صفحة جزء
[ ص: 577 ] ذكر خروج الخوارج من الكوفة ومبارزتهم عليا ، رضي الله عنه ، بالعداوة والمخالفة وقتال علي إياهم وما ورد في ذلك من الأحاديث

لما بعث علي أبا موسى ومن معه من الجيش إلى دومة الجندل ، اشتد أمر الخوارج وبالغوا في النكير على علي وصرحوا بكفره ، فجاء إليه رجلان منهم ، وهما زرعة بن البرج الطائي ، وحرقوص بن زهير السعدي ، فقالا : لا حكم إلا لله . فقال علي : لا حكم إلا لله . فقال له حرقوص : تب إلى الله من خطيئتك ، وارجع عن قضيتك ، اذهب بنا إلى عدونا حتى نقاتلهم حتى نلقى ربنا . فقال علي : قد أردتكم على ذلك فأبيتم ، وقد كتبنا بيننا وبين القوم كتابا وعهودا ، وقد قال الله تعالى : وأوفوا بعهد الله إذا عاهدتم الآية [ النحل : 91 ] . فقال له حرقوص : ذلك ذنب ينبغي أن تتوب منه . فقال علي : ما هو بذنب ولكنه عجز من الرأي ، وقد تقدمت إليكم فيما كان منه ، ونهيتكم عنه . فقال له زرعة بن البرج : أما والله يا علي لئن لم تدع تحكيم الرجال في كتاب الله لأقاتلنك أطلب بذلك وجه الله ورضوانه . فقال له : تبا لك ما [ ص: 578 ] أشقاك ! كأني بك قتيلا تسفي عليك الريح . فقال : وددت أن قد كان ذلك . فقال له علي : إنك لو كنت محقا كان في الموت تعزية عن الدنيا ، ولكن الشيطان قد استهواكم . فخرجا من عنده يحكمان أمرهما ، وفشى فيهم ذلك ، وجاهروا به الناس ، وتعرضوا لعلي في خطبه وأسمعوه السب والشتم والتعريض بآيات من القرآن ، وذلك أن عليا قام خطيبا في بعض الجمع فذكر أمر الخوارج فذمه وعابه . فقام إليه جماعة منهم كل يقول : لا حكم إلا لله . وقام رجل منهم وهو واضع أصبعه في أذنيه يقول : ولقد أوحي إليك وإلى الذين من قبلك لئن أشركت ليحبطن عملك ولتكونن من الخاسرين [ الزمر : 65 ] . فجعل علي يقلب يديه هكذا وهكذا وهو على المنبر يقول : حكم الله ننتظر فيكم . ثم قال : إن لكم علينا أن لا نمنعكم مساجدنا ما لم تخرجوا علينا ، ولا نمنعكم نصيبكم من هذا الفيء ما دامت أيديكم مع أيدينا ، ولا نقاتلكم حتى تقاتلونا .

وقال أبو مخنف ، عن عبد الملك بن أبي حرة أن عليا لما بعث أبا موسى لإنفاذ الحكومة ، اجتمع الخوارج في منزل عبد الله بن وهب الراسبي فخطبهم خطبة بليغة زهدهم في هذه الدنيا ورغبهم في الآخرة والجنة ، وحثهم على الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ، ثم قال : فاخرجوا بنا إخواننا من هذه القرية الظالم أهلها ، إلى جانب هذا السواد إلى بعض كور الجبال ، أو بعض هذه المدائن منكرين لهذه الأحكام الجائرة . ثم قام حرقوص بن زهير فقال بعد حمد الله والثناء عليه : إن المتاع بهذه الدنيا قليل ، وإن الفراق لها وشيك ، فلا [ ص: 579 ] تدعونكم زينتها وبهجتها إلى المقام بها ، ولا تلفتنكم عن طلب الحق وإنكار الظلم ، فإن الله مع الذين اتقوا والذين هم محسنون . فقال سنان بن حمزة الأسدي : يا قوم إن الرأي ما رأيتم ، وإن الحق ما ذكرتم ، فولوا أمركم رجلا منكم ، فإنه لا بد لكم من عماد وسناد ، ومن راية تحفون بها وترجعون إليها . فبعثوا إلى زيد بن حصين الطائي - وكان من رءوسهم - فعرضوا عليه الإمارة عليهم فأبى ، ثم عرضوها على حرقوص بن زهير فأبى ، ثم عرضوها على حمزة بن سنان فأبى ، ثم عرضوها على شريح بن أوفى العبسي فأبى ، ثم عرضوها على عبد الله بن وهب الراسبي فقبلها ، وقال : أما والله لا أقبلها رغبة في الدنيا ولا أدعها فرقا من الموت . واجتمعوا أيضا في بيت زيد بن حصين الطائي السنبسي فخطبهم وحثهم على الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ، وتلا عليهم آيات من القرآن منها قوله تعالى : يا داود إنا جعلناك خليفة في الأرض فاحكم بين الناس بالحق ولا تتبع الهوى فيضلك عن سبيل الله الآية [ ص : 26 ] . وقوله : ومن لم يحكم بما أنزل الله فأولئك هم الكافرون [ المائدة : 44 ] . والتي بعدها وبعدها : الظالمون ، الفاسقون [ المائدة : 45 ، 47 ] . ثم قال : فأشهد على أهل دعوتنا من أهل قبلتنا أنهم قد اتبعوا الهوى ، ونبذوا حكم [ ص: 580 ] الكتاب ، وجاروا في القول والأعمال ، وأن جهادهم حق على المؤمنين . قال : فبكى رجل منهم يقال له : عبد الله بن شجرة السلمي . ثم حرض أولئك على الخروج على الناس ، وقال في كلامه : اضربوا وجوههم وجباههم بالسيوف حتى يطاع الرحمن الرحيم ، فإن أنتم ظفرتم وأطيع الله كما أردتم ، آتاكم الله ثواب المطيعين له العاملين بأمره ، وإن قتلتم فأي شيء أفضل من الصبر والمصير إلى الله ورضوانه وجنته ؟

قلت : وهذا الضرب من الناس من أغرب أشكال بني آدم ، فسبحان من نوع خلقه كما أراد ، وسبق في قدره ذلك . وما أحسن ما قال بعض السلف في الخوارج : إنهم المذكورون في قوله تعالى : قل هل ننبئكم بالأخسرين أعمالا الذين ضل سعيهم في الحياة الدنيا وهم يحسبون أنهم يحسنون صنعا أولئك الذين كفروا بآيات ربهم ولقائه فحبطت أعمالهم فلا نقيم لهم يوم القيامة وزنا [ الكهف : 103 - 105 ] . والمقصود أن هؤلاء الجهلة الضلال ، والأشقياء في الأقوال والأفعال ، اجتمع رأيهم على الخروج من بين أظهر المسلمين ، وتواطئوا على المسير إلى المدائن ; ليملكوها ويتحصنوا بها ، ثم يبعثوا إلى إخوانهم وأضرابهم - ممن هو على ما هم عليه من أهل البصرة وغيرها - فيوافوهم إليها ، ويكون [ ص: 581 ] اجتماعهم عليها . فقال لهم زيد بن حصين الطائي : إن المدائن لا تقدرون عليها ، فإن بها جيشا لا تطيقونه وسيمنعوها منكم ، ولكن واعدوا إخوانكم إلى جسر نهر جوخا ، ولا تخرجوا من الكوفة جماعات ، ولكن اخرجوا وحدانا لئلا يشعروا بكم . فكتبوا كتابا عاما إلى من هو على مذهبهم ومسلكهم من أهل البصرة وغيرها ، وبعثوا به إليهم ليوافوهم إلى النهر ، ليكونوا يدا واحدة على الناس ، ثم خرجوا يتسللون وحدانا ; لئلا يعلم أحد بهم فيمنعوهم من الخروج فخرجوا من بين الآباء والأمهات والأعمام والعمات وفارقوا سائر القرابات ، يعتقدون بجهلهم وقلة علمهم وعقلهم أن هذا الأمر يرضي رب الأرض والسماوات ، ولم يعلموا أنه من أكبر الكبائر والذنوب الموبقات ، والعظائم والخطيئات ، وأنه مما يزينه لهم إبليس وأنفسهم التي هي بالسوء أمارات . وقد تدارك جماعة منهم بعض أولادهم وقراباتهم وإخوانهم فردوهم ووبخوهم ، فمنهم من استمر على الاستقامة ، ومنهم من فر بعد ذلك فلحق بالخوارج فخسر إلى يوم القيامة ، وذهب الباقون إلى ذلك الموضع ، ووافى إليهم من [ ص: 582 ] كاتبوه من أهل البصرة وغيرها ، واجتمع الجميع بالنهروان ، وصارت لهم شوكة ومنعة ، وهم جند مستقلون وفيهم شجاعة وثبات وصبر ، وعندهم أنهم متقربون بذلك إلى الله ، عز وجل ; فهم قوم لا يصطلى لهم بنار ، ولا يطمع أحد في أن يأخذ منهم بثأر ، وبالله المستعان .

وقال أبو مخنف ، عن أبي روق ، عن الشعبي أن عليا لما خرجت الخوارج إلى النهروان وهرب أبو موسى الأشعري إلى مكة ، ورد ابن عباس إلى البصرة ، قام في الناس بالكوفة خطيبا فقال : الحمد لله وإن أتى الدهر بالخطب الفادح ، والحدثان الجليل ، وأشهد أن لا إله غيره وأن محمدا رسول الله ، أما بعد ، فإن المعصية تورث الحسرة ، وتعقب الندم ، وقد كنت أمرتكم في هذين الرجلين وفي هذه الحكومة بأمري ، ونحلتكم رأيي ، فأبيتم إلا ما أردتم ، فكنت أنا وأنتم كما قال أخو هوازن فأجاد :


بذلت لهم نصحي بمنعرج اللوى فلم يستبينوا الرشد إلا ضحى الغد

[ ص: 583 ] ثم تكلم فيما فعله الحكمان فرد عليهما فيما حكما به وأنبهما ، وبين ما في ذلك من هوى وزور ومحبة للدنيا ، وقلة نصح ونظر للأمة ، وحط عليهما ، ثم ندب الناس إلى الخروج إلى أهل الشام والجهاد فيهم ، وعين لهم يوم الاثنين يخرجون فيه ، وكتب إلى ابن عباس والى البصرة يستنفر له الناس إلى الخروج إلى أهل الشام . وكتب إلى الخوارج يعلمهم أن الذي حكم به الحكمان مردود عليهما ، وأنه قد عزم على الذهاب إلى أهل الشام ، فهلموا حتى نجتمع على قتالهم ، فكتبوا إليه : أما بعد ، فإنك لم تغضب لربك وإنما غضبت لنفسك ، وإن شهدت على نفسك بالكفر واستقبلت التوبة نظرنا فيما بيننا وبينك ، وإلا فقد نابذناك على سواء إن الله لا يحب الخائنين [ الأنفال : 58 ] .

فلما قرأ علي كتابهم يئس منهم وعزم على الذهاب إلى أهل الشام ليناجزهم ، وخرج من الكوفة إلى النخيلة في عسكر كثيف - خمسة وستين ألفا - وبعث إليه ابن عباس بثلاثة آلاف ومائتي فارس من أهل البصرة مع جارية بن قدامة ألف وخمسمائة ، ومع أبي الأسود الدئلي ألف وسبعمائة ، فكمل جيشه في ثمانية وستين ألف فارس ومائتي فارس .

وقام علي في الناس خطيبا فحثهم على الجهاد والصبر عند اللقاء ; فبينما هو عازم على غزو أهل الشام إذ بلغه أن الخوارج قد عاثوا في الأرض فسادا ، [ ص: 584 ] وسفكوا الدماء ، وقطعوا السبيل ، واستحلوا المحارم ، وكان من جملة من قتلوه عبد الله بن خباب صاحب رسول الله ، صلى الله عليه وسلم ، أسروه وامرأته معه وهي حامل فقالوا له : من أنت ؟ فقال : أنا عبد الله بن خباب صاحب رسول الله ، صلى الله عليه وسلم . وأنتم قد روعتموني . فقالوا : لا بأس عليك ، حدثنا ما سمعت من أبيك . فقال : سمعت أبي يقول : سمعت رسول الله ، صلى الله عليه وسلم ، يقول : ستكون فتنة القاعد فيها خير من القائم ، والقائم خير من الماشي ، والماشي خير من الساعي ، فقادوه بيده ، فبينما هو يسير معهم إذ لقي بعضهم خنزيرا لبعض أهل الذمة فضربه بعضهم بسيفه فشق جلده ، فقال له آخر : لم فعلت هذا وهو لذمي ؟ فذهب إلى ذلك الذمي فاستحله وأرضاه . وبينما هو معهم إذ سقطت تمرة من نخلة فأخذها أحدهم فألقاها في فمه ، فقال له آخر : بغير إذن ولا ثمن ؟ فألقاها ذاك من فمه ، ومع هذا قدموا عبد الله بن خباب فذبحوه ، وجاءوا إلى امرأته فقالت : إني امرأة حبلى ألا تتقون الله ، عز وجل ! فذبحوها وبقروا بطنها عن ولدها ، فلما بلغ الناس هذا من صنيعهم ، خافوا إن هم ذهبوا إلى الشام واشتغلوا بقتال أن يخلفهم هؤلاء في ذراريهم وديارهم ويفعلوا هذا الصنيع ، فخافوا غائلتهم ، وأشاروا على علي بأن يبدأ بهم ، ثم إذا فرغ منهم ساروا معه إلى الشام ، والناس آمنون من شرهم ، فاجتمع الرأي على هذا وفيه خيرة عظيمة لهم ولأهل الشام أيضا ; إذ لو قووا هؤلاء لأفسدوا الأرض كلها عراقا وشاما ، ولم يتركوا طفلا [ ص: 585 ] ولا طفلة ولا رجلا ولا امرأة ; لأن الناس عندهم قد فسدوا فسادا لا يصلحهم إلا القتل جملة . فأرسل علي إليهم الحارث بن مرة العبدي ، وقال له : اخبر لي خبرهم ، واعلم لي أمرهم ، واكتب إلي به على الجلية . فلما قدم عليهم الحارث قتلوه ولم ينظروه ، فلما بلغ ذلك عليا سار إليهم وترك أهل الشام .

[ ذكر مسير أمير المؤمنين علي رضي الله عنه إلى الخوارج

التالي السابق


الخدمات العلمية