صفحة جزء
[ ص: 282 ]

ذكر من توفي من الأعيان في هذه السنة

الأرقم بن أبي الأرقم عبد مناف بن أسد بن عبد الله بن عمر بن مخزوم

أسلم قديما ، يقال : سابع سبعة . وكانت داره كهفا للمسلمين ، يأوي إليها رسول الله صلى الله عليه وسلم ومن أسلم من قريش ، وكانت عند الصفا ، وقد صارت فيما بعد ذلك للمهدي ، فوهبها لامرأته الخيزران أم موسى الهادي وهارون الرشيد ، فبنتها وجددتها ، فعرفت بها ، ثم صارت لغيرها . وقد شهد الأرقم بدرا وما بعدها من المشاهد ، ومات بالمدينة في هذه السنة ، وصلى عليه سعد بن أبي وقاص ، أوصى به ، رضي الله عنهما ، وله بضع وثمانون سنة .

سحبان بن زفر بن إياس بن عبد شمس بن الأحب الباهلي الوائلي

الذي يضرب بفصاحته المثل ، فيقال : أفصح من سحبان وائل . ووائل هو ابن معن بن مالك بن أعصر بن سعد بن قيس بن عيلان بن مضر بن نزار ، وباهلة امرأة مالك بن أعصر ، ينسب إليها ولدها ، وهي باهلة بنت صعب بن سعد العشيرة .

[ ص: 283 ] قال ابن عساكر : سحبان المعروف بسحبان وائل ، بلغني أنه وفد إلى معاوية فتكلم فقال معاوية : أنت الشيخ ؟ فقال : إي والله وغير ذلك . ولم يزد ابن عساكر على هذا . وقد نسبه ابن الجوزي في كتابه " المنتظم " ، كما ذكرنا ، ثم قال : وكان بليغا يضرب المثل بفصاحته ، دخل يوما على معاوية وعنده خطباء القبائل ، فلما رأوه خرجوا ; لعلمهم بقصورهم عنه ، فقال سحبان :


لقد علم الحي اليمانون أنني إذا قلت أما بعد أني خطيبها

فقال له معاوية : اخطب . فقال : انظروا لي عصا تقيم من أودي . فقالوا : وماذا تصنع بها وأنت بحضرة أمير المؤمنين ؟ فقال : ما كان يصنع بها موسى وهو يخاطب ربه . فأخذها وتكلم من الظهر إلى أن قاربت العصر ، ما تنحنح ولا سعل ولا توقف ولا ابتدأ في معنى فخرج عنه وقد بقيت عليه بقية فيه ، فقال معاوية : الصلاة . فقال : الصلاة أمامك ، ألسنا في تحميد وتمجيد ، وعظة وتنبيه وتذكير ، ووعد ووعيد ؟ فقال معاوية : أنت أخطب العرب . قال : العرب وحدها ؟ بل أخطب الجن والإنس . قال : كذلك أنت .

سعد بن أبي وقاص

واسمه مالك بن أهيب بن عبد مناف بن زهرة بن كلاب ، أبو إسحاق القرشي الزهري ، أحد العشرة المشهود لهم بالجنة ، وأحد الستة أصحاب الشورى الذين توفي رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو عنهم راض ، أسلم قديما . قالوا : وكان يوم أسلم عمره سبع عشرة سنة .

[ ص: 284 ] وثبت عنه في " الصحيح " أنه قال : ما أسلم أحد في اليوم الذي أسلمت فيه ، ولقد مكثت سبعة أيام وإني لثلث الإسلام . وهو الذي كوف الكوفة ونفى عنها الأعاجم ، وكان مجاب الدعوة ، وهاجر وشهد بدرا وما بعدها ، وهو أول من رمى بسهم في سبيل الله ، وكان فارسا شجاعا من أمراء رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وكان في أيام الصديق معظما جليل المقدار ، وكذلك في أيام عمر ، وقد استنابه على الكوفة ، وهو الذي فتح المدائن وكانت بين يديه وقعة جلولاء وكان سيدا مطاعا ، وعزله عمر عن الكوفة عن غير عجز ولا خيانة ، ولكن لمصلحة ظهرت لعمر في ذلك ، وقد ذكره في الستة أصحاب الشورى ، ثم ولاه عثمان الكوفة بعدها ، ثم عزله عنها .

وقال الحميدي ، عن سفيان بن عيينة ، عن عمرو بن دينار قال : شهد سعد بن أبي وقاص وابن عمر دومة الجندل يوم الحكمين .

وثبت في " صحيح مسلم " أن ابنه عمر جاء إليه وهو معتزل في إبله فقال : الناس يتنازعون الإمارة وأنت هاهنا ؟ فقال : يا بني ، إني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول : " إن الله يحب العبد الغني الخفي التقي " .

قال ابن عساكر : ذكر بعض أهل العلم أن ابن أخيه هاشم بن عتبة بن أبي وقاص جاءه ، فقال له : يا عم ، هاهنا مائة ألف سيف يرونك أحق الناس بهذا [ ص: 285 ] الأمر . فقال : أريد من مائة ألف سيفا واحدا ; إذا ضربت به المؤمن لم يصنع شيئا ، وإذا ضربت به الكافر قطع .

وقال عبد الرزاق ، عن ابن جريج حدثني زكريا بن عمرو ، أن سعد بن أبي وقاص وفد على معاوية ، فأقام عنده شهر رمضان يقصر الصلاة ويفطر . وقال غيره : فبايعه : وما سأله سعد شيئا إلا أعطاه إياه .

قال أبو يعلى : حدثنا زهير ، ثنا إسماعيل بن علية ، عن إسماعيل بن أبي خالد ، عن قيس بن أبي حازم قال : قال سعد : إني لأول رجل رمى بسهم في المشركين ، وما جمع رسول الله صلى الله عليه وسلم أبويه لأحد قبلي ، ولقد سمعته يقول : " ارم فداك أبي وأمي " .

وقال الإمام أحمد : حدثنا يزيد بن هارون ، ثنا إسماعيل ، عن قيس ، سمعت سعد بن مالك يقول : والله إني لأول العرب رمى بسهم في سبيل الله ، ولقد كنا نغزو مع رسول الله صلى الله عليه وسلم وما لنا طعام نأكله إلا ورق الحبلة وهذا السمر ، حتى إن أحدنا ليضع كما تضع الشاة ما له خلط ، ثم أصبحت بنو [ ص: 286 ] أسد تعزرني على الدين ، لقد خبت إذا وضل عملي . وقد رواه شعبة ووكيع وغير واحد ، عن إسماعيل بن أبي خالد به .

وقال أحمد : حدثنا ابن سعيد ، عن يحيى بن سعيد الأنصاري ، عن سعيد بن المسيب ، عن سعد قال : جمع لي رسول الله صلى الله عليه وسلم أبويه يوم أحد . ورواه أحمد أيضا عن غندر ، عن شعبة ، عن يحيى بن سعيد الأنصاري ، وقد رواه الليث وغير واحد عن يحيى بن سعيد الأنصاري . ورواه غير واحد عن سعيد بن المسيب ، عن سعد . ورواه الناس من حديث عامر بن سعد ، عن أبيه . وفي بعض الروايات : " فداك أبي وأمي " . وفي رواية : فقال : " ارم وأنت [ ص: 287 ] الغلام الحزور " . قال سعيد : وكان سعد جيد الرمي .

وقال الأعمش ، عن أبي خالد ، عن جابر بن سمرة قال : أول الناس رمى بسهم في سبيل الله سعد ، رضي الله عنه .

وقال الإمام أحمد : حدثنا وكيع ، ثنا سفيان ، عن سعد بن إبراهيم ، عن عبد الله بن شداد ، سمعت عليا يقول : ما سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يفدي أحدا بأبويه إلا سعد بن مالك ، وإني سمعته يقول له يوم أحد : " ارم سعد ، فداك أبي وأمي " . ورواه البخاري ، عن أبي نعيم ، عن مسعر ، عن سعد بن إبراهيم به . ورواه شعبة ، عن سعد بن إبراهيم . ورواه سفيان بن عيينة وغير واحد ، عن يحيى بن سعيد الأنصاري ، عن سعيد بن المسيب ، عن علي بن أبي طالب فذكره .

وقال عبد الرزاق : أنا معمر ، عن أيوب ، أنه سمع عائشة بنت سعد تقول : أنا ابنة المهاجر الذي فداه رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم أحد بالأبوين .

[ ص: 288 ] وقال الواقدي : حدثني عبيدة بنت نابل ، عن عائشة بنت سعد عن أبيها قال : لقد رأيتني أرمي بالسهم يوم أحد ، فيرده علي رجل أبيض حسن الوجه لا أعرفه ، حتى كان بعد ، فظننت أنه ملك .

وقال الإمام أحمد : حدثنا سليمان بن داود الهاشمي ، ثنا إبراهيم ، عن سعد ، عن أبيه ، عن سعد بن أبي وقاص قال : لقد رأيت عن يمين رسول الله صلى الله عليه وسلم وعن يساره يوم أحد رجلين عليهما ثياب بيض ، يقاتلان عنه كأشد القتال ، ما رأيتهما قبل ولا بعد .

ورواه الواقدي : حدثني أبو إسحاق بن أبي عبد الله ، عن عبد الواحد بن أبي عون ، عن زياد مولى سعد ، عن سعد قال : رأيت رجلين يوم بدر يقاتلان عن رسول الله صلى الله عليه وسلم ; أحدهما عن يمينه والآخر عن يساره ، وإنى لأراه ينظر إلى ذا مرة وإلى ذا مرة ; سرورا بما ظفره الله ، عز وجل .

وقال سفيان ، عن أبي إسحاق ، عن أبي عبيدة ، عن عبد الله بن مسعود [ ص: 289 ] قال : اشتركت أنا وسعد وعمار يوم بدر فيما أصبنا من الغنيمة ، فجاء سعد بأسيرين ، ولم أجئ أنا وعمار بشيء .

وقال الأعمش ، عن إبراهيم ، عن علقمة ، عن ابن مسعود قال : لقد رأيت سعد بن أبي وقاص يوم بدر يقاتل قتال الفارس للراجل .

وقال مالك ، عن يحيى بن سعيد ، أنه سمع عبد الله بن عامر بن ربيعة يقول : قالت عائشة : بات رسول الله صلى الله عليه وسلم أرقا ذات ليلة ، ثم قال : " ليت رجلا صالحا يحرسني الليلة " . قالت : إذ سمعنا صوت السلاح ، فقال : " من هذا ؟ " قال : أنا سعد بن أبي وقاص ، أنا أحرسك يا رسول الله . قالت : فنام رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى سمعت غطيطه . أخرجاه من حديث يحيى بن سعيد . وفي رواية : فدعا له رسول الله صلى الله عليه وسلم ثم نام .

وقال الإمام أحمد : حدثنا قتيبة ، ثنا رشدين بن سعد ، عن الحجاج بن شداد ، عن أبي صالح الغفاري ، عن عبد الله بن عمرو بن العاص ، أن [ ص: 290 ] رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : " أول من يدخل من هذا الباب رجل من أهل الجنة " . فدخل سعد بن أبي وقاص .

وقال أبو يعلى : حدثنا محمد بن المثنى ، ثنا عبد الله بن قيس الرقاشي الخراز ، بصري ، ثنا أيوب ، عن نافع ، عن ابن عمر قال : كنا جلوسا عند رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال : " يدخل عليكم من ذا الباب رجل من أهل الجنة " . قال : فليس منا أحد إلا وهو يتمنى أن يكون من أهل بيته ، فإذا سعد بن أبي وقاص قد طلع .

وقال حرملة ، عن ابن وهب أخبرني حيوة ، أخبرني عقيل ، عن ابن شهاب ، حدثني من لا أتهم ، عن أنس بن مالك قال : بينا نحن جلوس عند رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال : " يطلع عليكم الآن رجل من أهل الجنة " . فاطلع سعد بن أبي وقاص حتى إذا كان الغد قال رسول الله صلى الله عليه وسلم مثل ذلك . قال : فاطلع سعد بن أبي وقاص على ترتيبه الأول ، حتى إذا كان الغد قال رسول الله صلى الله عليه وسلم مثل ذلك ، فطلع على ترتيبه ، فلما قام رسول الله صلى الله عليه وسلم ثار عبد الله بن عمرو بن العاص فقال : إني غاضبت أبي ، فأقسمت أن لا أدخل عليه ثلاث ليال ، فإن رأيت أن تؤويني إليك حتى تنحل يميني ، فعلت . قال أنس : فزعم عبد الله بن عمرو أنه بات معه ليلة ، حتى إذا كان مع الفجر فلم يقم تلك الليلة [ ص: 291 ] شيئا ، غير أنه كان إذا انقلب على فراشه ذكر الله ، وكبره حتى يقوم مع الفجر ، فإذا صلى المكتوبة أسبغ الوضوء وأتمه ، ثم يصبح مفطرا . قال عبد الله بن عمرو : فرمقته ثلاث ليال وأيامهن ، لا يزيد على ذلك ، غير أني لا أسمعه يقول إلا خيرا ، فلما مضت الليالي الثلاث وكدت أحتقر عمله قلت : إنه لم يكن بيني وبين أبي غضب ولا هجرة ، ولكني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم قال ذلك قبل ثلاث مرات في ثلاثة مجالس : " يطلع عليكم رجل من أهل الجنة " . فاطلعت أنت أولئك المرات الثلاث ، فأردت أن آوي إليك حتى أنظر ما عملك فأقتدي بك ، فلم أرك تعمل كثير عمل ، فما الذي بلغ بك ما قال رسول الله صلى الله عليه وسلم ؟ فقال : ما هو إلا الذي رأيت . قال : فلما رأيت ذلك انصرفت عنه ، فدعاني حين وليت ، فقال : ما هو إلا ما رأيت ، غير أني لا أجد في نفسي سوءا لأحد من المسلمين ، ولا أنوي له شرا ولا أقوله . قال : هذه التي بلغت بك ، وهي التي لا أطيق . وهكذا رواه صالح المري ، عن عمرو بن دينار مولى آل الزبير ، عن سالم عن أبيه ، فذكر مثل رواية أنس بن مالك .

وثبت في " صحيح مسلم " من طريق سفيان الثوري ، عن المقدام بن [ ص: 292 ] شريح ، عن أبيه ، عن سعد ، في قوله تعالى ولا تطرد الذين يدعون ربهم بالغداة والعشي يريدون وجهه [ الأنعام : 52 ] . نزلت في ستة ، أنا وابن مسعود منهم . وفي رواية : أنزل الله في وإن جاهداك لتشرك بي ما ليس لك به علم فلا تطعهما [ العنكبوت : 8 ] . وذلك أنه لما أسلم امتنعت أمه من الطعام والشراب أياما ، فقال لها : تعلمين والله لو كانت لك مائة نفس ، فخرجت نفسا نفسا ، ما تركت ديني هذا لشيء ، إن شئت فكلي ، وإن شئت فلا تأكلي . فنزلت هذه الآية .

وأما حديث الشهادة للعشرة بالجنة ، فثبت في الصحيح ، من حديث سعيد بن زيد ، وجاء من حديث سهيل ، عن أبيه ، عن أبي هريرة في قصة حراء ، ذكر سعد بن أبي وقاص منهم .

وقال هشيم وغير واحد ، عن مجالد ، عن الشعبي ، عن جابر قال : كنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم فأقبل سعد ، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " هذا خالي ، فليرني امرؤ خاله " . رواه الترمذي .

[ ص: 293 ] وقال الطبراني : حدثنا الحسين بن إسحاق التستري ، ثنا عبد الوهاب بن الضحاك ، ثنا إسماعيل بن عياش ، عن صفوان بن عمرو ، عن ماعز التميمي ، عن جابر قال : كنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم إذ أقبل سعد فقال : " هذا خالي " .

وثبت في الصحيحين من حديث مالك وغيره ، عن الزهري ، عن عامر بن سعد ، عن أبيه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم جاءه يعوده عام حجة الوداع من وجع اشتد به ، فقلت : يا رسول الله ، إني ذو مال ولا يرثني إلا ابنة ، أفأتصدق بثلثي مالي ؟ قال : " لا " . قلت : فالشطر يا رسول الله ؟ قال : " لا " . قلت : فالثلث ؟ قال : " الثلث والثلث كثير ، إنك أن تذر ورثتك أغنياء خير من أن تذرهم عالة يتكففون الناس ، وإنك لن تنفق نفقة تبتغي بها وجه الله إلا أجرت بها ، حتى ما تجعل في في امرأتك " - وفي رواية : حتى اللقمة تضعها في فم امرأتك - قلت : يا رسول الله ، أخلف بعد أصحابي ؟ فقال : " إنك لن تخلف فتعمل عملا تبتغي به وجه الله ، إلا ازددت به درجة ورفعة ، ولعلك أن تخلف حتى ينتفع بك أقوام ويضر بك آخرون " . ثم قال : " اللهم أمض لأصحابي [ ص: 294 ] هجرتهم ، ولا تردهم على أعقابهم ، لكن البائس سعد بن خولة " . يرثي له رسول الله صلى الله عليه وسلم أن مات بمكة . ورواه أحمد ، عن يحيى بن سعيد ، عن الجعد بن أوس ، عن عائشة بنت سعد عن أبيها ، فذكر نحوه ، وفيه : قال : فوضع يده على جبهته ، فمسح وجهه وصدره وبطنه ، وقال : " اللهم اشف سعدا وأتم له هجرته " . قال سعد : فما زلت يخيل إلي أني أجد برد يده على كبدي حتى الساعة .

وقال ابن وهب : حدثني موسى بن علي بن رباح ، عن أبيه ، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم عاد سعدا فقال : " اللهم أذهب عنه الباس ، إله الناس ، ملك الناس ، أنت الشافي لا شافي له إلا أنت ، بسم الله أرقيك من كل شيء يؤذيك ، من حسد وعين ، اللهم أصح قلبه وجسمه ، واكشف سقمه وأجب دعوته " .

وقال ابن وهب : أخبرني عمرو ، عن بكير بن الأشج قال : سألت عامر بن سعد عن قول رسول الله صلى الله عليه وسلم لسعد : " وعسى أن تبقى ينتفع بك أقوام ويضر بك آخرون " . فقال : أمر سعد على العراق ، فقتل قوما على الردة فضرهم ، [ ص: 295 ] واستتاب قوما كانوا سجعوا سجع مسيلمة الكذاب ، فتابوا فانتفعوا به .

وقال الإمام أحمد : حدثنا أبو المغيرة ، ثنا معان بن رفاعة ، حدثني علي بن يزيد ، عن القاسم أبي عبد الرحمن ، عن أبي أمامة قال : جلسنا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فذكرنا ورققنا ، فبكى سعد بن أبي وقاص ، فأكثر البكاء ، وقال : يا ليتني مت . فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " يا سعد ، أعندي تتمنى الموت ! " فردد ذلك ثلاث مرات ثم قال : " يا سعد ، إن كنت للجنة خلقت ، فما طال عمرك أو حسن من عملك ، فهو خير لك " .

وقال موسى بن عقبة وغيره ، عن إسماعيل بن أبي خالد ، عن قيس ، عن سعد ، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : " اللهم سدد رميته وأجب دعوته " .

ورواه بيان بن بشر ، عن قيس ، عن أبي بكر الصديق قال : سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول لسعد : " اللهم سدد سهمه وأجب دعوته ، وحببه إلى عبادك " .

[ ص: 296 ] وروى من حديث ابن عباس . وفي رواية محمد بن عائذ الدمشقي ، عن الهيثم بن حميد ، عن مطعم بن المقدام وغيره ، أن سعدا قال : يا رسول الله ، ادع الله أن يجيب دعوتي . فقال : " إن الله لا يستجيب دعوة عبد حتى يطيب مطعمه " . فقال : يا رسول الله ، ادع الله أن يطيب طعمتي . فدعا له . قالوا : فكان سعد يتورع من السنبلة يجدها في زرعه ، فيردها من حيث أخذت .

وقد كان كذلك مجاب الدعوة ، لا يكاد يدعو بدعاء إلا استجيب له ، فمن أشهر ذلك ما ثبت في " الصحيحين " من طريق عبد الملك بن عمير ، عن جابر بن سمرة ، أن أهل الكوفة شكوا سعدا إلى عمر في كل شيء حتى قالوا : لا يحسن يصلي . فقال سعد : أما إني لا آلو أن أصلي بهم صلاة رسول الله صلى الله عليه وسلم ; أطيل الأوليين ، وأحذف في الأخريين . فقال : ذاك الظن بك يا أبا إسحاق . وكان قد بعث من يسأل عنه بمحال الكوفة ، فجعلوا لا يسألون أهل مسجد إلا أثنوا خيرا ، حتى مروا بمسجد لبني عبس ، فقام رجل منهم يقال له : أبو سعدة أسامة بن قتادة . فقال : إن سعدا كان لا يسير في السرية ، [ ص: 297 ] ولا يقسم بالسوية ، ولا يعدل في القضية . فبلغ سعدا قوله فقال : اللهم إن كان عبدك هذا قام مقام رياء وسمعة ، فأطل عمره وأدم فقره ، وعرضه للفتن . قال : فأنا رأيته بعد ذلك شيخا كبيرا ، قد سقط حاجباه على عينيه ، يقف في الطريق ، فيغمز الجواري ، فيقال له في ذلك ، فيقول : شيخ مفتون أصابته دعوة سعد . وفي رواية غريبة ، أنه أدرك فتنة المختار بن أبي عبيد فقتل فيها .

وقال الطبراني : ثنا يوسف القاضي ، ثنا عمرو بن مرزوق ، ثنا شعبة ، عن سعد بن إبراهيم ، عن سعيد بن المسيب قال : خرجت جارية لسعد يقال لها : زبراء . وعليها قميص جديد ، فكشفتها الريح ، فشد عليها عمر بالدرة ، وجاء سعد ليمنعه ، فتناوله عمر بالدرة ، فذهب سعد يدعو على عمر ، فناوله الدرة وقال : اقتص . فعفا عن عمر .

وروى أيضا أنه كان بين سعد وابن مسعود كلام ، فهم سعد أن يدعو [ ص: 298 ] عليه ، فخاف ابن مسعود ، وجعل يشتد في الهرب .

وقال سفيان بن عيينة : لما كان يوم القادسية كان سعد على الناس ، وقد أصابته جراح ، فلم يشهد يوم الفتح ، يعني فتح القادسية ، فقال رجل من بجيلة :


ألم تر أن الله أظهر دينه     وسعد بباب القادسية معصم
فأبنا وقد آمت نساء كثيرة     ونسوة سعد ليس فيهن أيم

فقال سعد : اللهم اكفنا يده ولسانه . فجاءه سهم غرب ، فأصابه فخرس ويبست يداه جميعا .

وقد أسند زياد البكائي وسيف بن عمر ، عن عبد الملك بن عمير ، عن قبيصة بن جابر ، عن ابن عمر ، فذكر مثله ، وفيه : ثم خرج سعد ، فأرى الناس ما به من القروح في ظهره ; ليعتذر إليهم .

[ ص: 299 ] وقال هشيم ، عن أبي بلج ، عن مصعب بن سعد ، أن رجلا نال من علي ، فنهاه سعد فلم ينته ، فقال سعد : أدعو عليك . فلم ينته ، فدعا الله عليه فما برح حتى جاء بعير ناد فتخبطه .

وجاء من وجه آخر ، عن عامر بن سعد ، أن سعدا رأى جماعة عكوفا على رجل ، فأدخل رأسه من بين اثنين ، فإذا هو يسب عليا وطلحة والزبير ، فنهاه عن ذلك ، فلم ينته ، فقال : أدعو عليك . فقال الرجل : تتهددني كأنك نبي ! فانصرف سعد ، فدخل دار آل فلان ، فتوضأ ، وصلى ركعتين ، ثم رفع يديه ، فقال : اللهم إن كنت تعلم أن هذا الرجل قد سب أقواما قد سبق لهم منك سابقة الحسنى ، وأنه قد أسخطك سبه إياهم ، فاجعله اليوم آية وعبرة . قال : فخرجت بختية نادة من دار آل فلان لا يردها شيء حتى دخلت بين أضعاف الناس ، فافترق الناس ، فأخذته بين قوائمها ، فلم تزل تتخبطه حتى مات . قال : فلقد رأيت الناس يشتدون وراء سعد يقولون : استجاب الله دعاءك يا أبا إسحاق . ورواه حماد بن سلمة ، عن علي بن زيد ، عن سعيد بن المسيب ، فذكر نحوه .

وقال أبو بكر بن أبي الدنيا : حدثني الحسن بن داود بن محمد بن [ ص: 300 ] المنكدر القرشي ، ثنا عبد الرزاق ، عن أبيه ، عن مينا مولى عبد الرحمن بن عوف ، أن امرأة كانت تطلع على سعد ، فنهاها فلم تنته ، فاطلعت يوما وهو يتوضأ ، فقال : شاه وجهك . فعاد وجهها في قفاها .

وقال كثير النواء عن عبد الله بن مليل قال : دخل سعد على معاوية فقال له : ما لك لم تقاتل معنا ؟ فقال : إني مرت بي ريح مظلمة فقلت : أخ أخ . فأنخت راحلتي حتى انجلت عني ، ثم عرفت الطريق فسرت . فقال معاوية : ليس في كتاب الله أخ أخ ، ولكن قال الله تعالى : وإن طائفتان من المؤمنين اقتتلوا فأصلحوا بينهما فإن بغت إحداهما على الأخرى فقاتلوا التي تبغي حتى تفيء إلى أمر الله [ الحجرات : 9 ] . فوالله ما كنت مع الباغية على العادلة ، ولا مع العادلة على الباغية . فقال سعد : ما كنت لأقاتل رجلا قال له رسول الله صلى الله عليه وسلم " أنت مني بمنزلة هارون من موسى غير أنه لا نبي بعدي " . فقال معاوية : من سمع هذا معك ؟ فقال : فلان وفلان وأم سلمة . فقال معاوية : أما إني لو سمعته منه صلى الله عليه وسلم لما قاتلت عليا . وفي رواية من وجه آخر أن هذا الكلام كان بينهما وهما بالمدينة في حجة حجها معاوية ، وأنهما قاما إلى أم سلمة فسألاها فحدثتهما بما حدث به سعد ، فقال معاوية : لو سمعت هذا قبل هذا اليوم لكنت خادما لعلي حتى يموت أو أموت . وفي إسناد هذا ضعف . والله أعلم .

[ ص: 301 ] وقد روي عن سعد ، أنه سمع رجلا يتكلم في علي وفي خالد فقال : إنه لم يبلغ ما بيننا ديننا .

وقال محمد بن سيرين : طاف سعد على تسع جوار في ليلة ، فلما انتهى إلى العاشرة أخذه النوم ، فاستحيت أن توقظه .

ومن كلامه الحسن أنه قال لابنه مصعب : يا بني ، إذا طلبت شيئا فاطلبه بالقناعة ، فإنه من لا قناعة له لم يغنه المال .

وقال حماد بن سلمة ، عن سماك بن حرب ، عن مصعب بن سعد قال : كان رأس أبي في حجري وهو يقضي فبكيت ، فقال : ما يبكيك يا بني ؟ والله إن الله لا يعذبني أبدا ، وإني من أهل الجنة ، إن الله يدين للمؤمنين بحسناتهم فاعملوا لله ، وأما الكفار فيخفف عنهم بحسناتهم ، فإذا نفدت قال : ليطلب كل عامل ثواب عمله ممن عمل له .

وقال الزهري : لما حضرت سعدا الوفاة دعا بخلق جبة فقال : كفنوني فيها ، فإني لقيت فيها المشركين يوم بدر ، وإنما كنت أخبئها لهذا اليوم .

[ ص: 302 ] وكانت وفاة سعد بالعقيق خارج المدينة ، فحمل إلى المدينة على أعناق الرجال ، فصلى عليه مروان ، وصلى بصلاته أمهات المؤمنين الباقيات الصالحات ، ودفن بالبقيع ، وكان ذلك في هذه السنة - سنة خمس وخمسين - على المشهور الذي عليه الأكثرون ، وقد جاوز الثمانين ، على الصحيح .

قال علي بن المديني : وهو آخر العشرة وفاة . وقال غيره : كان آخر المهاجرين وفاة . رضي الله عنه وعنهم أجمعين .

وقال الهيثم بن عدي : سنة خمسين .

وقال أبو معشر وأبو نعيم وقعنب بن المحرر : توفي سعد سنة ثمان وخمسين .

وقال قعنب : وفيها توفي الحسن بن علي وعائشة وأم سلمة . والصحيح الأول ; خمس وخمسين .

قالوا : وكان سعد قصيرا غليظا شثن الأصابع أفطس ، أشعر الجسد ، [ ص: 303 ] يخضب بالسواد ، وكان ميراثه مائتي ألف وخمسين ألفا .

فضالة بن عبيد الأنصاري الأوسي

أول مشاهده أحد وشهد بيعة الرضوان ، ودخل الشام ، وتولى القضاء بدمشق في أيام معاوية بعد أبي الدرداء .

قال أبو عبيد : مات سنة ثلاث وخمسين . وقال غيره : سنة سبع وستين .

وقال ابن الجوزي في " المنتظم " : توفي في هذه السنة . والله أعلم .

قثم بن العباس بن عبد المطلب

كان أشبه الناس برسول الله صلى الله عليه وسلم ، تولى نيابة المدينة في أيام علي ، وشهد فتح سمرقند مما وراء النهر ، فاستشهد بها ، رحمه الله .

كعب بن عمرو أبو اليسر الأنصاري السلمي

شهد العقبة وبدرا ، وأسر يومئذ العباس بن عبد المطلب ، وشهد ما بعد ذلك من المشاهد كلها مع رسول الله صلى الله عليه وسلم .

قال أبو حاتم وغيره : مات سنة خمس وخمسين . زاد غيره : وهو آخر [ ص: 304 ] من مات من أهل بدر .

التالي السابق


الخدمات العلمية