صفحة جزء
[ ص: 272 ] أما إلياس ، عليه السلام

فقال الله تعالى ، بعد قصة موسى وهارون من سورة " الصافات " : وإن إلياس لمن المرسلين إذ قال لقومه ألا تتقون أتدعون بعلا وتذرون أحسن الخالقين الله ربكم ورب آبائكم الأولين فكذبوه فإنهم لمحضرون إلا عباد الله المخلصين وتركنا عليه في الآخرين سلام على إل ياسين إنا كذلك نجزي المحسنين إنه من عبادنا المؤمنين [ الصافات : 123 - 132 ] . قال علماء النسب : هو إلياس بن تسبي . ويقال : ابن ياسين بن فنحاص بن العيزار بن هارون . وقيل : إلياس بن العازر بن العيزار بن هارون بن عمران . قالوا : وكان إرساله إلى أهل بعلبك ، غربي دمشق ، فدعاهم إلى عبادة الله ، عز وجل ، وأن يتركوا عبادة صنم لهم ، كانوا يسمونه بعلا . وقيل : كانت امرأة اسمها بعل . والأول أصح . ولهذا قال لهم : ألا تتقون أتدعون بعلا وتذرون أحسن الخالقين الله ربكم ورب آبائكم الأولين فكذبوه وخالفوه ، وأرادوا قتله ، فيقال : إنه هرب منهم ، واختفى عنهم .

[ ص: 273 ] قال أبو يعقوب الأذرعي ، عن يزيد بن عبد الصمد ، عن هشام بن عمار ، قال : وسمعت من يذكر عن كعب الأحبار ، أنه قال : إن إلياس اختبأ من ملك قومه ، في الغار الذي تحت الدم ، عشر سنين ، حتى أهلك الله الملك ، وولى غيره ، فأتاه إلياس ، فعرض عليه الإسلام ، فأسلم ، وأسلم من قومه خلق عظيم ، غير عشرة آلاف منهم ، فأمر بهم فقتلوا عن آخرهم .

وقال ابن أبي الدنيا حدثني أبو محمد القاسم بن هاشم ، حدثنا عمر بن سعيد الدمشقي ، حدثنا سعيد بن عبد العزيز ، عن بعض مشيخة دمشق ، قال : أقام إلياس ، عليه السلام ، هاربا من قومه ، في كهف جبل ، عشرين ليلة ، أو قال : أربعين ليلة ، تأتيه الغربان برزقه .

وقال محمد بن سعد ، كاتب الواقدي : أنبأنا هشام بن محمد بن السائب الكلبي ، عن أبيه ، قال : أول نبي بعث إدريس ، ثم نوح ، ثم إبراهيم ، ثم إسماعيل وإسحاق ، ثم يعقوب ، ثم يوسف ، ثم لوط ، ثم هود ، ثم صالح ، ثم شعيب ، ثم موسى وهارون ، ابنا عمران ، ثم إلياس بن تسبي بن العازر بن هارون بن عمران بن قاهث بن لاوي بن يعقوب بن إسحاق بن إبراهيم ، عليهم السلام . هكذا قال ، وفي هذا الترتيب نظر . وقال مكحول عن كعب : [ ص: 274 ] أربعة أنبياء أحياء ، اثنان في الأرض : إلياس والخضر ، واثنان في السماء : إدريس وعيسى . وقد قدمنا قول من ذكر أن إلياس والخضر يجتمعان في كل عام في شهر رمضان ببيت المقدس ، وأنهما يحجان كل سنة ، ويشربان من زمزم شربة تكفيهما إلى مثلها من العام المقبل . وأوردنا الحديث الذي فيه أنهما يجتمعان بعرفات كل سنة ، وبينا أنه لم يصح شيء من ذلك ، وأن الذي يقوم عليه الدليل : أن الخضر مات ، وكذلك إلياس ، عليهما السلام . وما ذكره وهب بن منبه ، وغيره; أنه لما دعا ربه ، عز وجل ، أن يقبضه إليه لما كذبوه ، وآذوه ، فجاءته دابة لونها لون النار فركبها ، وجعل الله له ريشا ، وألبسه النور ، وقطع عنه لذة المطعم والمشرب ، وصار ملكيا بشريا ، سماويا أرضيا ، وأوصى إلى اليسع بن أخطوب ، ففي هذا نظر ، وهو من الإسرائيليات ، التي لا تصدق ولا تكذب ، بل الظاهر أن صحتها بعيدة . والله أعلم .

فأما الحديث الذي رواه الحافظ أبو بكر البيهقي : أخبرنا أبو عبد الله الحافظ ، حدثني أبو العباس أحمد بن سعيد المعداني ببخارى ، حدثنا عبد الله بن محمود ، حدثنا عبدان بن سنان ، حدثني أحمد بن عبد الله [ ص: 275 ] البرقي ، حدثنا يزيد بن يزيد البلوي ، حدثنا أبو إسحاق الفزاري ، عن الأوزاعي ، عن مكحول ، عن أنس بن مالك ، قال : كنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم في سفر ، فنزلنا منزلا ، فإذا رجل في الوادي يقول : اللهم اجعلني من أمة محمد صلى الله عليه وسلم المرحومة ، المغفورة ، المثاب لها . قال : فأشرفت على الوادي ، فإذا رجل طوله أكثر من ثلاثمائة ذراع ، فقال لي : من أنت؟ قلت : أنس بن مالك ، خادم رسول الله صلى الله عليه وسلم . قال : فأين هو؟ قلت : هو ذا يسمع كلامك . قال : فأته فأقرئه السلام ، وقل له : أخوك إلياس يقرئك السلام . قال : فأتيت النبي صلى الله عليه وسلم فأخبرته فجاء حتى لقيه ، فعانقه وسلم ، ثم قعدا يتحدثان ، فقال له : يا رسول الله ، إني ما آكل في سنة إلا يوما ، وهذا يوم فطري ، فآكل أنا وأنت . قال : فنزلت عليهما مائدة من السماء عليها خبز ، وحوت ، وكرفس ، فأكلا وأطعماني ، وصلينا العصر ، ثم ودعه ، ورأيته مر في السحاب نحو السماء . فقد كفانا البيهقي أمره وقال : هذا حديث ضعيف بمرة . والعجب أن الحاكم أبا عبد الله النيسابوري أخرجه في " مستدركه على الصحيحين " ، وهذا مما يستدرك به على " المستدرك " ، فإنه حديث موضوع ، مخالف للأحاديث الصحاح ، من وجوه . ومعناه لا يصح أيضا ، فقد تقدم في " الصحيحين " ، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم ، قال : إن الله خلق آدم طوله ستون ذراعا في السماء إلى أن قال : ثم لم يزل الخلق ينقص ، حتى الآن وفيه أنه لم يأت إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى كان هو الذي ذهب إليه . وهذا لا يصح; لأنه [ ص: 276 ] كان أحق بالسعي إلى بين يدي خاتم الأنبياء . وفيه أنه يأكل في السنة مرة ، وقد تقدم عن وهب أنه سلبه الله لذة المطعم والمشرب ، وفيما تقدم عن بعضهم أنه يشرب من زمزم كل سنة شربة تكفيه إلى مثلها من الحول الآخر . وهذه أشياء متعارضة ، وكلها باطلة لا يصح شيء منها .

وقد ساق ابن عساكر هذا الحديث من طريق أخرى ، واعترف بضعفها وهذا عجب منه ، كيف تكلم عليه ، فإنه أورده من طريق خير بن عرفة ، عن هانئ بن الحسن ، عن بقية ، عن الأوزاعي ، عن مكحول ، عن واثلة بن الأسقع ، فذكر نحو هذا مطولا ، وفيه أن ذلك كان في غزوة تبوك ، وأنه بعث إليه رسول الله صلى الله عليه وسلم ، أنس بن مالك ، وحذيفة بن اليمان ، قالا : فإذا هو أعلى جسما منا بذراعين أو ثلاثة ، واعتذر بعدم قدومه لئلا تنفر الإبل . وفيه أنه لما اجتمع به رسول الله صلى الله عليه وسلم أكلا من طعام الجنة ، وقال : إن لي في كل أربعين يوما أكلة ، وفي المائدة خبز ، ورمان ، وعنب ، وموز ، ورطب ، وبقل ، ما عدا الكراث . وفيه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم سأله عن الخضر ، فقال : عهدي به عام أول ، وقال لي : إنك ستلقاه قبلي فأقرئه مني السلام . وهذا يدل على أن الخضر وإلياس ، بتقدير وجودهما وصحة هذا الحديث ، لم يجتمعا [ ص: 277 ] به إلى سنة تسع من الهجرة ، وهذا لا يسوغ شرعا ، وهذا موضوع أيضا . وقد أورد ابن عساكر طرقا في من اجتمع بإلياس من العباد ، وكلها لا يفرح بها; لضعف إسنادها أو لجهالة المسند إليه فيها . ومن أحسنها ما قال أبو بكر بن أبي الدنيا ، حدثني بشر بن معاذ ، حدثنا حماد بن واقد ، عن ثابت ، قال : كنا مع مصعب بن الزبير بسواد الكوفة ، فدخلت حائطا أصلي فيه ركعتين ، فافتتحت حم تنزيل الكتاب من الله العزيز العليم غافر الذنب وقابل التوب شديد العقاب ذي الطول [ غافر : 1 - 3 ] . فإذا رجل من خلفي على بغلة شهباء ، عليه مقطعات يمنية ، فقال لي : إذا قلت : غافر الذنب فقل : يا غافر الذنب اغفر لي ذنبي . وإذا قلت : قابل التوب فقل : يا قابل التوب تقبل توبتي . وإذا قلت : شديد العقاب فقل : يا شديد العقاب لا تعاقبني . وإذا قلت : ذي الطول فقل : يا ذا الطول تطول علي برحمة . فالتفت فإذا لا أحد ، وخرجت فسألت : مر بكم رجل على بغلة شهباء ، عليه مقطعات يمنية؟ فقالوا : ما مر بنا أحد . فكانوا لا يرون إلا أنه إلياس . وقوله تعالى : فكذبوه فإنهم لمحضرون أي; للعذاب; إما في الدنيا والآخرة ، وإما في الآخرة ، والأول أظهر على ما ذكره المفسرون والمؤرخون . وقوله : إن هذا لهو الفوز العظيم أي; إلا من آمن منهم ، وقوله : وتركنا عليه في الآخرين أي; أبقينا بعده ذكرا حسنا له في [ ص: 278 ] العالمين فلا يذكر إلا بخير ، ولهذا قال : سلام على إل ياسين أي; سلام على إلياس . والعرب تلحق النون في أسماء كثيرة ، وتبدلها من غيرها ، كما قالوا : إسماعيل وإسماعين ، وإسرائيل وإسرائين ، وإلياس وإلياسين . ومن قرأ ( سلام على آل ياسين ) أي; على آل محمد ، وقرأ ابن مسعود وغيره : ( سلام على إدراسين ) . ونقل عنه من طريق إسحاق عن عبيدة بن ربيعة ، عن ابن مسعود ، أنه قال : إلياس هو إدريس . وإليه ذهب الضحاك بن مزاحم ، وحكاه قتادة ، ومحمد بن إسحاق ، والصحيح أنه غيره ، كما تقدم ، والله تعالى أعلم بالصواب .

التالي السابق


الخدمات العلمية