صفحة جزء
القول فيما أوتي داود ، عليه السلام .

قال الله تعالى : واذكر عبدنا داود ذا الأيد إنه أواب إنا سخرنا الجبال معه يسبحن بالعشي والإشراق والطير محشورة كل له أواب [ ص : 17 - 19 ] . [ ص: 375 ] وقال تعالى : ولقد آتينا داود منا فضلا يا جبال أوبي معه والطير وألنا له الحديد أن اعمل سابغات وقدر في السرد واعملوا صالحا إني بما تعملون بصير [ سبأ : 10 ، 11 ] . وقد ذكرنا في قصته ، عليه السلام ، وفي " التفسير " طيب صوته ، عليه السلام ، وأن الله تعالى كان قد سخر له الطير تسبح معه ، وكانت الجبال أيضا تجيبه وتسبح معه ، وكان سريع القراءة ; كان يأمر بدوابه فتسرج فيقرأ الزبور بمقدار ما يفرغ من شأنها ثم يركب ، وكان لا يأكل إلا من كسب يده ، صلوات الله وسلامه عليه ، وقد كان نبينا صلى الله عليه وسلم حسن الصوت طيبه ; بتلاوة القرآن . قال جبير بن مطعم : قرأ رسول الله صلى الله عليه وسلم في المغرب بالتين والزيتون ، فما سمعت صوتا أطيب من صوته صلى الله عليه وسلم . وكان يقرأ ترتيلا كما أمره الله ، عز وجل ، بذلك . وأما تسبيح الطير مع داود ، فتسبيح الجبال الصم الجماد أعجب من ذلك ، وقد تقدم في الحديث أن الحصا سبح في كف رسول الله صلى الله عليه وسلم . قال ابن حامد : وهذا حديث معروف مشهور . وكانت الأحجار والأشجار والمدر تسلم عليه صلى الله عليه وسلم .

[ ص: 376 ] وفي " صحيح البخاري " ، عن ابن مسعود قال : لقد كنا نسمع تسبيح الطعام وهو يؤكل . يعني بين يدي النبي صلى الله عليه وسلم . وكلمه ذراع الشاة المسمومة ، وأعلمه بما فيه من السم ، وشهدت بنبوته الحيوانات الإنسية والوحشية ، والجمادات أيضا ، كما تقدم بسط ذلك كله ، ولا شك أن صدور التسبيح من الحصا الصغار الصم التي لا تجاويف فيها أعجب من صدور ذلك من الجبال ، لما فيها من التجاويف والكهوف ، فإنها وما شاكلها تردد صدى الأصوات العالية غالبا ، كما كان عبد الله بن الزبير إذا خطب - وهو أمير المؤمنين - بالحرم الشريف ، تجاوبه الجبال ; أبو قبيس وزرزر ، ولكن من غير تسبيح ، فإن ذلك من معجزات داود ، عليه السلام ، ومع هذا فتسبيح الحصا في كف رسول الله صلى الله عليه وسلم وأبي بكر وعمر وعثمان أعجب .

وقال أبو نعيم : فإن قيل : سخرت له الطير . فقد سخرت لرسول الله صلى الله عليه وسلم مع الطير البهائم العظيمة ; الإبل فما دونها ، وما هو أعسر وأصعب من الطير ; السباع العادية الضارية ، تتهيبه وتنقاد إلى طاعته ; كالبعير الشارد الذي سجد له ، والذئب الذي نطق بنبوته والتصديق بدعوته ورسالته . وقد تقدمت أسانيد ذلك كله .

[ ص: 377 ] وأما أكل داود من كسب يده ، فقد كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يأكل من كسبه أيضا ، كما كان يرعى غنما لأهل مكة على قراريط ، وقال : " ما من نبي إلا وقد رعى الغنم " . وخرج إلى الشام في تجارة لخديجة مضاربة ، وقال الله تعالى : وقالوا مال هذا الرسول يأكل الطعام ويمشي في الأسواق لولا أنزل إليه ملك فيكون معه نذيرا أو يلقى إليه كنز أو تكون له جنة يأكل منها وقال الظالمون إن تتبعون إلا رجلا مسحورا انظر كيف ضربوا لك الأمثال فضلوا فلا يستطيعون سبيلا إلى قوله : وما أرسلنا قبلك من المرسلين إلا إنهم ليأكلون الطعام ويمشون في الأسواق [ الفرقان : 7 - 20 ] . أي للتكسب والتجارة طلبا للربح الحلال . ثم لما شرع الله له الجهاد بالمدينة ، كان يأكل مما أباح له من المغانم التي لم تبح لنبي قبله ، ومما أفاء الله عليه من أموال الكفار التي أبيحت له دون غيره . كما جاء في " المسند " و " الترمذي " عن ابن عمر قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " بعثت بالسيف بين يدي الساعة حتى يعبد الله وحده لا شريك له ، وجعل رزقي تحت ظل رمحي ، وجعل الذلة والصغار على من خالف أمري ، ومن تشبه بقوم فهو منهم .

وأما إلانة الحديد لداود ، عليه السلام ، فقد كان من المعجزات الباهرات ; كان الحديد يلين في يديه من غير نار ، كما يلين العجين في يده ، فكان [ ص: 378 ] يصنع منه هذه الدروع الداودية ، وهي الزرديات السابغات ، وأمره الله تعالى بكيفية عملها : وقدر في السرد [ سبأ : 11 ] . أي ألا تدق المسمار فيقلق ، ولا تغلظه فيفصم ، كما جاء في البخاري . وقال تعالى : وعلمناه صنعة لبوس لكم لتحصنكم من بأسكم فهل أنتم شاكرون [ الأنبياء : 80 ] . وقد قال بعض الشعراء في معجزات النبوة :


نسج داود ما حمى صاحب الغا ر وكان الفخار للعنكبوت

والمقصود المعجز في إلانة الحديد ، وقد تقدم في السيرة عند ذكر حفر الخندق عام الأحزاب في سنة أربع - وقيل : خمس - أنهم عرضت لهم كدية ، وهي الصخرة في الأرض ، فلم يقدروا على كسرها ولا شيء منها ، فقام إليها رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وقد ربط حجرا على بطنه من شدة الجوع ، فضربها ثلاث ضربات ، لمعت الأولى حتى أضاءت له منها قصور الشام وبالثانية قصور فارس ، وبالثالثة قصور صنعاء ، ثم انثالت الصخرة كأنها كثيب أهيل من الرمل ، ولا شك أن لين الصخور التي لا تنفعل ولا بالنار أعجب من لين الحديد الذي إذا حمي لان ، كما قال بعضهم :

[ ص: 379 ]

فلو أن ما عالجت لين فؤادها     بنفسي للان الجدل والجندل الصخر

فلو أن شيئا أشد قسوة من الصخر لذكره هذا الشاعر المبالغ ، وقال الله تعالى : ثم قست قلوبكم من بعد ذلك فهي كالحجارة أو أشد قسوة الآية [ البقرة : 74 ] . وأما قوله تعالى قل كونوا حجارة أو حديدا أو خلقا مما يكبر في صدوركم [ الإسراء : 50 ، 51 ] ، فذاك الترقي لمعنى آخر ذكر في " التفسير " وحاصله أن الحديد أشد امتناعا في الساعة الراهنة من الحجر ما لم يعالج ، فإذا عولج انفعل الحديد ولا ينفعل الحجر . والله أعلم .

وقال أبو نعيم : فإن قيل : فقد لين الله لداود ، عليه السلام ، الحديد حتى سرد منه الدروع السوابغ . قيل : لينت لمحمد صلى الله عليه وسلم الحجارة وصم الصخور ، فعادت له غارا استتر به من المشركين يوم أحد ; مال برأسه إلى الجبل ليخفي شخصه عنهم ، فلين الله له الجبل حتى أدخل فيه رأسه ، وهذا أعجب ; لأن الحديد تلينه النار ، ولم نر النار تلين الحجر . قال : وذلك بعد ظاهر باق يراه الناس . قال : وكذلك في بعض شعاب مكة حجر من جبل أصم ، استروح في صلاته إليه ، فلان الحجر له حتى أثر فيه بذراعيه وساعديه ، [ ص: 380 ] وذلك مشهور يقصده الحجاج ويرونه ، وعادت الصخرة ليلة أسري به كهيئة العجين ، فربط بها دابته البراق ، يلمسه الناس ، إلى يومنا هذا باق .

وهذا الذي أشار إليه من يوم أحد وبعض شعاب مكة غريب جدا ، ولعله قد أسنده هو فيما سلف ، وليس ذلك بمعروف في السير المشهورة ، وأما ربط الدابة في الحجر فصحيح ، والذي ربطها جبريل كما هو في " صحيح مسلم " رحمه الله .

وأما قوله تعالى : وآتيناه الحكمة وفصل الخطاب [ ص : 20 ] . فقد كانت الحكمة التي أوتيها محمد صلى الله عليه وسلم والشرعة التي شرعت له أكمل من كل حكمة وشرعة كانت لمن قبله من الأنبياء ، صلوات الله عليه وعليهم أجمعين ، فإن الله جمع له محاسن من كان قبله ، وفضله ، وأكمل له وآتاه ما لم يؤت أحدا قبله ، وقد قال صلوات الله وسلامه عليه : " أوتيت جوامع الكلم ، واختصرت لي الحكمة اختصارا " . ولا شك أن العرب أفصح الأمم ، وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم أفصحهم نطقا ، وأجمع لكل خلق جميل مطلقا .

التالي السابق


الخدمات العلمية