثلاثة ; رقية وأم كلثوم ، وزينب ، وقتل عمه حمزة أسد الله وأسد رسوله يوم أحد ، فصبر واحتسب .

وذكر في مقابلة حسن يوسف ، عليه السلام ، ما ذكر من جمال رسول الله صلى الله عليه وسلم ومهابته وحلاوته شكلا ونطقا وهديا ، ودلا وسمتا ، كما تقدم في شمائله من الأحاديث الدالة على ذلك ، كما قالت الربيع بنت معوذ : لو رأيته لرأيت الشمس طالعة .

وذكر في مقابلة ما ابتلي به يوسف ، عليه السلام ، من الفرقة والغربة ، هجرة رسول الله صلى الله عليه وسلم من مكة إلى المدينة ، ومفارقته وطنه وأهله وأصحابه الذين كانوا بها .

التالي السابق


الخدمات العلمية