صفحة جزء
[ ص: 270 ] ثم دخلت سنة خمس وثلاثين ففيها مقتل عثمان بن عفان ، رضي الله عنه

وكان السبب في ذلك أن عمرو بن العاص حين عزله عثمان عن مصر وولى عليها عبد الله بن سعد بن أبي سرح . وكان سبب ذلك أن الخوارج من المصريين كانوا محصورين من عمرو بن العاص ، مقهورين معه لا يستطيعون أن يتكلموا بسوء في خليفة ولا أمير ، فما زالوا يعملون عليه حتى شكوه إلى عثمان ؛ لينزعه عنهم ويولي عليهم من هو ألين منه ، فلم يزل ذلك دأبهم حتى عزل عمرا عن الحرب وتركه على الصلاة ، وولى على الحرب والخراج عبد الله بن سعد بن أبي سرح ، ثم سعوا فيما بينهما بالنميمة فوقع بينهما ، حتى كان بينهما كلام قبيح ، فأرسل عثمان فجمع لابن أبي سرح جميع عمالة مصر ؛ خراجها وحربها وصلاتها ، وبعث إلى عمرو يقول له : لا خير لك في المقام عند من يكرهك ، فاقدم إلي . فانتقل عمرو بن العاص إلى المدينة وفي نفسه من عثمان أمر عظيم ، وشر كبير ، فكلمه فيما كان من أمره بنفس ، وتقاولا في ذلك ، وافتخر عمرو بن العاص بأبيه على أبي عثمان ، وأنه كان أعز منه ، فقال له عثمان : دع هذا فإنه من أمر الجاهلية . وجعل عمرو بن العاص يؤلب الناس على [ ص: 271 ] عثمان . وكان بمصر جماعة يبغضون عثمان ويتكلمون فيه بكلام قبيح - على ما قدمنا - وينقمون عليه في عزله جماعة من علية الصحابة ، وتوليته من دونهم أو من لا يصلح عندهم للولاية . وكره أهل مصر عبد الله بن سعد بن أبي سرح بعد عمرو بن العاص ، واشتغل عبد الله بن سعد عنهم بقتال أهل المغرب وفتحه بلاد البربر والأندلس وإفريقية .

ونشأ بمصر طائفة من أبناء الصحابة يؤلبون الناس على حربه والإنكار عليه ، وكان عظم ذلك مسندا إلى محمد بن أبي بكر ومحمد بن أبي حذيفة ، حتى استنفرا نحوا من ستمائة راكب يذهبون إلى المدينة في صفة معتمرين في شهر رجب ؛ لينكروا على عثمان ، فساروا إليها تحت أربع رفاق ، وأمر الجميع إلى أبي عمرو بن بديل بن ورقاء الخزاعي ، وعبد الرحمن بن عديس البلوي ، وكنانة بن بشر التجيبي ، وسودان بن حمران السكوني ، وأقبل معهم محمد بن أبي بكر ، وأقام بمصر محمد بن أبي حذيفة يؤلب الناس ويدافع عن هؤلاء ، وكتب عبد الله بن سعد بن أبي سرح إلى عثمان يعلمه بقدوم هؤلاء القوم إلى المدينة منكرين عليه في صفة معتمرين ، فلما اقتربوا من المدينة أمر عثمان علي بن أبي طالب أن يخرج إليهم ؛ ليردهم إلى بلادهم قبل أن يدخلوا المدينة . ويقال : بل ندب الناس إليهم فانتدب علي ، رضي الله عنه ، [ ص: 272 ] لذلك فبعثه وخرج معه جماعة الأشراف وأمره أن يأخذ معه عمار بن ياسر ، فقال علي لعمار فأبى عمار أن يخرج معه ، فبعث عثمان سعد بن أبي وقاص أن يذهب إلى عمار ليحرضه على الخروج مع علي إليهم ، فأبى عمار كل الإباء ، وامتنع أشد الامتناع ، وكان متغضبا على عثمان بسبب تأديبه له على أمر ، وضربه إياه في ذلك ، وذلك بسبب شتمه عباس بن عتبة بن أبي لهب ، فأدبهما عثمان ، فتآمر عمار عليه لذلك ، وجعل يحرض الناس عليه ، فنهاه سعد بن أبي وقاص عن ذلك ولامه عليه ، فلم يقلع عنه ولم يرجع ولم ينزع ، فانطلق علي بن أبي طالب إليهم وهم بالجحفة ، وكانوا يعظمونه ويبالغون في أمره ، فردهم وأنبهم وشتمهم ، فرجعوا على أنفسهم بالملامة ، وقالوا : هذا الذي تحاربون الأمير بسببه ، وتحتجون عليه به . ويقال : إنه ناظرهم في عثمان ، وسألهم ماذا ينقمون عليه ؟ فذكروا أشياء ؛ منها أنه حمى الحمى ، وأنه حرق المصاحف ، وأنه أتم الصلاة ، وأنه ولى الأحداث الولايات ، وترك الصحابة الأكابر ، وأعطى بني أمية أكثر من الناس ، فأجاب علي عن ذلك فقال : أما الحمى فإنما حماه لإبل الصدقة لتسمن ، ولم يحمه لإبله ولا لغنمه ، وقد حماه عمر من قبله ، وأما المصاحف فإنما حرق ما وقع فيه اختلاف ، وأبقى لهم المتفق عليه ، كما ثبت في العرضة الأخيرة ، وأما إتمامه الصلاة بمكة فإنه كان قد تأهل بها ونوى الإقامة [ ص: 273 ] فأتمها ، وأما توليته الأحداث فلم يول إلا رجلا سويا عدلا ، وقد ولى رسول الله ، صلى الله عليه وسلم ، عتاب بن أسيد على مكة وهو ابن عشرين سنة ، وولى أسامة بن زيد بن حارثة وطعن الناس في إمارته فقال : إنه لخليق للإمارة . وأما إيثاره قومه بني أمية فقد كان رسول الله ، صلى الله عليه وسلم ، يؤثر قريشا على الناس ، ووالله لو أن مفتاح الجنة بيدي لأدخلت بني أمية إليها .

ويقال : إنهم عتبوا عليه في عمار ومحمد بن أبي بكر . فذكر عثمان عذره في ذلك ، وأنه أقام فيهما ما كان يجب عليهما . وعتبوا عليه في إيوائه الحكم بن أبي العاص ، وقد نفاه رسول الله ، صلى الله عليه وسلم ، إلى الطائف فذكر أن رسول الله ، صلى الله عليه وسلم ، كان قد نفاه إلى الطائف ثم رده ، ثم نفاه إليها ، قال : فقد نفاه رسول الله ، صلى الله عليه وسلم ، ثم رده .

وروي أن عثمان خطب الناس بهذا كله بمحضر من الصحابة ، وجعل يستشهد بهم فيشهدون له فيما فيه شهادة له . ويروى أنهم بعثوا طائفة منهم فشهدوا خطبة عثمان هذه ، فلما تمهدت الأعذار وانزاحت عللهم ولم يبق لهم شبهة أشار جماعة من الصحابة على عثمان بتأديبهم ، فصفح عنهم وتركهم ، رضي الله عنه ، وردهم إلى قومهم ، فرجعوا خائبين من حيث أتوا ولم ينالوا شيئا مما كانوا أملوا وراموا ، ورجع علي إلى عثمان فأخبره برجوعهم عنه وسماعهم منه ، وأشار على عثمان أن يخطب الناس خطبة يعتذر إليهم فيها مما كان وقع من الأثرة لبعض أقاربه ، ويشهدهم عليه بأنه قد تاب من ذلك ، وأناب إلى الاستمرار على ما كان عليه من سيرة الشيخين [ ص: 274 ] قبله ، وأنه لا يحيد عنها كما كان الأمر أولا في مدة ست سنين الأول ، فاستمع عثمان هذه النصيحة ، وقابلها بالسمع والطاعة ، ولما كان يوم الجمعة وخطب الناس ، رفع يديه في أثناء الخطبة ، وقال : اللهم إني أستغفرك وأتوب إليك ، اللهم إني أول تائب مما كان مني . وأرسل عينيه بالبكاء فبكى المسلمون أجمعون وحصل للناس رقة شديدة على إمامهم ، وأشهد عثمان الناس على نفسه بذلك ، وأنه قد لزم ما كان عليه الشيخان أبو بكر وعمر ، رضي الله عنهما ، وأنه قد سبل بابه لمن أراد الدخول عليه ، لا يمنع أحدا من ذلك ، ونزل فصلى بالناس ، ثم دخل منزله وجعل من أراد الدخول على أمير المؤمنين لحاجة أو مسألة أو سؤال ، لا يمنع أحد من ذلك مدة .

قال الواقدي : فحدثني علي بن عمر عن أبيه قال : ثم إن عليا جاء عثمان بعد انصراف المصريين فقال له : تكلم كلاما يسمعه الناس منك ويشهدون عليك ، ويشهد الله على ما في قلبك من النزوع والإنابة ، فإن البلاد قد تمخضت عليك ، ولا آمن ركبا آخرين يقدمون من قبل الكوفة فتقول : يا علي اركب إليهم . ويقدم آخرون من البصرة فتقول : يا علي اركب إليهم . فإن لم أفعل قطعت رحمك واستخففت بحقك ؟! قال : فخرج عثمان فخطب الخطبة التي نزع فيها ، وأعلم الناس من نفسه التوبة فقام ; فحمد الله وأثنى عليه بما هو أهله ، ثم قال : أما بعد ، أيها الناس ، فوالله ما عاب من عاب شيئا أجهله ، وما جئت شيئا إلا وأنا أعرفه ، ولكن ضل رشدي ، ولقد سمعت رسول الله ، صلى الله عليه وسلم ، يقول : من زل فليتب ، ومن أخطأ فليتب ، ولا يتمادى في الهلكة ، إن من [ ص: 275 ] تمادى في الجور كان أبعد عن الطريق . فأنا أول من اتعظ ، أستغفر الله مما فعلت وأتوب إليه ، فمثلي نزع وتاب ، فإذا نزلت فليأتني أشرافكم ، فوالله لأكونن كالمرقوق ، إن ملك صبر ، وإن عتق شكر ، وما عن الله مذهب إلا إليه . قال : فرق الناس له وبكى من بكى ، وقام إليه سعيد بن زيد فقال : يا أمير المؤمنين ، الله الله في نفسك ! فأتمم على ما قلت . فلما انصرف عثمان إلى منزله وجد به جماعة من أكابر الناس ، وجاءه مروان بن الحكم فقال : أتكلم يا أمير المؤمنين أم أصمت ؟ فقالت امرأة عثمان - نائلة بنت الفرافصة الكلبية - من وراء الحجاب : بل اصمت ، فوالله إنهم لقاتلوه ، ولقد قال مقالة لا ينبغي له النزوع عنها . فقال لها : وما أنت وذاك ! فوالله لقد مات أبوك وما يحسن يتوضأ . فقالت له : دع ذكر الآباء . ونالت من أبيه الحكم ، فأعرض عنها مروان ، وقال لعثمان : يا أمير المؤمنين أتكلم أم أصمت ؟ فقال له عثمان : بل تكلم . فقال مروان : بأبي أنت وأمي لوددت أن مقالتك هذه كانت وأنت ممتنع منيع ، فكنت أول من رضي بها وأعان عليها ، ولكنك قلت ما قلت حين بلغ الحزام الطبيين ، وخلف السيل الزبى ، وحين أعطى الخطة الذليلة الذليل ، والله لإقامة على خطيئة يستغفر منها ، خير من توبة تخوف عليها ، وإنك لو شئت [ ص: 276 ] لعزمت التوبة ولم تقرر لنا بالخطيئة ، وقد اجتمع إليك على الباب مثل الجبال من الناس . فقال عثمان : فاخرج إليهم فكلمهم ، فإني أستحي أن أكلمهم . قال : فخرج مروان إلى الباب والناس يركب بعضهم بعضا ، فقال : ما شأنكم ؟ كأنكم قد جئتم لنهب ، شاهت الوجوه ! كل إنسان آخذ بأذن صاحبه ، ألا من أريد ؟ جئتم تريدون أن تنزعوا ملكنا من أيدينا ، اخرجوا عنا ، أما والله لئن رمتمونا ليمرن عليكم أمر يسوءكم ولا تحمدوا غبه ، ارجعوا إلى منازلكم ، فوالله ما نحن مغلوبين على ما بأيدينا . قال : فرجع الناس ، وخرج بعضهم حتى أتى عليا فأخبره الخبر ، فجاء علي مغضبا حتى دخل على عثمان فقال : أما رضيت من مروان ولا رضي منك إلا بتحويلك عن دينك وعقلك ، وإن مثلك مثل جمل الظعينة سار حيث يسار به ، والله ما مروان بذي رأي في دينه ولا نفسه ، وايم الله إني لأراه سيوردك ثم لا يصدرك ، وما أنا بعائد بعد مقامي هذا لمعاتبتك ، أذهبت شرفك ، وغلبت على أمرك . فلما خرج علي دخلت نائلة على عثمان فقالت : أتكلم أو أسكت ؟ فقال : تكلمي . فقالت : سمعت قول علي أنه ليس يعاودك ، وقد أطعت مروان حيث شاء . قال : فما أصنع ؟ قالت : تتقي الله وحده لا شريك له ، وتتبع سنة صاحبيك من قبلك ، فإنك متى أطعت مروان قتلك ، ومروان ليس له عند الله قدر ولا هيبة ولا محبة ، فأرسل إلى علي فاستصلحه ، فإن له قرابة منك وهو لا يعصى . قال : فأرسل عثمان إلى علي فأبى أن يأتيه ، وقال : لقد أعلمته أني لست بعائد . قال : وبلغ مروان قول نائلة فيه ، [ ص: 277 ] فجاء إلى عثمان فقال : أتكلم أو أسكت ؟ فقال : تكلم . فقال : إن نائلة بنت الفرافصة ، فقال عثمان : لا تذكرها بحرف فأسوء لك وجهك ، فهي والله أنصح لي منك . قال : فكف مروان .

التالي السابق


الخدمات العلمية