صفحة جزء
ابتداء وقعة الجمل

لما وقع قتل عثمان بعد أيام التشريق ، كان أزواج النبي ، صلى الله عليه وسلم ، قد خرجن إلى الحج في هذا العام فرارا من الفتنة ، فلما بلغ الناس أن عثمان قد قتل ، أقمن بمكة بعد ما خرجوا منها ، رجعوا إليها فأقاموا بها ، وجعلوا ينتظرون ما يصنع الناس ، فلما بويع لعلي وصار أحظى الناس عنده - بحكم الحال وغلبة الرأي لا عن اختيار منه لذلك - رءوس أولئك الخوارج الذين قتلوا عثمان ، مع أن عليا في نفس الأمر يكرههم ، ولكنه تربص بهم الدوائر ، ويود لو تمكن منهم ليأخذ حق الله منهم ، ولكن لما وقع الأمر هكذا واستحوذوا عليه وحجبوا عنه علية [ ص: 432 ] الصحابة ، فر جماعة من بني أمية وغيرهم إلى مكة ، واستأذنه طلحة والزبير في الاعتمار ، فأذن لهما ، فخرجا إلى مكة وتبعهم خلق كثير ، وجم غفير . وكان علي لما عزم على قتال أهل الشام قد ندب أهل المدينة إلى الخروج معه ، فأبوا عليه ، وطلب عبد الله بن عمر بن الخطاب وحرضه على الخروج معه ، فقال : إنما أنا رجل من أهل المدينة ، فإن خرجوا خرجت ، وعلي السمع والطاعة ، ولكن لا أخرج للقتال في هذا العام . ثم تجهز ابن عمر وخرج إلى مكة . وقدم إلى مكة أيضا في هذا العام يعلى بن أمية من اليمن - وكان عاملا عليها لعثمان - ومعه ستمائة بعير وستمائة ألف درهم وقدم إليها عبد الله بن عامر من البصرة ، وكان نائبها لعثمان .

فاجتمع فيها خلق من سادات الصحابة ، وأمهات المؤمنين ، فقامت عائشة ، رضي الله عنها ، في الناس تخطبهم وتحثهم على القيام بطلب دم عثمان ، وذكرت ما افتات به أولئك من قتله في بلد حرام وشهر حرام ، ولم يراقبوا جوار رسول الله ، صلى الله عليه وسلم ، وقد سفكوا الدماء وأخذوا الأموال . فاستجاب الناس لها ، وطاوعوها على ما تراه من الأمر ، وقالوا لها : حيثما سرت سرنا معك . فقال قائل : نذهب إلى الشام . فقال بعضهم : إن معاوية قد كفاكم أمرها . ولو قدموها لغلبوا ، واجتمع الأمر كله لهم ; لأن أكابر الصحابة معهم . وقال [ ص: 433 ] آخرون : نذهب إلى المدينة فنطلب من علي أن يسلم إلينا قتلة عثمان فيقتلوا . وقال آخرون : بل نذهب إلى البصرة فنتقوى بالخيل والرجال ، ونبدأ بمن هناك من قتلته . فاتفق الرأي على ذلك ، ووافق بقية أمهات المؤمنين عائشة على المسير إلى المدينة ، فلما اتفق الناس على المسير إلى البصرة رجعن عن ذلك ، وقلن : لا نسير إلى غير المدينة . وجهز الناس يعلى بن أمية ، فأنفق فيهم ستمائة ألف وستمائة بعير ، وجهزهم ابن عامر أيضا بمال كثير : وكانت حفصة بنت عمر أم المؤمنين قد وافقت عائشة على المسير إلى البصرة ، فمنعها أخوها عبد الله من ذلك وأبى هو أن يسير معهم إلى غير المدينة ، وسار الناس صحبة عائشة في ألف . وقيل : تسعمائة فارس من أهل المدينة ومكة . وتلاحق بهم آخرون ، فصاروا في ثلاثة آلاف ، وأم المؤمنين عائشة تحمل في هودج على جمل اسمه عسكر ، اشتراه يعلى بن أمية من رجل من عرينة بمائتي دينار . وقيل : بثمانين دينارا ، وقيل غير ذلك . وسار معها أمهات المؤمنين إلى ذات عرق ففارقنها هنالك وبكين للوداع ، وتباكى الناس وكان ذلك اليوم يسمى يوم النحيب .

وسار الناس قاصدين البصرة ، وكان الذي يصلي بالناس عن أمر عائشة ابن أختها عبد الله بن الزبير ، ومروان بن الحكم يؤذن للناس في أوقات الصلوات ، وقد مروا في مسيرهم ليلا بماء يقال له الحوأب . فنبحتهم كلاب عنده ، فلما [ ص: 334 ] سمعت ذلك عائشة قالت : ما اسم هذا الماء ؟ قالوا : الحوأب . فضربت بإحدى يديها على الأخرى وقالت : إنا لله وإنا إليه راجعون ، ما أظنني إلا راجعة . قالوا : ولم ؟ قالت : سمعت رسول الله ، صلى الله عليه وسلم ، يقول لنسائه : ليت شعري أيتكن التي تنبحها كلاب الحوأب . ثم ضربت عضد بعيرها فأناخته ، وقالت : ردوني ، أنا والله صاحبة ماء الحوأب . وقد أوردنا هذا الحديث بطرقه وألفاظه في دلائل النبوة كما سبق . فأناخ الناس حولها يوما وليلة وقال لها عبد الله بن الزبير : إن الذي أخبرك أن هذا ماء الحوأب قد كذب . ثم قال الناس : النجاء النجاء ! هذا جيش علي بن أبي طالب قد أقبل . فارتحلوا نحو البصرة .

فلما اقتربت من البصرة كتبت إلى الأحنف بن قيس وغيره من رءوس الناس أنها قد قدمت . فبعث عثمان بن حنيف عمران بن حصين وأبا الأسود الدؤلي إليها ليعلما ما جاءت له ، فلما قدما عليها ، سلما عليها ، واستعلما منها ما جاءت له ، فذكرت لهما ما الذي جاءت له من القيام بطلب دم عثمان ; لأنه قتل مظلوما في شهر حرام وبلد حرام . وتلت قوله تعالى : لا خير في كثير من نجواهم إلا من أمر بصدقة أو معروف أو إصلاح بين الناس الآية [ النساء : 114 ] فخرجا من عندها فجاءا إلى طلحة فقالا له : ما أقدمك ؟ فقال : الطلب بدم عثمان . فقالا : أما بايعت عليا ؟ قال : بلى والسيف على عنقي ، [ ص: 435 ] ولا أستقبله إن هو لم يخل بيننا وبين قتلة عثمان . فذهبا إلى الزبير فقال مثل ذلك . قال : فرجع عمران وأبو الأسود إلى عثمان بن حنيف ، فقال أبو الأسود :


يا ابن حنيف قد أتيت فانفر وطاعن القوم وجالد واصبر


واخرج لهم مستلثما وشمر

فقال عثمان بن حنيف : إنا لله وإنا إليه راجعون ، دارت رحا الإسلام ورب الكعبة ، فانظروا بأي زيفان تزيف . فقال عمران : إي والله لتعركنكم عركا طويلا . يشير عثمان بن حنيف إلى حديث ابن مسعود مرفوعا : تدور رحا الإسلام لخمس وثلاثين ، أو ست وثلاثين . الحديث كما تقدم . ثم قال عثمان بن حنيف لعمران بن حصين : أشر علي . فقال : اعتزل فإني قاعد في منزلي . أو قال : قاعد على بعيري فذاهب . فقال عثمان : بل أمنعهم حتى يأتي أمير المؤمنين . فنادى في الناس يأمرهم بلبس السلاح والاجتماع في المسجد ، فاجتمعوا فأمرهم ، بالتجهز ، فقام رجل وعثمان على المنبر فقال : أيها الناس إن كان هؤلاء القوم جاءوا خائفين فقد جاءوا من بلد يأمن فيها الطير ، وإن كانوا جاءوا يطلبون بدم عثمان فما نحن بقتلته ، فأطيعوني وردوهم من [ ص: 436 ] حيث جاءوا . فقام الأسود بن سريع السعدي فقال : إنما جاءوا يستعينون بنا على قتلة عثمان منا ومن غيرنا . فحصبه الناس ، فعلم عثمان بن حنيف أن لقتلة عثمان بالبصرة أنصارا فكسره ذلك .

وقدمت أم المؤمنين بمن معها من الناس ، فنزلوا المربد من أعلاه قريبا من البصرة ، وخرج إليها من أراد من أهل البصرة ، فكان معها ، وخرج عثمان بن حنيف بالجيش ، فاجتمعوا بالمربد ، فتكلم طلحة - وكان على الميمنة - فندب إلى الأخذ بثأر عثمان والطلب بدمه ، وتابعه الزبير فتكلم بمثل مقالته ، فرد عليهما ناس من جيش عثمان بن حنيف ، وتكلمت أم المؤمنين فحرضت وحثت على ذلك ، فتثاور طوائف من أطراف الجيشين ، فتراموا بالحجارة ، ثم تحاجز الناس ورجع كل فريق إلى حوزته ، وقد صارت طائفة من جيش عثمان بن حنيف إلى جيش عائشة ، فكثروا . وجاء جارية بن قدامة السعدي فقال : يا أم المؤمنين ، والله لقتل عثمان أهون من خروجك من بيتك على هذا الجمل عرضة للسلاح ، إن كنت أتيتنا طائعة فارجعي من حيث جئت إلى منزلك ، وإن كنت أتيتنا مكرهة فاستعيني بالناس في الرجوع .

وأقبل حكيم بن جبلة - وكان على خيل عثمان بن حنيف - فأنشب القتال وجعل أصحاب أم المؤمنين يكفون أيديهم ويمتنعون من القتال ، وجعل حكيم [ ص: 437 ] يقتحم عليهم فاقتتلوا على فم السكة ، وأمرت عائشة أصحابها فتيامنوا حتى انتهوا إلى مقبرة بني مازن ، وحجز الليل بينهم ، فلما كان اليوم الثاني قصدوا القتال ، فاقتتلوا قتالا شديدا ، إلى أن زال النهار ، وقتل خلق كثير من أصحاب ابن حنيف ، وكثرت الجراح في الفريقين ، فلما عضتهم الحرب تداعوا إلى الصلح على أن يكتبوا بينهم كتابا ويبعثوا رسولا إلى أهل المدينة يسأل أهلها ; إن كان طلحة والزبير أكرها على البيعة ، خرج عثمان بن حنيف عن البصرة وأخلاها لهما ، وإن لم يكونا أكرها على البيعة ، خرج طلحة والزبير عنها وأخلوها له . وبعثوا بذلك كعب بن سور القاضي ، فقدم المدينة يوم الجمعة ، فقام في الناس فسألهم : هل بايع طلحة والزبير طائعين أو مكرهين ؟ فسكت الناس فلم يتكلم إلا أسامة بن زيد ، فقال : بل كانا مكرهين . فثار إليه بعض الناس فأرادوا ضربه ، فجاحف دونه صهيب ، وأبو أيوب ، وجماعة حتى خلصوه وقالوا له : ما وسعك ما وسعنا من السكوت ؟ فقال : لا والله ما كنت أرى أن الأمر ينتهي إلى هذا . وكتب علي إلى عثمان بن حنيف يقول : إنهما لم يكرها على فرقة ، ولقد أكرها على جماعة وفضل ، فإن كانا يريدان الخلع فلا عذر لهما ، وإن كانا يريدان غير ذلك نظرا ونظرنا . وقدم كعب بن سور على عثمان بكتاب علي ، فقال عثمان : هذا أمر آخر غير ما كنا فيه . وبعث طلحة [ ص: 438 ] والزبير إلى عثمان بن حنيف أن يخرج إليهما فأبى . فجمعا الرجال في ليلة مظلمة وشهد بهم صلاة العشاء في المسجد الجامع ، ولم يخرجعثمان بن حنيف تلك الليلة ، فصلى بالناس عبد الرحمن بن عتاب بن أسيد ، ووقع من رعاع الناس من أهل البصرة كلام وضرب ، فقتل منهم نحو من أربعين رجلا ، ودخل الناس على عثمان بن حنيف قصره ، فأخرجوه إلى طلحة والزبير ، ولم يبق في وجهه شعرة إلا نتفوها ، فاستعظما ذلك وبعثا إلى عائشة فأعلماها الخبر ، فأمرت أن تخلى سبيله ، فأطلقوه وولوا على بيت المال عبد الرحمن بن أبي بكر ، وقسم طلحة والزبير أموال بيت المال في الناس ، وفضلوا أهل الطاعة ، وأكب عليهم الناس يأخذون أرزاقهم ، وأخذوا الحرس ، واستبدوا بالأمر في البصرة ، فحمي لذلك جماعة من قوم قتلة عثمان وأنصارهم ، فركبوا في جيش قريب من ثلاثمائة ، ومقدمهم حكيم بن جبلة ، وهو أحد من باشر قتل عثمان ، فبارزوا وقاتلوا ، فضرب رجل رجل حكيم بن جبلة فقطعها ، فزحف حتى أخذها وضرب بها ضاربه فقتله ثم أتكأ عليه وجعل يقول :


يا ساق لن تراعى     إن معي ذراعي
أحمي بها كراعي

وقال أيضا

[ ص: 439 ]

ليس علي أن أموت عار     والعار في الناس هو الفرار
والمجد لا يفضحه الدمار

فمر عليه رجل وهو متكئ برأسه على ذلك الرجل ، فقال له : من قتلك ؟ فقال : وسادتي . ثم مات حكيم قتيلا هو ونحو من سبعين من قتلة عثمان وأنصارهم ، فضعف جأش من خالف طلحة والزبير من أهل البصرة . . ويقال : إن أهل البصرة بايعوا طلحة والزبير ، وندب الزبير ألف فارس يأخذها معه ويلتقي عليا قبل أن يجيء ، فلم يجبه أحد ، وكتبوا بذلك إلى أهل الشام يبشرونهم بذلك . وقد كانت هذه الوقعة لخمس ليال بقين من ربيع الآخر سنة ست وثلاثين .

وقد كتبت عائشة إلى زيد بن صوحان تدعوه إلى نصرتها والقيام معها ، فإن لم يجئ فليكف يده وليلزم منزله ، أي لا يكون عليها ولا لها ، فقال : أنا في نصرتك ما دمت في منزلك . وأبى أن يطيعها في ذلك ، وقال : رحم الله أم المؤمنين ، أمرت أن تلزم بيتها ، وأمرنا أن نقاتل ، فخرجت من منزلها وأمرتنا بلزوم بيوتنا التي كانت هي أحق بذلك منا . وكتبت عائشة إلى أهل اليمامة والكوفة بمثل ذلك .

التالي السابق


الخدمات العلمية