صفحة جزء
[ ص: 349 ]

ذكر من توفي في هذه السنة من المشاهير والأعيان

ذكر ابن الجوزي أنه توفي فيها أسامة بن زيد . والصحيح قبلها كما تقدم .

الحطيئة الشاعر

واسمه جرول بن أوس بن مالك بن جؤية بن مخزوم بن مالك بن قطيعة بن عبس ، أبو مليكة ، الشاعر الملقب بالحطيئة لقصره ، أدرك الجاهلية ، وأسلم في زمن الصديق ، وكان كثير الهجاء ، حتى يقال : إنه هجا أباه وأمه ، وخاله وعمه ، ونفسه وعرسه . فمما قال في أمه قوله :


تنحي فاقعدي عني بعيدا أراح الله منك العالمينا     أغربالا إذا استودعت سرا
وكانونا على المتحدثينا     جزاك الله شرا من عجوز
ولقاك العقوق من البنينا

وقال في أبيه وعمه وخاله :


لحاك الله ثم لحاك حقا     أبا ولحاك من عم وخال
[ ص: 350 ] فنعم الشيخ أنت لدى المخازي     وبئس الشيخ أنت لدى المعالي

ومما قال في نفسه يذمها :


أبت شفتاي اليوم إلا تكلما     بشر فما أدري لمن أنا قائله
أرى لي وجها شوه الله خلقه     فقبح من وجه وقبح حامله

وقد شكاه الناس إلى أمير المؤمنين عمر بن الخطاب فأحضره وحبسه ، وكان سبب ذلك أن الزبرقان بن بدر شكاه لعمر أنه قال له يهجوه :


دع المكارم لا ترحل لبغيتها     واقعد فإنك أنت الطاعم الكاسي

فقال له عمر : ما أراه هجاك ، أما ترضى أن تكون طاعما كاسيا ؟ فقال : يا أمير المؤمنين ، إنه لا يكون هجاء أشد من هذا . فبعث عمر إلى حسان بن ثابت ، فسأله عن ذلك ، فقال : يا أمير المؤمنين ، ما هجاه ولكن سلح عليه . فعند ذلك حبسه عمر ، وقال : يا خبيث ، لأشغلنك عن أعراض المسلمين . ثم شفع فيه عمرو بن العاص ، فأخرجه ، وأخذ عليه العهد أن لا يهجو الناس واستتابه . ويقال : إنه أراد أن يقطع لسانه ، فشفعوا فيه حتى أطلقه .

وقال الزبير بن بكار : حدثني محمد بن الضحاك بن عثمان الحزامي ، عن عبد الله بن مصعب حدثني عن ربيعة بن عثمان ، عن زيد بن أسلم ، عن أبيه قال : أمر عمر بإخراج الحطيئة من الحبس ، وقد كلمه فيه عمرو بن العاص [ ص: 351 ] وغيره ، فأخرج وأنا حاضر ، فأنشأ يقول :


ماذا تقول لأفراخ بذي مرخ     زغب الحواصل لا ماء ولا شجر
غادرت كاسبهم في قعر مظلمة     فارحم هداك مليك الناس يا عمر
أنت الإمام الذي من بعد صاحبه     ألقى إليك مقاليد النهى البشر
لم يؤثروك بها إذ قدموك لها     لكن لأنفسهم كانت بك الإثر
فامنن على صبية بالرمل مسكنهم     بين الأباطح يغشاهم بها القدر
نفسي فداؤك كم بيني وبينهم     من عرض داوية يعمى بها الخبر

قال : فلما قال الحطيئة :


ماذا تقول لأفراخ بذي مرخ

بكى عمر ، فقال عمرو بن العاص : ما أظلت الخضراء ولا أقلت الغبراء أعدل من رجل يبكي على تركه الحطيئة . ثم ذكر أنه أراد قطع لسان الحطيئة لئلا يهجو به الناس ، فأجلسه على كرسي ، وجيء بالموسى ، فقال الناس : لا يعود يا أمير المؤمنين . وأشاروا إليه قل : لا أعود . فقال له عمر : النجاء . فلما ولى قال له عمر : ارجع يا حطيئة . فرجع ، فقال له : كأني بك عند شاب من قريش قد كسر لك نمرقة ، وبسط لك أخرى ، وقال : يا حطيئة ، غننا . فاندفعت تغنيه بأعراض الناس . قال أسلم : فرأيت الحطيئة بعد ذلك عند عبيد الله بن عمر وقد كسر له نمرقة ، وبسط له أخرى ، وقال : يا حطيئة ، غننا . فاندفع حطيئة يغني ، [ ص: 352 ] فقلت له : يا حطيئة ، أتذكر يوم عمر حين قال لك ما قال ؟ ففزع وقال : رحم الله ذلك المرء ، لو كان حيا ما فعلنا هذا . فقلت لعبيد الله : إني سمعت أباك يقول كذا وكذا ، فكنت أنت ذلك الرجل .

وقال الزبير : حدثني محمد بن الضحاك ، عن أبيه قال : قال عمر للحطيئة : دع قول الشعر . قال : لا أستطيع . قال : لم ؟ قال : هو مأكلة عيالي ، ونملة على لساني . قال : فدع المدحة المجحفة . قال : وما هي يا أمير المؤمنين ؟ قال : تقول : بنو فلان أفضل من بني فلان . امدح ولا تفضل . فقال : أنت أشعر مني يا أمير المؤمنين .

ومن مديحه الجيد المشهور قوله :


أقلوا عليهم لا أبا لأبيكم     من اللوم أو سدوا المكان الذي سدوا
أولئك قومي إن بنوا أحسنوا البنا     وإن عاهدوا أوفوا وإن عقدوا شدوا
وإن كانت النعماء فيهم جزوا بها     وإن أنعموا لا كدروها ولا
كدوا

قالوا : ولما احتضر الحطيئة قيل له : أوص . فقال : أوصيكم بالشعر . ثم قال :


الشعر صعب وطويل سلمه     إذا ارتقى فيه الذي لا يعلمه
زلت به إلى الحضيض قدمه     والشعر لا يسطيعه من يظلمه

[ ص: 353 ] يريد أن يعربه فيعجمه قال أبو الفرج بن الجوزي في " المنتظم " : توفي الحطيئة في هذه السنة . وذكر أيضا فيها وفاة عبد الله بن عامر بن كريز . وقد تقدم في التي قبلها .

عبد الله بن مالك بن القشب

واسمه جندب بن نضلة بن عبد الله بن رافع الأزدي ، أبو محمد ، حليف بني المطلب ، المعروف بابن بحينة ، وهي أمه بحينة بنت الأرت ، واسمه الحارث بن المطلب بن عبد مناف ، أسلم قديما ، وصحب رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وكان ناسكا صواما قواما ، وكان ممن يسرد صوم الدهر كله .

قال ابن سعد : كان ينزل بطن ريم على ثلاثين ميلا من المدينة . ومات في عمل مروان في المرة الثانية ، ما بين سنة أربع وخمسين إلى ثمان وخمسين ، والعجب أن ابن الجوزي نقل من كلام محمد بن سعد ، ثم إنه ذكر وفاته في هذه السنة ، يعني سنة تسع وخمسين . فالله أعلم .



قيس بن سعد بن عبادة الأنصاري الخزرجي

صحابي جليل كأبيه ، له في " الصحيحين " حديث ، وهو القيام للجنازة ، وله في " المسند " حديث في [ ص: 354 ] صوم عاشوراء ، وحديث غسل رسول الله صلى الله عليه وسلم في دارهم ، وغير ذلك ، وخدم رسول الله صلى الله عليه وسلم عشر سنين .

وثبت في " صحيح البخاري " عن أنس قال : كان قيس بن سعد من النبي صلى الله عليه وسلم بمنزلة صاحب الشرطة من الأمير . وحمل لواء رسول الله صلى الله عليه وسلم في بعض الغزوات ، واستعمله على الصدقة . ولما بعث رسول الله صلى الله عليه وسلم أبا عبيدة بن الجراح ، ومعه ثلاثمائة من المهاجرين والأنصار ، فأصابهم ذلك الجهد الكثير ، فنحر لهم قيس بن سعد تسع جزائر ، حتى وجدوا تلك الدابة على سيف البحر ، فأكلوا منها ، وأقاموا عليها شهرا حتى سمنوا .

وكان قيس سيدا مطاعا كريما ممدحا شجاعا ، ولاه علي نيابة مصر ، وكان يقاوم بدهائه وخديعته وسياسته لمعاوية وعمرو بن العاص ، ولم يزل معاوية يعمل عليه حتى عزله علي عن مصر ، وولى عليها محمد بن أبي بكر الصديق ، فاستخفه معاوية ، ولم يزل به حتى أخذ منه مصر كما قدمنا ذكره . وأقام قيس عند علي ، فشهد معه صفين والنهروان ، ولزمه حتى قتل ، ثم صار إلى المدينة ، فلما اجتمعت الكلمة على معاوية جاءه ليبايعه ، كما بايعه أصحابه .

قال عبد الرزاق ، عن ابن عيينة قال : قدم قيس بن سعد على معاوية ; [ ص: 355 ] ليبايعه كما بايع أصحابه ، فقال له معاوية : وأنت يا قيس تلجم علي مع من ألجم ؟ أما والله لقد كنت أحب أن لا تأتي هذا اليوم إلا وقد ظفر بك ظفر من أظافري موجع . فقال له قيس : وأنا والله قد كنت كارها أن أقوم في هذا المقام فأحييك بهذه التحية . فقال له معاوية : ولم ؟ وهل أنت إلا حبر من أحبار يهود ؟ فقال له قيس : وأنت يا معاوية كنت صنما من أصنام الجاهلية ، دخلت في الإسلام كارها ، وخرجت منه طائعا . فقال معاوية : اللهم غفرا ، مد يدك . فقال له قيس بن سعد : إن شئت زدت وزدت .

وقال موسى بن عقبة : قالت عجوز لقيس : أشكو إليك قلة الجرذان . فقال قيس : ما أحسن هذه الكناية ! املئوا بيتها خبزا ولحما وسمنا وتمرا .

وقال غيره : وكانت له صحفة يدار بها حيث دار ، وكان ينادي له مناد : هلموا إلى اللحم والثريد . وكان أبوه وجده من قبله يفعلان كفعله .

وقال عروة بن الزبير : باع قيس بن سعد من معاوية أرضا بتسعين ألفا ، فقدم المدينة ، فنادى مناديه : من أراد القرض فليأت . فأقرض منها خمسين ألفا وأطلق الباقي ، ثم مرض بعد ذلك فقل عواده ، فقال لزوجته قريبة بنت أبي عتيق أخت أبي بكر الصديق : إني أرى قلة عوادي في مرضي هذا ، وإني لأرى ذلك [ ص: 356 ] من أجل ما لي على الناس من القرض . فبعث إلى كل رجل ممن كان له عليه دين بصكه المكتوب عليه ، فوهبهم ما له عليهم ، وقيل : إنه أمر مناديه فنادى : من كان لقيس بن سعد عليه دين فهو منه في حل . فما أمسى حتى كسرت عتبة بابه من كثرة العواد ، وكان يقول : اللهم ارزقني مالا وفعالا ، فإنه لا يصلح الفعال إلا بالمال .

وقال سفيان الثوري : اقترض رجل من قيس بن سعد ثلاثين ألفا ، فلما جاء ليوفيه إياها قال له قيس : إنا قوم إذا أعطينا أحدا شيئا لا نرجع فيه .

وقال الهيثم بن عدي : اختلف ثلاثة عند الكعبة في أكرم أهل زمانهم ، فقال أحدهم : عبد الله بن جعفر . وقال الآخر : قيس بن سعد . وقال الآخر : عرابة الأوسي . فتماروا في ذلك حتى ارتفع ضجيجهم عند الكعبة ، فقال لهم رجل : فليذهب كل رجل منكم إلى صاحبه الذي يزعم أنه أكرم من غيره ، فلينظر ما يعطيه وليحكم على العيان . فذهب صاحب عبد الله بن جعفر إليه ، فوجده قد وضع رجله في الغرز ليذهب إلى ضيعة له ، فقال له : يا ابن عم رسول الله ، ابن سبيل ومنقطع به . قال : فأخرج رجله من الغرز وقال : ضع رجلك واستو عليها ، فهي لك بما عليها ، وخذ ما في الحقيبة ولا تخدعن عن السيف ، فإنه من سيوف علي . فرجع إلى أصحابه بناقة عظيمة ، وإذا في الحقيبة أربعة آلاف دينار ، ومطارف من خز وغير ذلك ، وأجل ذلك سيف علي بن أبي [ ص: 357 ] طالب رضي الله عنه . ومضى صاحب قيس بن سعد إليه ، فوجده نائما ، فقالت له الجارية : ما حاجتك إليه ؟ قال : ابن سبيل ومنقطع به . قالت : فحاجتك أيسر من إيقاظه ، هذا كيس فيه سبعمائة دينار ما في دار قيس مال غيره اليوم ، واذهب إلى مولانا في معاطن الإبل ، فخذ لك ناقة وعبدا ، واذهب راشدا . فلما استيقظ قيس من رقدته أخبرته الجارية بما صنعت ، فأعتقها شكرا على صنيعها ذلك ، وقال : هلا أيقظتني حتى أعطيه ما يكفيه ، فلعل الذي أعطيته لا يقع منه موقع حاجته . وذهب صاحب عرابة الأوسي إليه ، فوجده وقد خرج من منزله يريد الصلاة ، وهو يتوكأ على عبدين ، وقد كف بصره ، فقال له : يا عرابة . فقال : قل . فقال : ابن سبيل ومنقطع به . قال : فخلى عن العبدين ثم صفق بيده اليمنى على اليسرى ، ثم قال : أوه أوه ، والله ما أصبحت ولا أمسيت وقد تركت الحقوق من مال عرابة شيئا ، ولكن خذهما . يعني العبدين . فقال : ما كنت لأفعل . فقال : إن لم تأخذهما فهما حران فإن شئت فأعتق ، وإن شئت فخذ . وأقبل يلتمس الحائط بيده ، قال : فأخذهما وجاء بهما . قال : فحكم الناس على أن ابن جعفر قد جاد بمال عظيم ، وأن ذلك ليس بمستنكر له ، إلا أن السيف أجلها ، وأن قيسا أحد الأجواد ; حكم مملوكته في ماله بغير علمه ، واستحسانه ما فعلته ، وعتقه لها وما تكلم به وأجمعوا على أن أسخى الثلاثة عرابة الأوسي ; لأنه جهد من مقل .

وقال سفيان الثوري ، عن عمرو ، عن أبي صالح قال : قسم سعد بن عبادة ماله بين أولاده ، وخرج إلى الشام فمات بها ، فولد له ولد بعد وفاته ، فجاء [ ص: 358 ] أبو بكر وعمر إلى قيس بن سعد فقالا : إن أباك قسم ماله ، ولم يعلم بحال هذا الولد إذ كان حملا ، فاقسموا له معكم . فقال قيس : إني لا أغير ما فعله سعد ، ولكن نصيبي له . ورواه عبد الرزاق ، عن معمر ، عن أيوب ، عن محمد بن سيرين ، فذكره . ورواه عبد الرزاق ، عن ابن جريج ، أخبرني عطاء ، فذكره .

وقال ابن أبي خيثمة : ثنا أبو نعيم ، ثنا مسعر ، عن معبد بن خالد قال : كان قيس بن سعد لا يزال هكذا رافعا أصبعه المسبحة . يعني يدعو .

وقال هشام بن عمار : ثنا الجراح بن مليح ، ثنا أبو رافع ، عن قيس بن سعد قال : لولا أني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول : " المكر والخديعة في النار " . لكنت من أمكر هذه الأمة .

وقال الزهري : دهاة العرب حين ثارت الفتنة خمسة ; معاوية وعمرو بن العاص ، والمغيرة بن شعبة ، وقيس بن سعد وعبد الله بن بديل ، وكانا مع علي ، وكان المغيرة معتزلا بالطائف حتى حكم الحكمان ، فصار إلى معاوية .

وقد تقدم أن محمد بن أبي حذيفة كان قد تغلب على مصر ، وأخرج منها عبد الله بن سعد بن أبي سرح نائب عثمان بعد عمرو بن العاص ، فأقره عليها [ ص: 359 ] على مدة يسيرة ، ثم عزله بقيس بن سعد ، فلما دخلها سار فيها سيرة حسنة وضبطها ، وذلك في سنة ست وثلاثين ، فثقل أمره على معاوية وعمرو بن العاص ، فكاتباه ليكون معهما على علي فامتنع ، وأظهر للناس مناصحته لهما ، فشاع الخبر حتى بلغ عليا فعزله ، وبعث إلى مصر الأشتر النخعي ، فمات الأشتر في الرملة قبل أن يصل إليها ، فبعث علي محمد بن أبي بكر ، فخف أمره على معاوية وعمرو ، فلم يزالا حتى أخذا منه الديار المصرية ، وقتل محمد بن أبي بكر وأحرق في جيفة حمار ، وسار قيس إلى المدينة ثم سار إلى علي بالكوفة ، فكان معه في حروبه حتى قتل علي ، ثم على مقدمة الحسن ، فلما بايع الحسن معاوية ساء قيسا ذلك ، وامتنع من طاعة معاوية ، ثم ارتحل إلى المدينة ثم قدم على معاوية في وفد من الأنصار ، فبايع معاوية بعد معاتبة ، وكلام فيه غلظة ، ثم أكرمه معاوية وقدمه وحظي عنده ، فبينما هو مع الوفود عند معاوية إذ قدم كتاب ملك الروم على معاوية ، وفيه أن ابعث إلي بسراويل أطول رجل من العرب . فقال معاوية لقيس : ما أظننا إلا قد احتجنا إلى سراويلك . وكان قيس مديد القامة جدا ، لا يصل أطول الرجال إلى صدره ، فقام قيس فتنحى ، ثم خلع سراويله ، فألقاها إلى معاوية ، فقال له معاوية : يرحمك الله ، ما أردت إلى هذا ، هلا ذهبت إلى منزلك ثم أرسلت بها إلينا . فأنشأ قيس يقول عند ذلك :


أردت بها كي يعلم الناس أنها     سراويل قيس والوفود شهود
وأن لا يقولوا غاب قيس وهذه     سراويل عادي نمته ثمود
وإني من الحي اليماني لسيد     وما الناس إلا سيد ومسود
[ ص: 360 ] فكدهم بمثلي إن مثلي عليهم     شديد وخلقي في الرجال مزيد
وفضلني في الناس أصلي ووالدي     وباع به أعلو الرجال مديد

قال : فأمر معاوية أطول رجل في الوفد ، فوضعها على أنفه فوقعت بالأرض .

وفي رواية أن ملك الروم بعث إلى معاوية برجلين من جيشه يزعم أن أحدهما أقوى الروم ، والآخر أطول الروم ، فإن كان في جيشك من يفوقهما في قوة هذا وطول هذا بعثت إليك من الأسارى كذا وكذا ومن التحف كذا وكذا ، وإن لم يكن في جيشك من يشبههما فهادني ثلاث سنين . فلما حضرا عند معاوية قال : من لهذا القوي ؟ فقالوا : ما له إلا أحد رجلين ; إما محمد ابن الحنفية ، أو عبد الله بن الزبير . فجيء بمحمد ابن الحنفية ، وهو ابن علي بن أبي طالب ، فلما اجتمع الناس عند معاوية قال له معاوية : أتعلم فيم أرسلت إليك ؟ قال : لا . فذكر له أمر الرومي وشدة بأسه . فقال له : ما تريد ؟ فقال : تجلس لي أو أجلس لك ، وتناولني يدك أو أناولك يدي ، فأينا قدر على أن يقيم الآخر من مكانه غلبه ، وإلا فقد غلب . فقال له : ماذا تريد ; تجلس أو أجلس ؟ فقال له الرومي : بل اجلس أنت . فجلس محمد ابن الحنفية وأعطى الرومي يده ، فاجتهد الرومي بكل ما يقدر عليه من القوة أن يزيله من مكانه أو يحركه ليقيمه ، فلم يقدر على ذلك ، ولا وجد إليه سبيلا ، فغلب الرومي عند ذلك ، وظهر لمن معه من الوفود من بلاد الروم أنه قد غلب ، ثم قام محمد ابن الحنفية ، فقال [ ص: 361 ] للرومي : اجلس لي . فجلس وأعطى محمدا يده ، فما لبث أن أقامه سريعا ، ورفعه في الهواء ، ثم ألقاه على الأرض ، فسر بذلك معاوية سرورا عظيما ، ونهض قيس بن سعد ، فتنحى عن الناس ، ثم خلع سراويله ، وأعطاها لذلك الرومي الطويل ، فلبسها فبلغت إلى ثدييه وأطرافها تخط بالأرض ، فاعترف الروم بالغلب ، وبعث ملكهم ما كان التزمه لمعاوية ، وعاتب الأنصار قيس بن سعد في خلعه سراويله بحضرة الناس ، فقال ذلك الشعر المتقدم معتذرا به إليهم ، وليكون ذلك ألزم للحجة التي تقوم على الروم ، وأقطع لما حاولوه .

ورواه الحميدي ، عن سفيان بن عيينة ، عن عمرو بن دينار قال : كان قيس بن سعد رجلا ضخما جسيما صغير الرأس ، له لحية في ذقنه ، وكان إذا ركب الحمار خطت رجلاه في الأرض .

وقال الواقدي وخليفة بن خياط وغير واحد : توفي بالمدينة في آخر خلافة معاوية . وذكر ابن الجوزي وفاته في هذه السنة ، فتبعناه في ذلك .



معقل بن يسار المزني

صحابي جليل ، شهد الحديبية وكان هو الذي يرفع أغصان الشجرة عن وجه رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو يبايع الناس تحتها ، وكانت من السمر ، وهي المذكورة في القرآن في قوله تعالى : [ ص: 362 ] لقد رضي الله عن المؤمنين إذ يبايعونك تحت الشجرة [ الفتح : 18 ] . وقد ولاه عمر إمرة البصرة ، فحفر بها النهر المنسوب إليه ، فيقال : نهر معقل . وله بها دار .

قال الحسن البصري : دخل عبيد الله بن زياد على معقل بن يسار يعوده في مرضه الذي مات فيه ، فقال له معقل : إني محدثك حديثا سمعته من رسول الله صلى الله عليه وسلم ، لو لم أكن على حالتي هذه لم أحدثك به ، سمعته يقول : " من استرعاه الله رعية فلم يحطها بنصيحة ، لم يجد رائحة الجنة ، وإن ريحها ليوجد من مسيرة مائة عام " .

وممن توفي في هذه السنة

أبو هريرة الدوسي رضي الله عنه

وقد اختلف في اسمه في الجاهلية والإسلام واسم أبيه على أقوال متعددة قد بسطنا أكثرها في كتابنا " التكميل " ، وقد بسط ذلك الحافظ ابن عساكر في " تاريخه " ، والأشهر أن اسمه عبد الرحمن بن صخر ، وهو من الأزد ، ثم من دوس . ويقال : كان اسمه في الجاهلية عبد شمس . وقيل : عبد نهم . وقيل : عبد غنم . ويكنى بأبي الأسود ، فسماه رسول الله صلى الله عليه وسلم عبد الله . وقيل : عبد الرحمن . وكناه بأبي هريرة .

وروي عنه أنه قال : وجدت هريرة وحشية ، فأخذت أولادها ، فقال لي أبي : ما هذه في حجرك ؟ فأخبرته ، فقال : أنت أبو هريرة .

[ ص: 363 ] وثبت في " الصحيح " أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال له : " يا أبا هر " . وثبت أنه قال له : " يا أبا هريرة " .

قال محمد بن سعد وابن الكلبي والطبراني : واسم أمه ميمونة بنت صبيح بن الحارث بن أبي صعب بن هنية بن سعد بن ثعلبة . أسلمت وماتت مسلمة .

وروى أبو هريرة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم الكثير الطيب ، وكان من حفاظ الصحابة ، وروى عن أبى بكر ، وعمر ، وأبي بن كعب ، وأسامة بن زيد ، وبصرة بن أبي بصرة ، والفضل بن العباس ، وكعب الأحبار ، وعائشة أم المؤمنين . وحدث عنه خلائق من أهل العلم ، قد ذكرناهم مرتبين على حروف المعجم في " التكميل " ، كما ذكرهم شيخنا في " تهذيبه " .

قال البخاري : روى عنه نحو من ثمانمائة رجل أو أكثر من أهل العلم ، من الصحابة والتابعين وغيرهم . وقال عمرو بن علي الفلاس : كان ينزل المدينة ، وكان إسلامه سنة خيبر . قال الواقدي : وكان له بذي الحليفة دار . وقال غيره : كان آدم اللون ، بعيد ما بين المنكبين ، ذا ضفيرتين ، أفرق الثنيتين .

وقال أبو داود الطيالسي وغير واحد ، عن أبي خلدة خالد بن دينار ، عن [ ص: 364 ] أبي العالية ، عن أبي هريرة قال : لما أسلمت قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " ممن أنت ؟ " فقلت : من دوس . فوضع يده على جبهته وقال : " ما كنت أرى أن في دوس رجلا فيه خير " .

وقال الزهري ، عن سعيد ، عن أبي هريرة قال : شهدت مع رسول الله صلى الله عليه وسلم خيبر .

وروى عبد الرزاق ، عن سفيان بن عيينة ، عن إسماعيل ، عن قيس قال : قال أبو هريرة : جئت يوم خيبر بعد ما فرغوا من القتال .

وقال يعقوب بن سفيان : حدثنا سعيد بن أبي مريم ، ثنا الدراوردي قال : حدثني خثيم بن عراك بن مالك ، عن أبيه ، عن أبي هريرة قال : خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم فاستخلف على المدينة سباع بن عرفطة . قال أبو هريرة : وقدمت المدينة مهاجرا فصليت الصبح وراء سباع ، فقرأ في السجدة الأولى سورة " مريم " ، وفي الثانية " ويل للمطففين " . قال أبو هريرة : فقلت في نفسي : ويل لأبي فلان . لرجل كان بأرض الأزد ، كان له مكيالان ; مكيال يكتال به لنفسه ، ومكيال يبخس به الناس .

وقد ثبت في " صحيح البخاري " أنه ضل غلام له في الليلة التي اجتمع في صبيحتها برسول الله صلى الله عليه وسلم ، وأنه جعل ينشد :


يا ليلة من طولها وعنائها على     أنها من دارة الكفر نجت

[ ص: 365 ] فلما قدم على رسول الله صلى الله عليه وسلم قال له : " هذا غلامك " . فقال : هو حر لوجه الله عز وجل
.

وقد لزم أبو هريرة رسول الله صلى الله عليه وسلم بعد إسلامه ، فلم يفارقه في حضر ولا سفر ، وكان أحرص شيء على سماع الحديث منه ، وتفقه عنه ، وكان يلزمه على شبع بطنه .

وقال أبو هريرة - وقد تمخط يوما في قميص له من كتان - : بخ بخ أبو هريرة يتمخط في الكتان ! لقد رأيتني أخر فيما بين المنبر والحجر من الجوع ، فيمر المار فيقول : به جنون . وما بي إلا الجوع ، والله الذي لا إله إلا هو لقد كنت أعتمد بكبدي على الأرض من الجوع ، وأشد الحجر على بطني من الجوع ، ولقد كنت أستقرئ أحدهم الآية وأنا أعلم بها منه ، وما بي إلا أن يستتبعني إلى منزله فيطعمني شيئا . وذكر حديث اللبن مع أهل الصفة ، كما قدمناه في ذكر دلائل النبوة .

وقال الإمام أحمد : ثنا عبد الرحمن ، ثنا عكرمة بن عمار ، حدثني أبو كثير ، وهو يزيد بن عبد الرحمن بن أذينة السحيمي الأعمى ، حدثني أبو هريرة وقال لنا : والله ما خلق الله مؤمنا يسمع بي ولا يراني إلا أحبني . قلت : وما علمك بذلك يا أبا هريرة ؟ قال : إن أمي كانت امرأة مشركة ، وإني كنت أدعوها إلى الإسلام وكانت تأبى علي ، فدعوتها يوما ، فأسمعتني في رسول الله صلى الله عليه وسلم ما أكره ، فأتيت رسول الله صلى الله عليه وسلم وأنا أبكي ، فقلت : يا رسول الله ، إني [ ص: 366 ] كنت أدعو أمي إلى الإسلام فكانت تأبى علي ، وإني دعوتها اليوم فأسمعتني فيك ما أكره ، فادع الله أن يهدي أم أبي هريرة . فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " اللهم اهد أم أبي هريرة " فخرجت أعدو أبشرها بدعاء رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فلما أتيت الباب إذا هو مجاف ، وسمعت خضخضة الماء ، وسمعت خشف رجل - يعني وقعها - فقالت : يا أبا هريرة ، كما أنت . ثم فتحت الباب ، وقد لبست درعها ، وعجلت عن خمارها ، فقالت : إني أشهد أن لا إله إلا الله وأن محمدا عبده ورسوله . فرجعت إلى رسول الله ، صلى الله عليه وسلم ، أبكي من الفرح كما بكيت من الحزن ، فقلت : يا رسول الله ، أبشر ، فقد استجاب الله دعاءك ، وقد هدى أم أبي هريرة . وقلت : يا رسول الله ، ادع الله أن يحببني وأمي إلى عباده المؤمنين ويحببهم إلينا . فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " اللهم حبب عبيدك هذا وأمه إلى عبادك المؤمنين ، وحببهم إليهما " . قال أبو هريرة فما خلق الله من مؤمن يسمع بي ولا يراني أو يرى أمي إلا وهو يحبني وقد رواه مسلم ، من حديث عكرمة بن عمار بإسناده نحوه .

وهذا الحديث من دلائل النبوة ، فإن أبا هريرة محبب إلى جميع الناس ، وقد شهر الله ذكره بما قدره من إيراد هذا الخبر عنه ، الذي رواه عن رسول الله صلى الله عليه وسلم في الإنصات يوم الجمعة عند الخطبة ، على رءوس الناس في المحافل الكثيرة المتعددة في سائر الأقاليم ، وهذا قدره الله ويسره من شهر ذكره ، ومحبة الناس له ، رضي الله عنه .

[ ص: 367 ] وقال هشام بن عمار : ثنا سعيد ، ثنا عبد الحميد بن جعفر ، عن المقبري ، عن سالم مولى النصريين ، أنه سمع أبا هريرة يقول : سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول : " إنما محمد بشر ، أغضب كما يغضب البشر ، وإني قد اتخذت عندك عهدا لن تخلفنيه ، فأيما رجل من المسلمين آذيته أو شتمته أو جلدته فاجعلها له قربة تقربه بها عندك يوم القيامة " . قال أبو هريرة لقد رفع علي رسول الله صلى الله عليه وسلم يوما الدرة ليضربني بها ، لأن يكون ضربني بها أحب إلي من حمر النعم ; ذلك بأني أرجو أن أكون مؤمنا ، وأن يستجاب لرسول الله صلى الله عليه وسلم دعوته

وقال ابن أبي ذئب ، عن سعيد المقبري ، عن أبي هريرة قال : قلت : يا رسول الله ، إني أسمع منك حديثا كثيرا أنساه . فقال : " ابسط رداءك " . فبسطته ، ثم قال : " ضمه " . فضممته ، فما نسيت حديثا بعد . رواه البخاري .

وقال الإمام أحمد : ثنا سفيان ، عن الزهري ، عن عبد الرحمن الأعرج قال : سمعت أبا هريرة يقول : إنكم تزعمون أن أبا هريرة يكثر الحديث على رسول الله صلى الله عليه وسلم ، والله الموعد ، إني كنت امرأ مسكينا ، أصحب رسول الله صلى الله عليه وسلم على ملء بطني ، وكان المهاجرون يشغلهم الصفق بالأسواق ، وكانت [ ص: 368 ] الأنصار يشغلهم القيام على أموالهم ، فحضرت من رسول الله صلى الله عليه وسلم مجلسا ، فقال : " من بسط رداءه حتى أقضي مقالتي ثم يقبضه إليه ، فلن ينسى شيئا سمعه مني " . فبسطت بردة علي حتى قضى حديثه ، ثم قبضتها إلي ، فوالذي نفسي بيده ما نسيت شيئا سمعته منه . وقد رواه ابن وهب ، عن يونس ، عن الزهري ، عن سعيد بن المسيب ، عن أبي هريرة ، وله طرق أخر عنه . وقد قيل : إن هذا كان خاصا بتلك المقالة المعينة لم ينس منها شيئا ، بدليل أنه نسي بعض الأحاديث كما هو مصرح به في " الصحيح " ، حيث نسي حديث : " لا عدوى ولا طيرة " . مع حديثه " لا يورد ممرض على مصح " . وقيل : إن هذا كان عاما في تلك المقالة وغيرها . والله أعلم .

وقال الدراوردي ، عن عمرو بن أبي عمرو ، عن سعيد المقبري ، عن أبي هريرة أنه قال يا رسول الله ، من أسعد الناس بشفاعتك يوم القيامة ؟ فقال : " لقد ظننت يا أبا هريرة ألا يسألني عن هذا الحديث أحد أول منك ; لما رأيت من حرصك على الحديث ، إن أسعد الناس بشفاعتي يوم القيامة من قال : لا إله إلا الله ، خالصا من قبل نفسه " . ورواه البخاري من حديث عمرو ابن أبي عمرو به .

[ ص: 369 ] وقال ابن أبي ذئب ، عن سعيد المقبري ، عن أبي هريرة ، أنه قال : حفظت من رسول الله صلى الله عليه وسلم وعاءين ، فأما أحدهما فبثثته في الناس ، وأما الآخر فلو بثثته لقطع هذا البلعوم . ورواه البخاري من حديث ابن أبي ذئب ، ورواه غير واحد ، عن أبي هريرة .

وهذا الوعاء الذي كان لا يتظاهر به هو الفتن والملاحم ، وما وقع بين الناس من الحروب والقتال وما سيقع ، التي لو أخبر بها قبل كونها لبادر كثير من الناس إلى تكذيبه ، وردوا ما أخبر به من الحق ، كما قال : لو أخبرتكم أنكم تقتلون إمامكم وتقتتلون فيما بينكم بالسيوف لما صدقتموني . وقد يتمسك بهذا الحديث طوائف من أهل الأهواء والبدع الباطلة ، والأعمال الفاسدة ، ويسندون ذلك إلى هذا الجراب الذي لم يقله أبو هريرة ، ويعتقدون أن ما هم عليه كان في هذا الجراب الذي لم يخبر به أبو هريرة ، وما من مبطل - مع تضاد أقوالهم وأعمالهم - إلا ويدعي شيئا من هذا ، وكلهم يكذبون ، فإذا لم يكن أبو هريرة قد أخبر به فمن علمه من بعده ؟ ! وإنما كان الذي فيه شيء من الفتن والملاحم قد أخبر بها هو وغيره من الصحابة ، مما ذكرناه ومما سنذكره في كتاب " الفتن والملاحم " .

وقال حماد بن زيد : ثنا عمرو بن عبيد الأنصاري ، ثنا أبو الزعيزعة كاتب مروان بن الحكم أن مروان دعا أبا هريرة - وأقعده خلف السرير - وجعل [ ص: 370 ] مروان يسأل وجعلت أكتب ، حتى إذا كان عند رأس الحول دعا به - وأقعده من وراء الحجاب - فجعل يسأله عن ذلك الكتاب ، فما زاد ولا نقص ، ولا قدم ولا أخر .

وروى أبو بكر بن عياش وغيره ، عن الأعمش ، عن أبي صالح قال : كان أبو هريرة من أحفظ أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم ، ولم يكن بأفضلهم . وقال الربيع : قال الشافعي : أبو هريرة أحفظ من روى الحديث في دهره .

وقال أبو القاسم البغوي : ثنا أبو خيثمة ، ثنا الوليد بن مسلم ، ثنا سعيد بن عبد العزيز ، عن مكحول قال : تواعد الناس ليلة من الليالي إلى قبة من قباب معاوية ، فاجتمعوا فيها ، فقام أبو هريرة فحدثهم عن رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى أصبح .

وقال سفيان بن عيينة ، عن معمر ، عن وهب بن منبه ، عن أخيه همام بن منبه قال : سمعت أبا هريرة يقول : ما من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم أحد أكثر حديثا عنه مني ، إلا ما كان من عبد الله بن عمرو ; فإنه كان يكتب ولا أكتب .

وقال أبو زرعة الدمشقي : حدثني محمد بن زرعة الرعيني ، ثنا مروان بن محمد ، ثنا سعيد بن عبد العزيز ، عن إسماعيل بن عبيد الله ، عن السائب بن يزيد قال : سمعت عمر بن الخطاب يقول لأبي هريرة : لتتركن الحديث عن [ ص: 371 ] رسول الله صلى الله عليه وسلم أو لألحقنك بأرض دوس . وقال لكعب الأحبار : لتتركن الحديث أو لألحقنك بأرض القردة . وقال أبو زرعة وقد سمعت أبا مسهر يذكره عن سعيد بن عبد العزيز نحوا منه ، ولم يسنده . وهذا محمول من عمر على أنه خشي من الأحاديث التي يضعها الناس على غير مواضعها ، وأنهم يتكلون على ما فيها من أحاديث الرخص ، أو أن الرجل إذا أكثر من الحديث ربما وقع في أحاديثه بعض الغلط أو الخطأ فيحملها الناس عنه ، أو نحو ذلك .

وقد جاء أن عمر أذن له بعد ذلك في الحديث ، فقال مسدد : ثنا خالد الطحان ، ثنا يحيى بن عبيد الله ، عن أبيه ، عن أبي هريرة قال بلغ عمر حديثي ، فأرسل إلي فقال : كنت معنا يوم كنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم في بيت فلان ؟ قال : قلت : نعم ، وقد علمت لم سألتني عن ذلك . قال : ولم سألتك ؟ قلت : إن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال يومئذ : " من كذب علي متعمدا فليتبوأ مقعده من النار " . قال : إما لى فاذهب فحدث .

وقال الإمام أحمد : ثنا عفان ، ثنا عبد الواحد - يعني ابن زياد - ثنا عاصم بن كليب ، حدثني أبي قال : سمعت أبا هريرة يقول - وكان يبتدئ [ ص: 372 ] حديثه بأن يقول : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم أبو القاسم الصادق المصدوق - : من كذب علي متعمدا فليتبوأ مقعده من النار " . وروي مثله من وجه آخر عنه .

وقال ابن وهب : حدثني يحيى بن أيوب ، عن محمد بن عجلان ، أن أبا هريرة كان يقول : إني لأحدث أحاديث لو تكلمت بها في زمان عمر - أو عند عمر - لشج رأسي .

وقال صالح بن أبي الأخضر ، عن الزهري ، عن أبي سلمة ، سمعت أبا هريرة يقول : ما كنا نستطيع أن نقول : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم . حتى قبض عمر .

وقال محمد بن يحيى الذهلي : ثنا عبد الرزاق ، عن معمر ، عن الزهري قال : قال عمر : أقلوا الرواية عن رسول الله صلى الله عليه وسلم إلا فيما يعمل به . قال : ثم يقول أبو هريرة : أفكنت محدثكم بهذه الأحاديث وعمر حي ؟ ! أما والله إذا لأيقنت أن المخففة ستباشر ظهري .

فإن عمر كان يقول : اشتغلوا بالقرآن ، فإن القرآن كلام الله . ولهذا لما بعث أبا موسى إلى العراق قال له : إنك تأتي قوما لهم في مساجدهم دوي بالقرآن كدوي النحل ، فدعهم على ما هم عليه ، ولا تشغلهم بالأحاديث ، وأنا شريكك في ذلك . وهذا معروف عن عمر ، رضي الله عنه .

وقال الإمام أحمد : ثنا هشيم ، عن يعلى بن عطاء ، عن الوليد بن [ ص: 373 ] عبد الرحمن ، عن ابن عمر ، أنه مر بأبي هريرة وهو يحدث عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال : من تبع جنازة فصلى عليها فله قيراط ، فإن شهد دفنها فله قيراطان ، القيراط أعظم من أحد " . فقال له ابن عمر : أبا هر ، انظر ما تحدث عن رسول الله صلى الله عليه وسلم . فقام إليه أبو هريرة حتى انطلق به إلى عائشة ، فقال لها : يا أم المؤمنين ، أنشدك بالله أسمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول : " من تبع جنازة فصلى عليها فله قيراط ، فإن شهد دفنها فله قيراطان " ؟ ؟ فقالت : اللهم نعم . فقال أبو هريرة : إنه لم يكن يشغلني عن رسول الله صلى الله عليه وسلم غرس الودي ولا صفق بالأسواق ، إني إنما كنت أطلب من رسول الله صلى الله عليه وسلم كلمة يعلمنيها ، أو أكلة يطعمنيها . فقال له ابن عمر : أنت يا أبا هر كنت ألزمنا لرسول الله صلى الله عليه وسلم وأعلمنا بحديثه .

وقال الواقدي : حدثني عبد الله بن نافع ، عن أبيه قال : كنت مع ابن عمر في جنازة أبي هريرة وهو يمشي أمامها ويكثر الترحم عليه ، ويقول : كان ممن يحفظ حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم على المسلمين .

وقد روى أن عائشة تأولت أحاديث كثيرة من أبي هريرة ، ووهمته في بعضها . وفي " الصحيح " أنها عابت عليه سرد الحديث . أي الإكثار منه في الساعة الواحدة .

وقال أبو القاسم البغوي : ثنا بشر بن الوليد الكندي ، ثنا إسحاق بن [ ص: 374 ] سعيد ، عن سعيد ، أن عائشة قالت لأبي هريرة : أكثرت الحديث عن رسول الله صلى الله عليه وسلم يا أبا هريرة . قال : إني والله ما كانت تشغلني عنه المكحلة والخضاب ، ولكني أرى ذلك شغلك عما استكثرت من حديثي . قالت : لعله .

وقال أبو يعلى : ثنا إبراهيم الشامي ، ثنا حماد بن سلمة ، عن ثابت ، عن أبي رافع ، أن رجلا من قريش أتى أبا هريرة في حلة يتبختر فيها ، فقال : يا أبا هريرة ، إنك تكثر الحديث عن رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فهل سمعته يقول في حلتي هذه شيئا ؟ قال : والله إنكم لتؤذوننا ، ولولا ما أخذ الله على أهل الكتاب ليبيننه للناس ولا يكتمونه ما حدثتكم بشيء ، سمعت أبا القاسم صلى الله عليه وسلم يقول : " إن رجلا ممن كان قبلكم بينما هو يتبختر في حلة إذ خسف الله به الأرض ، فهو يتجلجل فيها حتى تقوم الساعة " . فوالله ما أدري لعله كان من قومك . أو : من رهطك . شك أبو يعلى .

وقال محمد بن سعد : ثنا محمد بن عمر ، حدثني كثير بن زيد ، عن الوليد بن رباح قال : سمعت أبا هريرة يقول لمروان : والله ما أنت وال ، وإن الوالي لغيرك فدعه - يعني حين أرادوا أن يدفنوا الحسن مع رسول الله صلى الله عليه وسلم - ولكنك تدخل فيما لا يعنيك ، إنما تريد بهذا إرضاء من هو غائب عنك . يعني معاوية . قال : فأقبل عليه مروان مغضبا ، فقال : يا أبا هريرة ، إن الناس قد قالوا : إنك أكثرت عن رسول الله صلى الله عليه وسلم الحديث . وإنما قدمت قبل وفاة النبي صلى الله عليه وسلم بيسير . فقال أبو هريرة : نعم ، قدمت والله ورسول الله صلى الله عليه وسلم بخيبر سنة [ ص: 375 ] سبع ، وأنا يومئذ قد زدت على الثلاثين سنة سنوات ، وأقمت معه حتى توفي ، أدور معه في بيوت نسائه وأخدمه ، وأنا والله يومئذ مقل ، وأصلي خلفه وأغزو وأحج معه ، فكنت والله أعلم الناس بحديثه ، قد والله سبقني قوم - بصحبته والهجرة - من قريش والأنصار ، فكانوا يعرفون لزومي له ، فيسألوني عن حديثه ، منهم عمر وعثمان وعلي وطلحة والزبير ، فلا والله ما يخفى علي كل حدث كان بالمدينة ، وكل من أحب الله ورسوله ، وكل من كانت له عند رسول الله صلى الله عليه وسلم منزلة ، وكل صاحب له ، فكان أبو بكر صاحبه في الغار ، وغيره قد أخرجه رسول الله صلى الله عليه وسلم من المدينة أن يساكنه . يعرض بأبي مروان الحكم بن أبي العاص . ثم قال أبو هريرة : ليسألني أبو عبد الملك عن هذا وأشباهه ، فإنه يجد عندي منه علما جما ومقالا . قال : فوالله ما زال مروان يقصر عن أبي هريرة ويتقيه بعد ذلك ويخافه ويخاف جوابه .

وفي رواية أن أبا هريرة قال لمروان : إني أسلمت وهاجرت اختيارا وطوعا ، وأحببت رسول الله صلى الله عليه وسلم حبا شديدا ، وأنتم أهل الدار وموضع الدعوة ، أخرجتم الداعي من أرضه ، وآذيتموه وأصحابه ، وتأخر إسلامكم عن إسلامي إلى الوقت المكروه إليكم . فندم مروان على كلامه له واتقاه .

وقال ابن أبي خيثمة : ثنا هارون بن معروف ، ثنا محمد بن سلمة ، ثنا محمد بن إسحاق ، عن عمر أو عثمان بن عروة ، عن أبيه - يعني عروة بن الزبير [ ص: 376 ] بن العوام - قال : قال لي أبي الزبير : أدنني من هذا اليماني - يعني أبا هريرة - فإنه يكثر الحديث عن رسول الله صلى الله عليه وسلم . قال : فأدنيته منه ، فجعل أبو هريرة يحدث ، وجعل الزبير يقول : صدق ، كذب ، صدق ، كذب . قال : قلت : يا أبه ، ما قولك : صدق ، كذب ؟ قال : يا بني ، أما أن يكون سمع هذه الأحاديث من رسول الله صلى الله عليه وسلم فلا أشك ، ولكن منها ما وضعه على مواضعه ، ومنها ما وضعه على غير مواضعه .

وقال علي بن المديني ، عن وهب بن جرير عن أبيه ، عن محمد بن إسحاق ، عن محمد بن إبراهيم ، عن أبي أنس بن أبي عامر قال : كنت عند طلحة بن عبيد الله إذ دخل رجل فقال : يا أبا محمد ، والله ما ندري هذا اليماني أعلم برسول الله صلى الله عليه وسلم منكم ، أم يقول على رسول الله صلى الله عليه وسلم ما لم يقل ؟ فقال طلحة : والله ما نشك أنه سمع من رسول الله صلى الله عليه وسلم ما لم نسمع ، وعلم ما لم نعلم ، إنا كنا قوما أغنياء ، لنا بيوتات وأهلون ، وكنا نأتي رسول الله صلى الله عليه وسلم طرفي النهار ، ثم نرجع ، وكان مسكينا لا مال له ولا أهل ، وإنما كانت يده مع يد رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وكان يدور معه حيثما دار ، فما نشك أنه قد علم ما لم نعلم ، وسمع ما لم نسمع . وقد رواه الترمذي بنحوه .

وقال شعبة ، عن أشعث بن سليم ، عن أبيه قال : سمعت أبا أيوب يحدث عن أبي هريرة ، فقيل له : أنت صاحب رسول الله صلى الله عليه وسلم وتحدث عن أبي هريرة ؟ ! فقال : إن أبا هريرة قد سمع ما لم نسمع ، وإني أن أحدث عنه أحب إلي من أن أحدث عن رسول الله صلى الله عليه وسلم . يعني : ما لم أسمعه منه .

[ ص: 377 ] وقال مسلم بن الحجاج : ثنا عبد الله بن عبد الرحمن الدارمي ، ثنا مروان الدمشقي ، عن الليث بن سعد ، حدثني بكير بن الأشج قال : قال لنا بسر بن سعيد : اتقوا الله وتحفظوا من الحديث ، فوالله لقد رأيتنا نجالس أبا هريرة ، فيحدث عن رسول الله صلى الله عليه وسلم ويحدثنا عن كعب الأحبار ، ثم يقوم فأسمع بعض من كان معنا يجعل حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم عن كعب ، وحديث كعب عن رسول الله صلى الله عليه وسلم . وفي رواية : يجعل ما قاله كعب عن رسول الله صلى الله عليه وسلم وما قاله رسول الله صلى الله عليه وسلم عن كعب ، فاتقوا الله وتحفظوا في الحديث .

وقال يزيد بن هارون : سمعت شعبة يقول : أبو هريرة كان يدلس . رواه ابن عساكر . وكان شعبة يشير بهذا إلى حديثه : " من أصبح جنبا فلا صيام له " . فإنه لما حوقق عليه قال : أخبرنيه مخبر ، ولم أسمعه من رسول الله صلى الله عليه وسلم .

وقال شريك ، عن مغيرة ، عن إبراهيم قال : كان أصحابنا يدعون من حديث أبي هريرة . وروى الأعمش ، عن إبراهيم قال : ما كانوا يأخذون بكل حديث أبي هريرة .

قال الثوري ، عن منصور ، عن إبراهيم قال : كانوا يرون في أحاديث [ ص: 378 ] أبي هريرة شيئا ، وما كانوا يأخذون من حديثه إلا ما كان من حديث جنة أو نار . وقد انتصر ابن عساكر لأبي هريرة ، ورد هذا الذي قاله إبراهيم النخعي . وقد قال ما قاله إبراهيم طائفة من الكوفيين ، والجمهور على خلافهم .

وقد كان أبو هريرة ، رضي الله عنه ، من الصدق والحفظ والديانة والعبادة والزهادة والعمل الصالح على جانب عظيم .

قال حماد بن زيد ، عن عباس الجريري ، عن أبي عثمان النهدي قال : كان أبو هريرة يقوم ثلث الليل ، وامرأته ثلثه ، وابنته ثلثه ، يقوم هذا ، ثم يوقظ هذا ، ثم يوقظ هذا وهذا .

وفي " الصحيحين " عنه أنه قال : أوصاني خليلي صلى الله عليه وسلم بصيام ثلاثة أيام من كل شهر ، وركعتي الضحى ، وأن أوتر قبل أن أنام .

وقال ابن جريج عمن حدثه قال : قال أبو هريرة : إني أجزئ الليل ثلاثة أجزاء ، فجزء لقراءة القرآن ، وجزء أنام فيه ، وجزء أتذكر فيه حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم .

وقال محمد بن سعد : ثنا مسلم بن إبراهيم ، ثنا إسحاق بن عثمان القرشي ، ثنا أبو أيوب قال : كان لأبي هريرة مسجد في مخدعه ، ومسجد في بيته ، ومسجد في حجرته ، ومسجد على باب داره ، إذا خرج صلى فيها [ ص: 379 ] جميعها ، وإذا دخل صلى فيها جميعها .

وقال عكرمة : كان أبو هريرة يسبح كل يوم ثنتي عشرة ألف تسبيحة ، ويقول : أسبح على قدر ديتي .

وقال هشيم ، عن يعلى بن عطاء ، عن ميمون بن أبي ميسرة قال : كانت لأبي هريرة صيحتان في كل يوم ، أول النهار يقول : ذهب الليل وجاء النهار ، وعرض آل فرعون على النار . وإذا كان العشي يقول : ذهب النهار وجاء الليل ، وعرض آل فرعون على النار . فلا يسمع أحد صوته إلا استعاذ بالله من النار .

وقال عبد الله بن المبارك : ثنا موسى بن عبيدة ، عن زياد بن ثوبان ، عن أبي هريرة قال : لا تغبطن فاجرا بنعمة ، فإن من ورائه طالبا حثيثا طلبه ; جهنم كلما خبت زدناهم سعيرا [ الإسراء : 97 ] .

وقال ابن لهيعة ، عن أبي يونس ، عن أبي هريرة أنه صلى بالناس يوما ، فلما سلم رفع صوته فقال : الحمد لله الذي جعل الدين قواما ، وجعل أبا هريرة إماما ، بعدما كان أجيرا لابنة غزوان على شبع بطنه وحمولة رجله . ثم يقول : والله يا أهل الإسلام ، إن كانت إجارتي معهم إلا على كسرة يابسة ، [ ص: 380 ] وعقبة في ليلة غبراء مظلمة ، ثم زوجنيها الله ، فكنت أركب إذا ركبوا ، وأخدم إذا نزلوا .

وقال إبراهيم بن إسحاق الحربي : ثنا عفان ، ثنا سليم بن حيان ، قال : سمعت أبي يحدث عن أبي هريرة قال : نشأت يتيما ، وهاجرت مسكينا ، وكنت أجيرا لابنة غزوان بطعام بطني وعقبة رجلي ، أحدو بهم إذا ركبوا ، وأحتطب إذا نزلوا ، فالحمد لله الذي جعل الدين قواما وجعل أبا هريرة إماما .

وقال إبراهيم بن يعقوب الجوزجاني : ثنا الحجاج بن نصير ، ثنا هلال بن عبد الرحمن الحنفي ، عن عطاء بن أبي ميمونة ، عن أبي سلمة قال : قال أبو هريرة وأبو ذر : باب من العلم نتعلمه أحب إلينا من ألف ركعة تطوعا ، وباب نعلمه - عملنا به أو لم نعمل به - أحب إلينا من مائة ركعة تطوعا . وقالا : سمعنا رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول : " إذا جاء طالب العلم الموت وهو على هذه الحال ، مات وهو شهيد " . وهذا حديث غريب من هذا الوجه .

وروى غير واحد عن أبي هريرة ، أنه كان يتعوذ في سجوده أن يزني أو يسرق أو يكفر أو يعمل بكبيرة . فقيل له : أتخاف ذلك ؟ فقال : ما يؤمنني وإبليس حي ، ومصرف القلوب يصرفها كيف يشاء ؟

[ ص: 381 ] وقالت له ابنته : يا أبت ، إن البنات يعيرنني يقلن : لم لا يحليك أبوك بالذهب ؟ فقال : يا بنية ، قولي لهن : إن أبي يخشى علي حر اللهب .

وقال أبو هريرة : أتيت عمر بن الخطاب ، فقمت له وهو يسبح بعد الصلاة ، فانتظرته ، فلما انصرف دنوت منه ، فقلت : أقرئني آيات من كتاب الله - قال : وما أريد إلا الطعام - قال : فأقرأني آيات من سورة " آل عمران " ، فلما بلغ أهله دخل وتركني على الباب فأبطأ ، فقلت : ينزع ثيابه ثم يأمر لي بطعام . فلم أر شيئا ، فلما طال علي قمت فمشيت ، فاستقبلني رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فكلمني فقال : " يا أبا هريرة ، إن خلوف فمك الليلة لشديد " . فقلت : أجل يا رسول الله ، لقد ظللت صائما وما أفطرت بعد ، وما أجد ما أفطر عليه . قال : " فانطلق " . فانطلقت معه حتى أتى بيته ، فدعا جارية له سوداء ، فقال : " ائتينا بتلك القصعة " . فأتتنا بقصعة فيها وضر من طعام ، أراه شعيرا قد أكل وبقي في جوانبها بعضه وهو يسير ، فسميت وجعلت أتتبعه ، فأكلت حتى شبعت .

وقال الطبراني : ثنا إسحاق بن إبراهيم ، حدثنا عبد الرزاق ، عن معمر ، عن أيوب ، عن محمد بن سيرين ، أن أبا هريرة قال لابنته : لا تلبسي الذهب ، فإني أخشى عليك حر اللهب . وقد روي هذا عن أبي هريرة من طرق .

[ ص: 382 ] وقال الإمام أحمد : حدثنا حجاج ، ثنا شعبة ، عن سماك بن حرب ، عن أبي الربيع ، عن أبي هريرة ، أنه قال : إن هذه الكناسة مهلكة دنياكم وآخرتكم . يعني الشهوات وما يأكلونه .

وروى الطبراني ، عن ابن سيرين ، عن أبي هريرة ، أن عمر بن الخطاب دعاه ليستعمله ، فأبى أن يعمل له ، فقال : أتكره العمل ، وقد عمل من هو خير منك - أو قال : قد طلبه من هو خير منك ؟ - قال : من ؟ قال : يوسف عليه السلام . فقال أبو هريرة يوسف نبي ابن نبي ، وأنا أبو هريرة بن أميمة ، فأخشى ثلاثا واثنتين . فقال عمر : أفلا قلت خمسا ؟ قال : أخشى أن أقول بغير علم ، وأقضي بغير حكم ، وأن يضرب ظهري ، وينتزع ما لي ، ويشتم عرضي .

وقال سعيد بن أبي هند ، عن أبي هريرة ، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال له : " ألا تسألني من هذه الغنائم التي يسألني أصحابك ؟ " فقلت : أسألك أن تعلمني مما علمك الله . قال : فنزعت نمرة على ظهري ، فبسطتها بيني وبينه حتى كأني أنظر إلى القمل يدب عليها ، فحدثني حتى إذا استوعب حديثه قال : " اجمعها إليك فصرها " . فأصبحت لا أسقط حرفا مما حدثني .

وقال أبو عثمان النهدي : قلت لأبي هريرة : كيف تصوم ؟ قال : أصوم أول الشهر ثلاثا ، فإن حدث بي حدث كان لي أجر شهري .

[ ص: 383 ] وقال حماد بن سلمة عن ثابت ، عن أبي عثمان النهدي ، أن أبا هريرة كان في سفر ومعه قوم ، فلما نزلوا وضعوا السفرة وبعثوا إليه ليأكل معهم فقال : إني صائم . فلما كادوا أن يفرغوا من أكلهم جاء فجعل يأكل ، فجعل القوم ينظرون إلى رسولهم الذي أرسلوه إليه ، فقال لهم : أراكم تنظرون إلي ، قد والله أخبرني أنه صائم . فقال أبو هريرة : صدق ، إني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول : " صوم شهر الصبر وصوم ثلاثة أيام من كل شهر صوم الدهر " . وقد صمت ثلاثة أيام من أول الشهر ، فأنا مفطر في تخفيف الله ، صائم في تضعيف الله عز وجل .

وروى الإمام أحمد ، حدثنا عبد الملك بن عمرو ، ثنا إسماعيل ، عن أبي المتوكل ، عن أبي هريرة ، أنه كان هو وأصحاب له إذا صاموا يجلسون في المسجد ، وقالوا : نظهر صيامنا .

وقال الإمام أحمد : حدثنا أبو عبيدة الحداد ، حدثنا عثمان الشحام أبو سلمة ، ثنا فرقد السبخي قال : كان أبو هريرة يطوف بالبيت ، وهو يقول : ويل لي من بطني ، إن أشبعته كظني ، وإن أجعته أضعفني .

وروى الإمام أحمد عن عكرمة قال : قال أبو هريرة : إني لأستغفر الله [ ص: 384 ] عز وجل وأتوب إليه كل يوم اثنتي عشرة ألف مرة ، وذلك على قدر ديتي .

وروى عبد الله بن أحمد ، عن أبي هريرة ، أنه كان له خيط فيه اثنا عشر ألف عقدة يسبح به قبل أن ينام . وفي رواية : ألفا عقدة ، فلا ينام حتى يسبح به . وهو أصح من الذي قبله .

ولما حضره الموت بكى فقيل له : ما يبكيك ؟ فقال : ما أبكي على دنياكم هذه ، ولكن أبكي على بعد سفري وقلة زادي ، وإني أصبحت في صعود مهبط على جنة ونار ، لا أدري إلى أيهما يؤخذ بي .

وروى قتيبة بن سعيد ، ثنا الفرج بن فضالة ، عن أبي سعيد ، عن أبي هريرة قال : إذا زوقتم مساجدكم وحليتم مصاحفكم فالدمار عليكم .

وروى الطبراني عن معمر قال : بلغني عن أبي هريرة ، أنه كان إذا مر بجنازة قال : روحوا فإنا غادون ، أو اغدوا فإنا رائحون ، موعظة بليغة ، وغفلة سريعة ، يذهب الأول ويبقى الآخر لا عقل له .

وقال الحافظ أبو بكر بن مالك : حدثنا عبد الله بن أحمد بن حنبل ، حدثني أبو بكر ليث بن خالد البلخي ، ثنا عبد المؤمن بن عبد الله السدوسي [ ص: 385 ] قال : سمعت أبا يزيد المديني يقول : قام أبو هريرة على منبر رسول الله صلى الله عليه وسلم دون مقام رسول الله صلى الله عليه وسلم بعتبة ، فقال : ويل للعرب من شر قد اقترب ، ويل لهم من إمارة الصبيان ; يحكمون فيهم بالهوى ويقتلون بالغضب .

وقال الإمام أحمد : حدثنا علي بن ثابت ، عن أسامة بن زيد عن أبي زياد مولى ابن عباس ، عن أبي هريرة قال : كانت لي خمس عشرة ثمرة ، فأفطرت على خمس ، وتسحرت بخمس ، وأبقيت خمسا لفطري .

وقال أحمد : حدثنا عبد الملك بن عمرو ، ثنا إسماعيل - يعني العبدي - عن أبي المتوكل ، أن أبا هريرة كانت لهم زنجية قد غمتهم بعملها ، فرفع عليها يوما السوط ، ثم قال : لولا القصاص يوم القيامة لأغشيتك به ، ولكن سأبيعك ممن يوفيني ثمنك أحوج ما أكون إليه ، اذهبي فأنت حرة لله عز وجل .

وروى حماد بن سلمة ، عن أيوب ، عن يحيى بن أبي كثير ، عن أبي سلمة ، أن أبا هريرة مرض ، فدخلت عليه أعوده ، فقلت : اللهم اشف أبا هريرة . فقال : اللهم لا ترجعها . ثم قال : يا أبا سلمة ، يوشك أن يأتي على الناس زمان يكون الموت أحب إلى أحدهم من الذهب الأحمر .

وروى عطاء عن أبي هريرة قال : إذا رأيتم ستا ، فإن كانت نفس أحدكم في يده فليرسلها ، فلذلك أتمنى الموت أخاف أن تدركني ; إذا أمرت السفهاء ، [ ص: 386 ] وبيع الحكم ، وتهون بالدم ، وقطعت الأرحام ، وكثرت الجلاوزة ، ونشأ نشء يتخذون القرآن مزامير .

وقال ابن وهب حدثنا عمرو بن الحارث ، عن يزيد بن زياد القرظي ، أن ثعلبة بن أبي مالك القرظي ، حدثه أن أبا هريرة أقبل في السوق يحمل حزمة حطب - وهو يومئذ أمير لمروان بن الحكم - فقال : أوسع الطريق للأمير يا ابن أبي مالك . فقلت : يرحمك الله يكفي هذا . فقال : أوسع الطريق للأمير والحزمة عليه .

وله فضائل ومناقب ومآثر وكلام حسن ومواعظ جمة ، أسلم كما قدمنا عام خيبر ، فلزم رسول الله صلى الله عليه وسلم ، ولم يفارقه إلا حين بعثه مع العلاء بن الحضرمي إلى البحرين ، ووصاه به ، فجعله العلاء مؤذنا بين يديه ، وقال له أبو هريرة : لا تسبقني بآمين أيها الأمير . وقد استعمله عمر بن الخطاب عليها في أيام إمارته ، وقاسمه مع جملة العمال .

قال عبد الرزاق : حدثنا معمر ، عن أيوب ، عن ابن سيرين ، أن عمر استعمل أبا هريرة على البحرين ، فقدم بعشرة آلاف ، فقال له عمر : استأثرت بهذه الأموال أي عدو الله وعدو كتابه ؟ فقال أبو هريرة : لست بعدو الله ولا عدو كتابه ، ولكني عدو من عاداهما . فقال : فمن أين هي لك ؟ قال : خيل [ ص: 387 ] نتجت ، وغلة ورقيق لي ، وأعطية تتابعت علي . فنظروا فوجدوه كما قال . فلما كان بعد ذلك دعاه عمر ليستعمله ، فأبى أن يعمل له ، فقال له : تكره العمل ، وقد طلبه من كان خيرا منك ؟ طلبه يوسف عليه السلام . فقال : إن يوسف نبي ابن نبي ابن نبي ابن نبي ، وأنا أبو هريرة بن أميمة وأخشى ثلاثا واثنتين . قال عمر : فهلا قلت خمسة ؟ قال : أخشى أن أقول بغير علم ، وأقضي بغير حكم ، أو يضرب ظهري ، وينتزع مالي ، ويشتم عرضي .

وذكر غيره أن عمر أغرمه في العمالة الأولى اثني عشر ألفا ، فلهذا امتنع في الثانية .

وقال عبد الرزاق ، عن معمر ، عن محمد بن زياد قال : كان معاوية يبعث أبا هريرة على المدينة ، فإذا غضب عليه عزله وولى مروان بن الحكم فإذا جاء أبو هريرة إلى مروان حجبه عنه ، فعزل مروان ورجع أبو هريرة ، فقال لمولاه : من جاءك فلا ترده ، واحجب مروان . فلما جاء مروان دفع الغلام في صدره ، فما دخل إلا بعد جهد ، فلما دخل قال : إن الغلام حجبنا عنك . فقال له أبو هريرة : إنك أحق الناس أن لا تغضب من ذلك . والمعروف أن مروان هو الذي كان يستنيب أبا هريرة في إمرة المدينة ، ولكن كان يكون عن إذن معاوية في ذلك . والله أعلم .

وقال حماد بن سلمة ، عن ثابت ، عن أبي رافع : كان مروان ربما [ ص: 388 ] استخلف أبا هريرة على المدينة ، فيركب الحمار ويلقى الرجل فيقول : الطريق ، قد جاء الأمير . يعني نفسه ، وكان يمر بالصبيان وهم يلعبون بالليل لعبة الأعراب ، فلا يشعرون به حتى يلقي نفسه بينهم ويضرب برجليه كأنه مجنون ، فيفزع الصبيان منه ويفرون . قال أبو رافع : وربما دعاني أبو هريرة إلى عشائه بالليل ، فيقول : دع العراق للأمير - يعني قطع اللحم - قال : فأنظر فإذا هو ثريد بزيت .

وقال أبو الزعيزعة كاتب مروان : بعث مروان إلى أبي هريرة بمائة دينار ، فلما كان الغد بعث إليه : إني غلطت ولم أردك بها ، وإني إنما أردت غيرك . فقال أبو هريرة : قد أخرجتها ، فإذا خرج عطائي فخذها منه . وكان قد تصدق بها . وإنما أراد مروان اختباره .

وقال الإمام أحمد : حدثنا العلاء بن عبد الجبار ، ثنا حماد بن سلمة ، عن يحيى بن سعيد ، عن سعيد بن المسيب ، قال : كان معاوية إذا أعطى أبا هريرة سكت ، وإذا أمسك عنه تكلم .

وروى غير واحد عن أبي هريرة ، أنه جاءه شاب فقال : يا أبا هريرة ، إني أصبحت صائما ، فدخلت على أبي ، فجاءني بخبز ولحم ، فأكلت ناسيا . فقال : طعمة أطعمكها الله ، لا عليك . قال : ثم دخلت دارا لأهلي فجيء بلبن لقحة ، فشربته ناسيا . قال : لا عليك . قال : ثم نمت ، فاستيقظت ، فشربت ماء - وفي [ ص: 389 ] رواية : وجامعت ناسيا - فقال أبو هريرة : إنك يا ابن أخي لم تعود الصيام .

وروى غير واحد ، أنه لما حضرته الوفاة بكى ، فقيل له : ما يبكيك ؟ قال : على قلة الزاد وشدة المفازة ، وأنا على عقبة هبوط ; إما إلى الجنة أو إلى نار ، فما أدري إلى أيهما أصير .

وقال مالك ، عن سعيد بن أبي سعيد المقبري قال : دخل مروان على أبي هريرة في شكواه الذي مات فيه فقال : شفاك الله يا أبا هريرة . فقال أبو هريرة : اللهم إني أحب لقاءك فأحب لقائي . قال : فما بلغ مروان أصحاب القطا حتى مات أبو هريرة .

وقال يعقوب بن سفيان ، عن دحيم ، عن الوليد ، عن ابن جابر ، عن عمير بن هانئ قال : قال أبو هريرة : اللهم لا تدركني سنة ستين . قال : فتوفي فيها أو قبلها بسنة . وهكذا قال الواقدي أنه توفي سنة تسع وخمسين عن ثمان وسبعين سنة .

قال الواقدي : وهو الذي صلى على عائشة في رمضان ، وعلى أم سلمة في شوال سنة تسع وخمسين ، ثم توفي أبو هريرة بعدهما فيها . كذا قال ، والصواب أن أم سلمة تأخرت بعد أبي هريرة . وقد قال غير واحد : إنه توفي سنة تسع وخمسين . وقيل : ثمان - وقيل : سبع - وخمسين . والمشهور تسع [ ص: 390 ] وخمسين . قالوا : وصلى عليه الوليد بن عتبة بن أبي سفيان نائب المدينة وفي القوم ابن عمر وأبو سعيد وخلق ، وكان ذلك عند صلاة العصر ، وكانت وفاته في داره بالعقيق ، فحمل إلى المدينة ، فصلى عليه ، ثم دفن بالبقيع ، رحمه الله ورضي عنه . وكتب الوليد بن عتبة إلى معاوية بوفاة أبي هريرة ، فكتب إليه معاوية أن انظر ورثته فأحسن إليهم ، واصرف إليهم عشرة آلاف درهم ، وأحسن جوارهم ، واعمل إليهم معروفا ; فإنه كان ممن نصر عثمان ، وكان معه في الدار ، رحمه الله تعالى .

التالي السابق


الخدمات العلمية