صفحة جزء
[ ص: 68 ] ثم دخلت سنة ثماني عشرة

المشهور الذي عليه الجمهور أن طاعون عمواس كان بها ، وقد تبعنا قول سيف بن عمر ، و ابن جرير في إيراده ذلك في السنة التي قبلها ، لكنا نذكر وفاة من مات في الطاعون في هذه السنة ، إن شاء الله تعالى .

قال ابن إسحاق ، وأبو معشر : كان في هذه السنة طاعون عمواس وعام الرمادة ، فتفانى فيها الناس .

قلت : كان في عام الرمادة جدب عم أرض الحجاز ، وجاع الناس جوعا شديدا ، وقد بسطنا القول في ذلك في " سيرة عمر " . وسميت عام الرمادة لأن الأرض اسودت من قلة المطر ، حتى عاد لونها شبيها بالرماد . وقيل : لأنها كانت تسفي الريح ترابا كالرماد . ويمكن أن تكون سميت لكل منهما ، والله أعلم .

وقد أجدب الناس في هذه السنة بأرض الحجاز ، وجفلت الأحياء إلى المدينة ولم يبق عند أحد منهم زاد ، فلجئوا إلى أمير المؤمنين فأنفق فيهم من حواصل بيت المال مما فيه من الأطعمة والأموال حتى أنفده ، وألزم نفسه أن لا يأكل سمنا ولا [ ص: 69 ] سمينا حتى يكشف ما بالناس ، فكان في زمن الخصب يبس له الخبز باللبن والسمن ، ثم كان عام الرمادة يبس له بالزيت والخل ، وكان يستمرئ الزيت ، وكان لا يشبع مع ذلك ، فاسود لون عمر ، رضي الله عنه ، وتغير جسمه حتى كاد يخشى عليه من الضعف . واستمر هذا الحال في الناس تسعة أشهر ، ثم تحول الحال إلى الخصب والدعة ، وانشمر الناس عن المدينة إلى أماكنهم .

قال الشافعي : بلغني أن رجلا من العرب قال لعمر حين ترحل الأحياء عن المدينة : لقد انجلت عنك وإنك لابن حرة . أي : واسيت الناس وأنصفتهم وأحسنت إليهم . وقد روينا أن عمر عس المدينة ذات ليلة في عام الرمادة فلم يجد أحدا يضحك ، ولا يتحدث الناس في منازلهم على العادة ، ولم يجد سائلا يسأل ، فسأل عن سبب ذلك ، فقيل له : يا أمير المؤمنين ، إن السؤال سألوا فلم يعطوا فقطعوا السؤال ، والناس في هم وضيق ، فهم لا يتحدثون ولا يضحكون . فكتب عمر إلى أبي موسى بالبصرة : أن يا غوثاه لأمة محمد . وكتب إلى عمرو بن العاص بمصر : أن يا غوثاه لأمة محمد . فبعث إليه كل واحد منهما بقافلة عظيمة تحمل البر وسائر الأطعمات ، ووصلت ميرة عمرو في البحر إلى جدة ومن جدة إلى مكة . وهذا الأثر جيد الإسناد ، لكن ذكر عمرو بن العاص في عام الرمادة مشكل ؛ فإن مصر لم تكن فتحت في سنة ثماني عشرة ، فإما أن يكون عام الرمادة بعد سنة ثماني عشرة ، أو يكون ذكر عمرو بن العاص في عام الرمادة وهما ، والله أعلم .

[ ص: 70 ] وذكر سيف عن شيوخه ، أن أبا عبيدة قدم المدينة ومعه أربعة آلاف راحلة تحمل طعاما ، فأمره عمر بتفرقتها في الأحياء حول المدينة فلما فرغ من ذلك أمر له عمر بأربعة آلاف درهم ، فأبى أن يقبلها ، فألح عليه عمر حتى قبلها .

وذكر ابن جرير في هذه السنة من طريق سيف بن عمر ، عن أبي المجالد ، والربيع ، وأبي عثمان وأبي حارثة ، وعن عبد الله بن شبرمة ، عن الشعبي ، قالوا : كتب أبو عبيدة إلى عمر بن الخطاب : إن نفرا من المسلمين أصابوا الشراب - منهم ضرار وأبو جندل بن سهيل - فسألناهم فقالوا : خيرنا فاخترنا ؛ قال : فهل أنتم منتهون [ المائدة : 91 ] . ولم يعزم علينا . فجمع عمر الناس فأجمعوا على خلافهم ، وأن المعنى في قوله : فهل أنتم منتهون أي : انتهوا . وأجمعوا على جلدهم ثمانين ثمانين ، وأن من تأول هذا التأويل وأصر عليه يقتل . فكتب عمر إلى أبي عبيدة ؛ أن ادعهم فسلهم عن الخمر ؛ فإن قالوا : هي حلال . فاقتلهم ، وإن قالوا : هي حرام . فاجلدهم . فاعترف القوم بتحريمها ، فجلدوا الحد وندموا على ما كان منهم من اللجاجة فيما تأولوه ، حتى وسوس أبو جندل في نفسه ، فكتب أبو عبيدة إلى عمر في [ ص: 71 ] ذلك ، وسأله أن يكتب إلى أبي جندل ويذكره ، فكتب إليه عمر بن الخطاب في ذلك : من عمر إلى أبي جندل ، إن الله لا يغفر أن يشرك به ويغفر ما دون ذلك لمن يشاء [ النساء : 48 ] . فتب وارفع رأسك وابرز ولا تقنط ، فإن الله تعالى يقول قل يا عبادي الذين أسرفوا على أنفسهم لا تقنطوا من رحمة الله إن الله يغفر الذنوب جميعا إنه هو الغفور الرحيم [ الزمر : 53 ] . وكتب عمر إلى الناس أن عليكم أنفسكم ، ومن غير فغيروا عليه ، ولا تعيروا أحدا فيفشو فيكم البلاء . وقد قال أبو الزهراء القشيري في ذلك :


ألم تر أن الدهر يعثر بالفتى وليس على صرف المنون بقادر     صبرت ولم أجزع وقد مات إخوتي
ولست عن الصهباء يوما بصابر     رماها أمير المؤمنين بحتفها
فخلانها يبكون حول المعاصر

قال سيف بن عمرو ، عن سهل بن يوسف السلمي ، عن عبد الرحمن بن كعب بن مالك ، قال : كان عام الرمادة في آخر سنة سبع عشرة ، وأول سنة ثماني عشرة ، أصاب أهل المدينة وما حولها جوع فهلك كثير من الناس ، حتى جعلت الوحش تأوي إلى الإنس . فكان الناس كذلك وعمر كالمحصور عن [ ص: 72 ] أهل الأمصار ، حتى أقبل بلال بن الحارث المزني فاستأذن على عمر ، فقال : أنا رسول رسول الله صلى الله عليه وسلم إليك ، يقول لك رسول الله ، صلى الله عليه وسلم ، : " لقد عهدتك كيسا ، وما زلت على ذلك ، فما شأنك ؟ " . قال : متى رأيت هذا ؟ قال : البارحة . فخرج فنادى في الناس : الصلاة جامعة . فصلى بهم ركعتين ، ثم قام فقال : أيها الناس أنشدكم الله هل تعلمون مني أمرا غيره خيرا منه ؟ قالوا : اللهم لا . فقال : إن بلال بن الحارث يزعم ذيت وذيت . فقالوا : صدق بلال ، فاستغث بالله ثم بالمسلمين . فبعث إليهم - وكان عمر عن ذلك محصورا - فقال عمر : الله أكبر ، بلغ البلاء مدته فانكشف ، ما أذن لقوم في الطلب إلا وقد رفع عنهم البلاء . وكتب إلى أمراء الأمصار أن أعينوا أهل المدينة ومن حولها ، فإنه قد بلغ جهدهم . وأخرج الناس إلى الاستسقاء ، فخرج وخرج معه العباس بن عبد المطلب ماشيا ، فخطب وأوجز وصلى ، ثم جثى لركبتيه وقال : اللهم إياك نعبد وإياك نستعين ، اللهم اغفر لنا وارحمنا وارض عنا . ثم انصرف فما بلغوا المنازل راجعين حتى خاضوا الغدران .

ثم روى سيف ، عن مبشر بن الفضيل ، عن جبير بن صخر ، عن [ ص: 73 ] عاصم بن عمر بن الخطاب ، أن رجلا من مزينة عام الرمادة سأله أهله أن يذبح لهم شاة ، فقال : ليس فيهن شيء . فألحوا عليه فذبح شاة ، فإذا عظامها حمر ، فقال : يا محمداه . فلما أمسى أري في المنام أن رسول الله ، صلى الله عليه وسلم ، يقول له : " أبشر بالحيا ، ائت عمر فأقرئه مني السلام وقل له : إن عهدي بك وفي العهد ، شديد العقد ، فالكيس الكيس يا عمر " . فجاء حتى أتى باب عمر فقال لغلامه : استأذن لرسول رسول الله ، صلى الله عليه وسلم ، . فأتى عمر فأخبره ففزع ، ثم صعد عمر المنبر فقال للناس : أنشدكم بالذي هداكم للإسلام ، هل رأيتم مني شيئا تكرهونه ؟ فقالوا : اللهم لا ، وعم ذاك ؟ فأخبرهم بقول المزني - وهو بلال بن الحارث - ففطنوا ولم يفطن . فقالوا : إنما استبطأك في الاستسقاء فاستسق بنا . فنادى في الناس ، فخطب فأوجز ، ثم صلى ركعتين فأوجز ، ثم قال : اللهم عجزت عنا أنصارنا ، وعجز عنا حولنا وقوتنا ، وعجزت عنا أنفسنا ، ولا حول ولا قوة إلا بك ، اللهم فاسقنا وأحي العباد والبلاد .

وقال الحافظ أبو بكر البيهقي : أخبرنا أبو نصر بن قتادة وأبو بكر الفارسي قالا : حدثنا أبو عمرو بن مطر ، حدثنا إبراهيم بن علي الذهلي ، حدثنا يحيى بن يحيى ، حدثنا أبو معاوية ، عن الأعمش ، عن أبي صالح ، عن مالك قال : أصاب الناس قحط في زمان عمر بن الخطاب ، فجاء رجل إلى قبر النبي [ ص: 74 ] ، صلى الله عليه وسلم ، ، فقال : يا رسول الله استسق الله لأمتك فإنهم قد هلكوا . فأتاه رسول الله ، صلى الله عليه وسلم ، في المنام ، فقال : " ائت عمر فأقرئه مني السلام وأخبره أنكم مسقون ، وقل له عليك الكيس الكيس " . فأتى الرجل فأخبر عمر فقال : يا رب ما آلو إلا ما عجزت عنه . وهذا إسناد صحيح .

وقال الطبراني : حدثنا أبو مسلم الكشي ، ثنا محمد بن عبد الله الأنصاري ، ثنا أبي ، عن ثمامة بن عبد الله بن أنس ، عن أنس أن عمر ، رضي الله عنه ، خرج يستسقي وخرج بالعباس معه يستسقي ، فيقول : اللهم إنا كنا إذا قحطنا على عهد نبينا توسلنا إليك بنبينا ، وإنا نتوسل إليك بعم نبينا ، صلى الله عليه وسلم ، . وقد رواه البخاري ، عن الحسن بن محمد ، عن محمد بن عبد الله الأنصاري ، به ، ولفظه : عن أنس ، أن عمر كان إذا قحطوا يستسقي بالعباس بن عبد المطلب ، فيقول : اللهم إنا كنا نتوسل إليك بنبينا فتسقينا ، وإنا نتوسل إليك بعم نبينا فاسقنا . قال : فيسقون . وقال أبو بكر بن أبي الدنيا في " كتاب المطر " ، وفي كتاب " مجابي الدعوة " : حدثنا أبو بكر الشيباني ، ثنا عطاء بن [ ص: 75 ] مسلم عن العمري ، عن خوات بن جبير ، قال : خرج عمر يستسقي بهم فصلى ركعتين ، فقال : اللهم إنا نستغفرك ونستسقيك . فما برح من مكانه حتى مطروا ، فقدم أعراب فقالوا : يا أمير المؤمنين بينا نحن بوادينا في ساعة كذا إذ أظلتنا غمامة فسمعنا منها صوتا : أتاك الغوث أبا حفص ، أتاك الغوث أبا حفص . وقال ابن أبي الدنيا ثنا إسحاق بن إسماعيل ، ثنا سفيان ، عن مطرف بن طريف ، عن الشعبي قال : خرج عمر يستسقي بالناس فما زاد على الاستغفار حتى رجع ، فقالوا : يا أمير المؤمنين ، ما نراك استسقيت . فقال : لقد طلبت المطر بمجاديح السماء التي يستنزل بها المطر ، ثم قرأ : استغفروا ربكم إنه كان غفارا يرسل السماء عليكم مدرارا ثم قرأ : وأن استغفروا ربكم ثم توبوا إليه [ هود : 3 ] .

قال الواقدي ، وغيره : وفي هذه السنة في ذي الحجة منها حول عمر المقام ، وكان ملصقا بجدار الكعبة ، فأخره إلى حيث هو الآن ؛ لئلا يشوش المصلون عنده على الطائفين . قلت : وقد ذكرت أسانيد ذلك في " سيرة عمر " . ولله الحمد والمنة . قال : وفيها استقضى عمر شريحا على الكوفة وكعب بن [ ص: 76 ] سور على البصرة . قال : وفيها حج عمر بالناس ، وكانت نوابه فيها الذين تقدم ذكرهم في السنة الماضية . قال : وفيها فتحت الرقة والرها وحران على يدي عياض بن غنم قال : وفتحت رأس عين الوردة على يدي عمر بن سعد بن أبي وقاص وقال غيره خلاف ذلك .

وقال شيخنا الحافظ الذهبي في تاريخه : وفيها - يعني هذه السنة - افتتح أبو موسى الأشعري الرها وسميساط عنوة ، وفي أوائلها وجه أبو عبيدة عياض بن غنم إلى الجزيرة فوافق أبا موسى ، فافتتحا حران ونصيبين وطائفة من الجزيرة عنوة ، وقيل : صلحا . وفيها سار عياض إلى الموصل فافتتحها وما حولها عنوة . وفيها بنى سعد جامع الكوفة .

وقال الواقدي : وفيها كان طاعون عمواس فمات فيه خمسة وعشرون ألفا . قلت : هذا الطاعون منسوب إلى بليدة صغيرة يقال لها : عمواس . وهي بين القدس والرملة ، لأنها كان أول ما نجم هذا الداء بها ، ثم انتشر في الشام منها فنسب إليها ، فإنا لله وإنا إليه راجعون . قال الواقدي : توفي في عام طاعون عمواس من المسلمين بالشام خمسة وعشرون ألفا . وقال غيره : ثلاثون ألفا .

التالي السابق


الخدمات العلمية