صفحة جزء
[ ص: 593 ]

فصل في ذكر شيء من أشعاره التي رويت عنه

فمن ذلك ما أنشده أبو بكر بن كامل ، عن عبد الله بن إبراهيم ، وذكر أنه للحسين بن علي بن أبي طالب ، رضي الله عنهما :


اغن عن المخلوق بالخالق تغن عن الكاذب والصادق     واسترزق الرحمن من فضله
فليس غير الله من رازق     من ظن أن الناس يغنونه
فليس بالرحمن بالواثق     أو ظن أن المال من كسبه
زلت به النعلان من حالق

وعن الأعمش أن الحسين بن علي قال :


كلما زيد صاحب المال مالا     زيد في همه وفي الاشتغال
قد عرفناك يا منغصة العي     ش ويا دار كل فان وبال
ليس يصفوا لزاهد طلب الزه     د إذا كان مثقلا بالعيال

وعن إسحاق بن إبراهيم قال : بلغني أن الحسين زار مقابر الشهداء بالبقيع فقال : [ ص: 594 ]


ناديت سكان القبور فأسكتوا     وأجابني عن صمتهم ندب الجثى
قالت أتدري ما صنعت بساكني     مزقت ألحمهم وخرقت الكسا
وحشوت أعينهم ترابا بعد ما     كانت تأذى باليسير من القذى
أما العظام فإنني مزقتها     حتى تباينت المفاصل والشوى
قطعت ذا من ذا ومن هذا كذا     فتركتها رمما يطول بها البلى

وأنشد بعضهم للحسين ، رضي الله عنه أيضا :


لئن كانت الدنيا تعد نفيسة     فدار ثواب الله أعلى وأنبل
وإن كانت الأبدان للموت أنشئت     فقتل سبيل الله بالسيف أفضل
وإن كانت الأرزاق شيئا مقدرا     فقلة سعي المرء في الكسب أجمل
وإن كانت الأموال للترك جمعت     فما بال متروك به المرء يبخل

ومما أنشد الزبير بن بكار من شعره في امرأته الرباب بنت أنيف ، ويقال : [ ص: 595 ] بنت امرئ القيس بن عدي بن أوس الكلبي ، أم ابنته سكينة بنت الحسين


لعمرك إنني لأحب دارا     تحل بها سكينة والرباب
أحبهما وأبذل جل مالي     وليس للائمي فيها عتاب
ولست لهم وإن عتبوا مطيعا     حياتي أو يغيبني التراب

وقد أسلم أبوها على يدي عمر بن الخطاب ، وأمره عمر على قومه ، فلما خرج من عنده خطب إليه علي بن أبي طالب أن يزوج ابنه الحسن أو الحسين من بناته ، فزوج الحسن ابنته سلمى ، والحسين ابنته الرباب ، وزوج عليا ابنته الثالثة ، وهي المحياة بنت امرئ القيس في ساعة واحدة ، فأحب الحسين زوجته الرباب حبا شديدا ، وكان بها معجبا ، يقول فيها الشعر ، ولما قتل بكربلاء كانت معه ، فوجدت عليه وجدا شديدا ، وذكر أنها أقامت على قبره سنة ، ثم انصرفت وهي تقول :


إلى الحول ثم اسم السلام عليكما     ومن يبك حولا كاملا فقد اعتذر

وقد خطبها بعده خلق كثير من أشراف قريش ، فقالت : ما كنت لأتخذ حمى بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم ، ووالله لا يؤويني ورجلا بعد الحسين سقف أبدا . ولم [ ص: 596 ] تزل عليه كمدة حتى ماتت ، ويقال : إنها إنما عاشت بعده أياما يسيرة . فالله أعلم . وابنتها سكينة بنت الحسين كانت من أجمل النساء ، حتى إنه لم يكن في زمانها أحسن منها . فالله أعلم .

وروى أبو مخنف عن عبد الرحمن بن جندب أن عبيد الله بن زياد بعد مقتل الحسين تفقد أشراف أهل الكوفة ، فلم ير عبيد الله بن الحر بن يزيد ، فتطلبه حتى جاءه بعد أيام فقال : أين كنت يابن الحر ؟ قال : كنت مريضا . قال : مريض القلب أم مريض البدن ؟ قال : أما قلبي فلم يمرض ، وأما بدني فقد من الله عليه بالعافية . فقال له ابن زياد : كذبت ، ولكنك كنت مع عدونا . قال : لو كنت مع عدوك لم يخف مكان مثلي ، ولكان الناس شاهدوا ذلك . قال : وغفل عنه ابن زياد غفلة ، فخرج ابن الحر ، فقعد على فرسه ، ثم قال : أبلغوه أني لا آتيه والله طائعا . فقال ابن زياد : أين ابن الحر ؟ قالوا : خرج . فقال : علي به . فخرج الشرط في طلبه ، فأسمعهم غليظ ما يكرهون ، وترضى عن الحسين وأخيه وأبيه ، ثم أسمعهم في ابن زياد غليظا من القول ، ثم امتنع منهم ، وقال في الحسين وأصحابه شعرا :


يقول أمير غادر حق غادر     ألا كنت قاتلت الشهيد ابن فاطمه
فيا ندمي أن لا أكون نصرته     ألا كل نفس لا تسدد نادمه
[ ص: 597 ] وإني لأني لم أكن من حماته     لذو حسرة ما إن تفارق لازمه
سقى الله أرواح الذين تأزروا     على نصره سقيا من الغيث دائمه
وقفت على أجداثهم ومجالهم     فكاد الحشا ينفض والعين ساجمه
لعمري لقد كانوا مصاليت في الوغى     سراعا إلى الهيجا حماة خضارمه
تآسوا على نصر ابن بنت نبيهم     بأسيافهم آساد غيل ضراغمه
فإن يقتلوا فكل نفس تقية     على الأرض قد أضحت لذلك واجمه
وما إن رأى الراءون أفضل منهم     لدى الموت سادات وزهرا قماقمه
أتقتلهم ظلما وترجو ودادنا     فدع خطة ليست لنا بملائمه
لعمري لقد راغمتمونا بقتلهم     فكم ناقم منا عليكم وناقمه
أهم مرارا أن أسير بجحفل     إلى فئة زاغت عن الحق ظالمه
فيا بن زياد استعد لحربنا     وموقف ضنك يقصم الظهر قاصمه

وقال الزبير بن بكار : قال سليمان ابن قتة يرثي الحسين ، رضي الله عنه :


وإن قتيل الطف من آل هاشم     أذل رقابا من قريش فذلت
[ ص: 598 ] فإن تتبعوه عائذ البيت تصبحوا     كعاد تعمت عن هداها فضلت
مررت على أبيات آل محمد     فألفيتها أمثالها حيث حلت
وكانوا لنا غنما فعادوا رزية     لقد عظمت تلك الرزايا وجلت
فلا يبعد الله الديار وأهلها     وإن أصبحت منهم برغمي تخلت
إذا افتقرت قيس جبرنا فقيرها     وتقتلنا قيس إذا النعل زلت
وعند غني قطرة من دمائنا     سنجزيهم يوما بها حيث حلت
ألم تر أن الأرض أضحت مريضة     لقتل حسين والبلاد اقشعرت

ومما وقع من الحوادث في هذه السنة - أعني سنة إحدى وستين - بعد مقتل الحسين ; ففيها ولى يزيد بن معاوية سلم بن زياد سجستان وخراسان حين وفد عليه وله من العمر أربعة وعشرون سنة ، وعزل عنها أخويه عبادا وعبد الرحمن ، وسار سلم إلى عمله ، فجعل ينتخب الوجوه والفرسان ، ويحرض الناس على الجهاد ، ثم خرج في جحفل عظيم ليغزو بلاد الترك ومعه امرأته أم محمد بنت عبد الله بن عثمان بن أبي العاص ، فكانت أول امرأة من العرب قطع بها النهر ، وولدت هناك ولدا أسموه صغديا ، وبعثت إليها امرأة صاحب الصغد بتاجها من ذهب ولآلئ ، وكان المسلمون قبل ذلك لا يشتون في تلك البلاد ، فشتى بها سلم بن زياد ، [ ص: 599 ] وبعث المهلب بن أبي صفرة إلى تلك المدينة التي هي للترك ، وهي خوارزم ، فحاصرهم حتى صالحوه على نيف وعشرين ألف ألف ، وكان يأخذ منهم عروضا عوضا ، فيأخذ الشيء بنصف قيمته ، فبلغت قيمة ما أخذ منهم خمسين ألف ألف ، فحظي بذلك المهلب عند سلم بن زياد ثم بعث من ذلك ما اصطفاه ليزيد بن معاوية مع مرزبان ، ومعه وفد ، وصالح سلم أهل سمرقند في هذه الغزوة على مال جزيل .

وفيها عزل يزيد عن إمرة الحرمين عمرو بن سعيد ، وأعاد الوليد بن عتبة بن أبي سفيان ، فولاه المدينة ; وذلك أن ابن الزبير لما بلغه مقتل الحسين شرع يخطب الناس ، ويعظم قتل الحسين وأصحابه جدا ، ويعيب على أهل الكوفة وأهل العراق ما صنعوه من خذلانهم الحسين ، ويترحم على الحسين ويلعن من قتله ، ويقول : أما والله لقد قتلوه ، طويلا بالليل قيامه ، كثيرا في النهار صيامه ، أما والله ما كان يستبدل بالقرآن الغناء والملاهي ، ولا بالبكاء من خشية الله الحداء ، ولا بالصيام شرب الحرام ، ولا بالجلوس في حلق الذكر تطلاب الصيد - يعرض في ذلك بيزيد بن معاوية - فسوف يلقون غيا . ويؤلب الناس على بني أمية ، ويحثهم على مخالفتهم وخلع يزيد ، فبايعه خلق كثير في الباطن ، وسألوه أن يظهرها ، فلم يمكنه ذلك مع وجود عمرو بن سعيد ، وكان شديدا عليه ولكن فيه رفق ، وقد كان كاتبه أهل المدينة وغيرهم ، وقال الناس : أما إذ قتل الحسين فليس أحد ينازع ابن الزبير . وبلغ ذلك يزيد ، وقيل له : إن عمرو بن سعيد [ ص: 600 ] لو شاء لبعث إليك برأس ابن الزبير ، أو يحاصره حتى يخرجه من الحرم . فبعث فعزله ، وولى الوليد بن عتبة في هذه السنة ، وقال بعضهم : في مستهل ذي الحجة . فأقام للناس الحج في هذه السنة ، وحلف يزيد ليبعثن إلى ابن الزبير فليؤتين به في سلسلة من فضة ، وبعث بها مع البريد ومعه برنس من خز ; لتبر يمينه ، فلما مر البريد على مروان وهو بالمدينة ، وأخبره بما هو قاصد له وما معه من الغل أنشأ مروان يقول :


فخذها فما هي للعزيز بخطة     وفيها مقال لامرئ متذلل
أعامر إن القوم ساموك خطة     وذلك في الجيران غزل بمغزل
أراك إذا ما كنت في القوم ناصحا     يقال له بالدلو أدبر وأقبل

فلما انتهت الرسل إلى عبد الله بن الزبير ، بعث مروان ابنيه عبد الملك وعبد العزيز ليحضرا مراجعته في ذلك ، وقال : أسمعاه قولي في ذلك . قال عبد العزيز : فلما جلس الرسل بين يديه جعلت أنشده ذلك وهو يسمع ولا أشعره ، فالتفت إلي فقال : أخبرا أباكما أني أقول :


إني لمن نبعة صم مكاسرها     إذا تناوحت القصباء والعشر
ولا ألين لغير الحق أسأله     حتى يلين لضرس الماضغ الحجر

قال عبد العزيز : فما أدري أيهما كان أعجب !

قال أبو معشر : لا خلاف بين أهل السير أن الوليد بن عتبة حج [ ص: 601 ] بالناس في هذه السنة وهو أمير الحرمين ، وعلى البصرة والكوفة عبيد الله بن زياد ، وعلى خراسان وسجستان سلم بن زياد أخو عبيد الله بن زياد ، وعلى قضاء الكوفة شريح ، وعلى قضاء البصرة هشام بن هبيرة .

التالي السابق


الخدمات العلمية