صفحة جزء
فصل ( مناظرة علي رضي الله عنه للخوارج )

قد تقدم أن عليا ، رضي الله عنه ، لما رجع من الشام بعد وقعة صفين ، ذهب إلى الكوفة فلما دخلها اعتزله طائفة من جيشه ، قيل : ستة عشر ألفا . وقيل : اثنا عشر ألفا . وقيل : أقل من ذلك . فباينوه ، وخرجوا عليه ، وأنكروا عليه أشياء ، فبعث إليهم عبد الله بن عباس ، فناظرهم فيها ورد عليهم ما توهموه من الشبهة ، ولم يكن له حقيقة في نفس الأمر ، فرجع بعضهم ، واستمر بعضهم على ضلاله حتى كان منهم ما سنورده قريبا إن شاء الله . ويقال : إن عليا ، رضي الله عنه ، ذهب إليهم فناظرهم فيما نقموا عليه حتى استرجعهم عما كانوا عليه ، ودخلوا معه الكوفة ، ثم إنهم عادوا فنكثوا ما عاهدوا عليه ، وتعاقدوا وتعاهدوا فيما بينهم على القيام بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ، والقيام على الناس في ذلك ثم تحيزوا ناحية إلى موضع يقال له : النهروان . وفيه قاتلهم علي كما سيأتي .

[ ص: 565 ] قال الإمام أحمد : حدثنا إسحاق بن عيسى الطباع ، حدثني يحيى بن سليم ، عن عبد الله بن عثمان بن خثيم ، عن عبيد الله بن عياض بن عمرو القاري ، قال : جاء عبد الله بن شداد ، فدخل على عائشة - ونحن عندها مرجعه من العراق ليالي قتل علي - فقالت له : يا عبد الله بن شداد ، هل أنت صادقي عما أسألك عنه ؟ تحدثني عن هؤلاء القوم الذين قتلهم علي . قال : وما لي لا أصدقك . قالت : فحدثني عن قصتهم . قال : فإن عليا لما كاتب معاوية وحكم الحكمان ، خرج عليه ثمانية آلاف من قراء الناس فنزلوا بأرض يقال لها : حروراء . من جانب الكوفة ، وأنهم عتبوا عليه ، فقالوا : انسلخت من قميص ألبسكه الله ، واسم سماك به الله ، ثم انطلقت فحكمت في دين الله ولا حكم إلا لله . فلما أن بلغ عليا ما عتبوا عليه وفارقوه عليه ، فأمر فأذن مؤذن : أن لا يدخل على أمير المؤمنين إلا رجل قد حمل القرآن . فلما أن امتلأت الدار من قراء الناس ، دعا بمصحف إمام عظيم ، فوضعه بين يديه فجعل [ ص: 566 ] يصكه بيده ، ويقول : أيها المصحف ، حدث الناس ! فناداه الناس فقالوا : يا أمير المؤمنين ما تسأل عنه ! إنما هو مداد في ورق ، ونحن نتكلم بما روينا منه ، فماذا تريد ؟ قال : أصحابكم هؤلاء الذين خرجوا ، بيني وبينهم كتاب الله ، يقول الله تعالى في كتابه في امرأة ورجل : وإن خفتم شقاق بينهما فابعثوا حكما من أهله وحكما من أهلها إن يريدا إصلاحا يوفق الله بينهما [ النساء : 35 ] . فأمة محمد ، صلى الله عليه وسلم ، أعظم دما وحرمة من امرأة ورجل ، ونقموا علي أن كاتبت معاوية : كتب علي بن أبي طالب ، وقد جاءنا سهيل بن عمرو ونحن مع رسول الله ، صلى الله عليه وسلم ، بالحديبية حين صالح قومه قريشا ، فكتب رسول الله ، صلى الله عليه وسلم : بسم الله الرحمن الرحيم . فقال سهيل : لا أكتب بسم الله الرحمن الرحيم . فقال : " كيف نكتب ؟ " . فقال : اكتب باسمك اللهم . فقال رسول الله ، صلى الله عليه وسلم : " فكتب : هذا ما صالح عليه محمد بن عبد الله قريشا . يقول الله تعالى في كتابه : لقد كان لكم في رسول الله أسوة حسنة لمن كان يرجو الله واليوم الآخر [ الأحزاب : 21 ] فبعث إليهم عبد الله بن عباس فخرجت معه ، حتى إذا توسطت عسكرهم قام ابن الكواء يخطب الناس فقال : يا حملة القرآن ، هذا عبد الله بن عباس فمن لم يكن يعرفه فأنا أعرفه ، هذا ممن يخاصم في كتاب الله بما لا يعرفه ، هذا ممن نزل فيه وفي قومه بل هم قوم خصمون [ ص: 567 ] [ الزخرف : 58 ] . فردوه إلى صاحبه ولا تواضعوه كتاب الله . فقال بعضهم : والله لنواضعنه ، فإن جاء بحق نعرفه لنتبعنه ، وإن جاء بباطل لنبكتنه بباطله . فواضعوا عبد الله الكتاب ثلاثة أيام ، فرجع منهم أربعة آلاف كلهم تائب ، فيهم ابن الكواء ، حتى أدخلهم على علي الكوفة ، فبعث علي إلى بقيتهم فقال : قد كان من أمرنا وأمر الناس ما قد رأيتم ، فقفوا حيث شئتم حتى تجتمع أمة محمد ، صلى الله عليه وسلم ، بيننا وبينكم أن لا تسفكوا دما حراما ، أو تقطعوا سبيلا ، أو تظلموا ذمة ، فإنكم إن فعلتم فقد نبذنا إليكم الحرب على سواء : إن الله لا يحب الخائنين [ الأنفال : 58 ] . فقالت له عائشة : يا ابن شداد فقتلهم ؟ فقال : والله ما بعث إليهم حتى قطعوا السبيل ، وسفكوا الدماء ، واستحلوا أهل الذمة . فقالت : آلله ؟ قال : آلله الذي لا إله إلا هو لقد كان ذلك . قالت : فما شيء بلغني عن أهل العراق يقولون : ذو الثدي وذو الثدية ؟ قال : قد رأيته ، وقمت مع علي عليه في القتلى ، فدعا الناس فقال : أتعرفون هذا ، [ ص: 568 ] فما أكثر من جاء يقول : قد رأيته في مسجد بني فلان يصلي ويقرأ ، ورأيته في مسجد بني فلان يصلي . ولم يأتوا فيه بثبت يعرف إلا ذلك . قالت : فما قول علي حين قام عليه كما يزعم أهل العراق ؟ قال : سمعته يقول : صدق الله ورسوله . قالت : هل سمعت منه أنه قال غير ذلك ؟ قال : اللهم لا . قالت : أجل ، صدق الله ورسوله ، يرحم الله عليا ، إنه كان لا يرى شيئا يعجبه إلا قال : صدق الله ورسوله . فيذهب أهل العراق يكذبون عليه ويزيدون عليه في الحديث . تفرد به أحمد ، وإسناده صحيح ، واختاره الضياء . ففي هذا السياق ما يقتضي أن عدتهم كانت ثمانية آلاف ، لكن من القراء ، وقد يكون واطأهم على مذهبهم آخرون من غيرهم حتى بلغوا اثني عشر ألفا ، أو ستة عشر ألفا ، ولما ناظرهمابن عباس رجع منهم أربعة آلاف ، وبقي بقيتهم على ما هم عليه . وقد رواه يعقوب بن سفيان ، عن موسى بن مسعود ، عن عكرمة بن عمار ، عن سماك أبي زميل ، عن ابن عباس ، فذكر القصة وأنهم عتبوا عليه في كونه حكم الرجال ، وأنه محا اسمه من الإمرة ، وأنه غزا يوم الجمل فقتل الأنفس الحرام ولم يقسم الأموال والسبي ، فأجاب عن الأولتين بما تقدم ، وعن الثالثة بأن قال : قد كان في السبي أم المؤمنين عائشة ، فإن قلتم : ليست لكم بأم . فقد كفرتم ، وإن استحللتم سبي أمكم فقد كفرتم . قال : فرجع منهم [ ص: 569 ] ألفان وخرج سائرهم فتقاتلوا . وذكر غيره أن ابن عباس لبس حلة لما خرج إليهم ، فناظروه في لبسه إياها ، فاحتج عليهم بقوله تعالى : قل من حرم زينة الله التي أخرج لعباده والطيبات من الرزق الآية [ الأعراف : 32 ] .

وذكر ابن جرير أن عليا خرج بنفسه إلى بقيتهم ، فلم يزل يناظرهم حتى رجعوا معه إلى الكوفة ، وذلك يوم عيد الفطر أو الأضحى - شك الراوي في ذلك - ثم جعلوا بعد ذلك يعرضون له في الكلام ، ويسمعونه شتما ويتأولون تآويل في أقواله . قال الشافعي ، رحمه الله : قال رجل من الخوارج لعلي وهو في الصلاة لئن أشركت ليحبطن عملك ولتكونن من الخاسرين [ الزمر : 65 ] . فقرأ علي : فاصبر إن وعد الله حق ولا يستخفنك الذين لا يوقنون [ الروم : 60 ] . وذكر ابن جرير أن هذا الكلام إنما قاله وعلي يخطب ، لا في الصلاة . وذكر ابن جرير أيضا أن عليا بينما هو يخطب يوما إذ قام إليه رجل من الخوارج فقال : يا علي أشركت في دين الله الرجال ولا [ ص: 570 ] حكم إلا لله . فتنادوا من كل جانب : لا حكم إلا لله ، لا حكم إلا لله . فجعل علي يقول : هذه كلمة حق أريد بها باطل . ثم قال : إن لكم علينا أن لا نمنعكم فيئا ما دامت أيديكم معنا ، وأن لا نمنعكم مساجد الله ، وأن لا نبدأكم بالقتال حتى تبدأونا به . ثم إنهم خرجوا بالكلية عن الكوفة وتحيزوا إلى النهروان ، على ما سنذكره بعد حكم الحكمين .

التالي السابق


الخدمات العلمية