صفحة جزء
[ ص: 585 ] فصل دمشق ; هل فتحت صلحا أو عنوة .

واختلف العلماء في دمشق ; هل فتحت صلحا أو عنوة ؟ فأكثر العلماء على أنه استقر أمرها على الصلح ; لأنهم شكوا في المتقدم على الآخر ; أفتحت عنوة ثم عدل الروم إلى المصالحة ، أو فتحت صلحا واتفق الاستيلاء من الجانب الآخر قسرا ؟ فلما شكوا في ذلك جعلوها صلحا احتياطا . وقيل : بل جعل نصفها صلحا ونصفها عنوة . وهذا القول قد يظهر من صنع الصحابة في الكنيسة العظمى التي كانت أكبر معابدهم ، حين أخذوا نصفها وتركوا لهم نصفها . والله أعلم .

ثم قيل : إن أبا عبيدة هو الذي كتب لهم كتاب الصلح ، وهذا هو الأنسب والأشهر ، فإن خالدا كان قد عزل عن الإمرة . وقيل : بل الذي كتب لهم الصلح خالد بن الوليد ، ولكن أقره على ذلك أبو عبيدة . فالله أعلم .

وذكر أبو حذيفة إسحاق بن بشر أن الصديق توفي قبل فتح دمشق ، وأن عمر كتب إلى أبي عبيدة يعزيه والمسلمين في الصديق ، وأنه قد استنابه على من بالشام ، وأمره أن يستشير خالدا في الحرب ، فلما وصل الكتاب إلى أبي عبيدة كتمه من خالد حتى فتحت دمشق بنحو من عشرين ليلة ، فقال له خالد : يرحمك الله ، ما منعك أن تعلمني حين جاءك ؟ فقال : إني كرهت أن أكسر عليك حربك ، وما سلطان الدنيا أريد ، ولا للدنيا أعمل ، وما ترى سيصير إلى زوال وانقطاع ، وإنما نحن إخوان ، وما يضر الرجل أن يليه أخوه في دينه ولا دنياه .

[ ص: 586 ] ومن أعجب ما يذكر ها هنا ما رواه يعقوب بن سفيان الفسوي ، حدثنا هشام بن عمار ، ثنا عبد الملك بن محمد ، ثنا راشد بن داود الصنعاني ، حدثني أبو عثمان الصنعاني شراحيل بن مرثد ، قال : بعث أبو بكر خالد بن الوليد إلى أهل اليمامة ، وبعث يزيد بن أبي سفيان إلى الشام . فذكر الراوي قتال خالد لأهل اليمامة إلى أن قال : ومات أبو بكر واستخلف عمر ، فبعث أبا عبيدة إلى الشام فقدم دمشق فاستمد أبو عبيدة عمر ، فكتب عمر إلى خالد بن الوليد أن يسير إلى أبي عبيدة بالشام فذكر مسير خالد من العراق إلى الشام كما تقدم . وهذا غريب جدا ، فإن الذي لا يشك فيه أن الصديق هو الذي بعث أبا عبيدة وغيره من الأمراء إلى الشام ، وهو الذي كتب إلى خالد بن الوليد أن يقدم من العراق إلى الشام ليكون مددا لمن به وأميرا عليهم ، ففتح الله تعالى عليه وعلى يديه جميع الشام على ما سنذكره إن شاء الله تعالى .

وقال محمد بن عائذ : قال الوليد بن مسلم : أخبرني صفوان بن عمرو ، عن عبد الرحمن بن جبير بن نفير ، أن المسلمين لما افتتحوا مدينة دمشق بعثوا أبا عبيدة بن الجراح وافدا إلى أبي بكر بشيرا بالفتح ، فقدم المدينة فوجد أبا بكر قد توفي ، واستخلف عمر بن الخطاب ، فأعظم أن يتأمر أحد من الصحابة عليه ، فولاه جماعة الناس فقدم عليهم فقالوا : مرحبا بمن بعثناه بريدا فقدم علينا أميرا .

وقد روى الليث وابن لهيعة وحيوة بن شريح ومفضل بن فضالة وعمرو بن [ ص: 587 ] الحارث وغير واحد ، عن يزيد بن أبي حبيب ، عن عبد الله بن الحكم ، عن علي بن رباح ، عن عقبة بن عامر ، أنه بعثه أبو عبيدة بريدا بفتح دمشق . قال : فقدمت على عمر يوم الجمعة فقال لي : منذ كم لم تنزع خفيك ؟ فقلت : من يوم الجمعة وهذا يوم الجمعة . فقال : أصبت السنة . قال الليث : وبه نأخذ . يعني أن المسح على الخفين للمسافر لا يتأقت ، بل له أن يمسح عليهما ما شاء ، وإليه ذهب الشافعي في القديم . وقد روى أحمد وأبو داود عن أبي بن عمارة مرفوعا مثل هذا ، والجمهور على ما رواه مسلم عن علي في تأقيت المسح ; للمسافر ثلاثة أيام ولياليهن ، وللمقيم يوم وليلة . ومن الناس من فصل بين البريد ومن في معناه وغيره ، فقال في الأول : لا يتأقت . وفيما عداه : يتأقت ; لحديث عقبة وحديث علي . والله أعلم .

التالي السابق


الخدمات العلمية