صفحة جزء
[ ص: 614 ]

ثم دخلت سنة ثلاث وستين

ففيها كانت وقعة الحرة ، وكان سببها أن أهل المدينة لما خلعوا يزيد ، وولوا على قريش عبد الله بن مطيع ، وعلى الأنصار عبد الله بن حنظلة بن أبي عامر وعلى قبائل المهاجرين معقل بن سنان الأشجعي ، فلما كان في أول هذه السنة أظهروا ذلك ، واجتمعوا عند المنبر ، وجعل الرجل منهم يقول : قد خلعت يزيد كما خلعت عمامتي هذه . ويلقيها عن رأسه ، ويقول الآخر : قد خلعته كما خلعت نعلي هذه . حتى اجتمع شيء كثير من العمائم والنعال هناك ، ثم اجتمعوا على إخراج عامل يزيد من بين أظهرهم ، وهو عثمان بن محمد بن أبي سفيان ابن عم يزيد ، وعلى إجلاء بني أمية من المدينة ، فاجتمعت بنو أمية وهم قريب من ألف رجل في دار مروان بن الحكم ، وأحاط بهم أهل المدينة يحاصرونهم ، واعتزل الناس علي بن الحسين زين العابدين ، وكذلك عبد الله بن عمر بن الخطاب لم يخلع يزيد ، ولا أحد من أهل بيته ، وقد قال ابن عمر لأهله : لا يخلعن أحد منكم يزيد فيكون الفيصل - ويروى : الصيلم - بيني وبينه . وسيأتي هذا الحديث بلفظه وإسناده في ترجمة يزيد ، وأنكر على أهل المدينة في مبايعتهم لابن مطيع وابن حنظلة على الموت ، وقال : إنما كنا نبايع [ ص: 615 ] رسول الله صلى الله عليه وسلم على أن لا نفر . وكذلك لم يخلع يزيد أحد من بني عبد المطلب ، وقد سئل محمد ابن الحنفية في ذلك ، فامتنع من ذلك وأبى أشد الإباء ، وناظرهم وجادلهم في يزيد ورد عليهم ما اتهموه به من شربه الخمر وتركه بعض الصلوات ، كما سيأتي مبسوطا في ترجمة يزيد قريبا ، إن شاء الله تعالى .

وكتب بنو أمية إلى يزيد بما هم فيه من الحصر والإهانة ، والجوع والعطش ، وأنه إن لم يبعث إليهم من ينقذهم مما هم فيه وإلا استؤصلوا عن آخرهم ، وبعثوا ذلك مع البريد ، فلما قدم بذلك على يزيد وجده جالسا على سريره ورجلاه في ماء يتبرد مما به من النقرس في رجليه ، فلما قرأ الكتاب انزعج لذلك ، وقال : ويلك ! أما فيهم ألف رجل ؟ قال : بلى . قال : أفلا قاتلوا ولو ساعة من نهار ؟ ثم بعث إلى عمرو بن سعيد بن العاص ، فقرأ عليه الكتاب ، واستشاره فيمن يبعثه إليهم ، وعرض عليه ذلك ، فأبى وقال : إن أمير المؤمنين عزلني عنها وهي مضبوطة ، وأمورها محكمة ، فأما الآن فإنما هي دماء قريش تراق بالصعيد ، فلا أحب أن أتولى ذلك منهم ، ليتول ذلك من هو أبعد منهم مني . قال : فبعث البريد إلى مسلم بن عقبة المري وهو شيخ كبير ضعيف ، فانتدب لذلك ، وأرسل معه يزيد عشرة آلاف فارس وقيل : اثني عشر ألفا ونادى منادي يزيد بدمشق أن سيروا على أخذ أعطياتكم كاملا ومعونة أربعين دينارا . قال [ ص: 616 ] المدائني : ويقال : في سبعة وعشرين ألفا ; اثنا عشر ألف فارس وخمسة عشر ألف راجل ، وأعطى كل واحد مائة دينار . وقيل : أربعين دينارا . ثم استعرضهم يزيد وهو على فرس له .

قال : المدائني : وجعل على أهل دمشق عبد الله بن مسعدة الفزاري ، وعلى أهل حمص حصين بن نمير السكوني ، وعلى أهل الأردن حبيش بن دلجة القيني ، وعلى أهل فلسطين روح بن زنباع الجذامي وشريك الكناني ، وعلى أهل قنسرين طريف بن الحسحاس الهلالي ، وعليهم جميعا مسلم بن عقبة المري ، مرة غطفان ، فقال النعمان بن بشير : يا أمير المؤمنين ، ولني عليهم أكفك - وكان النعمان أخا عبد الله بن حنظلة لأمه عمرة بنت رواحة - فقال يزيد : لا ، ليس لهم إلا هذا العشمة ، والله لا أقبلهم بعد إحساني إليهم وعفوي عنهم مرة بعد مرة . فقال النعمان : أنشدك الله يا أمير المؤمنين في عشيرتك وأنصار رسول الله صلى الله عليه وسلم .

وقال له عبد الله بن جعفر : أرأيت إن رجعوا إلى طاعتك أتقبل ذلك منهم ؟ قال : إن فعلوا فلا سبيل عليهم . وقال يزيد لمسلم بن عقبة : إذا قدمت [ ص: 617 ] المدينة ولم تصد عنها ، وسمعوا وأطاعوا فلا تتعرض لأحد منهم ، وامض إلى الملحد ابن الزبير ، وإن صدوك عن المدينة فادعهم ثلاثا ، فإن رجعوا إلى الطاعة فاقبل منهم وكف عنهم ، وإلا فاستعن بالله وقاتلهم ، وإذا ظهرت عليهم فأبحها ثلاثا ، ثم اكفف عن الناس ، وقيل : إنه قال لمسلم بن عقبة : إذا ظهرت عليهم فإن كان قتل منبني أمية أحد فجرد السيف ، واقتل المقبل والمدبر ، وأجهز على الجريح وانهبها ثلاثا ، وانظر إلى علي بن الحسين فاكفف عنه واستوص به خيرا ، وأدن مجلسه ; فإنه لم يدخل في شيء مما دخلوا فيه . وأمره إذا فرغ من المدينة أن يذهب إلى مكة لحصار ابن الزبير وقال له : إن حدث بك أمر فعلى الناس حصين بن نمير السكوني .

وقد كان يزيد كتب إلى عبيد الله بن زياد أن يسير إلى ابن الزبير ، فيحاصره بمكة ، فأبى عليه وقال : والله لا أجمعهما للفاسق أبدا ، أقتل ابن بنت رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وأغزو البيت الحرام ؟ ! وقد كانت أمه مرجانة قالت له حين قتل الحسين : ويحك ! ماذا صنعت ؟ ! وماذا ركبت ؟ !

قالوا : وقد بلغ يزيد أن ابن الزبير يقول في خطبته : يزيد القرود ، شارب الخمر .

فلما جهز مسلم بن عقبة واستعرض الجيش بدمشق ، جعل يقول :

[ ص: 618 ]

أبلغ أبا بكر إذا الجيش سرى وأشرف الجيش على وادي القرى     أجمع سكران من القوم ترى
يا عجبا من ملحد يا عجبا     مخادع للدين يقفو بالفرى

وفي رواية :


أبلغ أبا بكر إذا الأمر انبرى     ونزل الجيش على وادي القرى
عشرون ألفا بين كهل وفتى     أجمع سكران من القوم ترى

قالوا : وسار مسلم بمن معه من الجيوش إلى المدينة ، فلما اقترب منها اجتهد أهل المدينة في حصار بني أمية ، وقالوا لهم : والله لنقتلنكم عن آخركم أو لتعطونا موثقا أن لا تدلوا علينا أحدا من هؤلاء الشاميين ، ولا تمالئوهم علينا . فأعطوهم العهود بذلك ، فلما وصل الجيش تلقاهم بنو أمية ، فجعل مسلم يسألهم عن الأخبار ، فلا يخبره أحد فانحصر لذلك ، وجاءه عبد الملك بن مروان فقال له : إن كنت تريد النصر فانزل شرقي المدينة في الحرة ، فإذا خرجوا إليك كانت الشمس في أقفيتكم وفي وجوههم ، فادعهم إلى الطاعة ، فإن أجابوك وإلا فاستعن بالله وقاتلهم ، فإن الله ناصرك عليهم ; إذ خالفوا الإمام ، وخرجوا من الطاعة . فشكره مسلم بن عقبة على ذلك ، وامتثل ما أشار به ، فنزل شرقي [ ص: 619 ] المدينة في الحرة ، ودعا أهلها ثلاثة أيام ، كل ذلك يأبون إلا المحاربة والمقاتلة ، فلما مضت الثلاث قال لهم في اليوم الرابع - وهو يوم الأربعاء لليلتين بقيتا من ذي الحجة سنة ثلاث وستين - قال لهم : يا أهل المدينة ، مضت الثلاث ، وإن أمير المؤمنين قال لي : إنكم أصله وعشيرته ، وإنه يكره إراقة دمائكم ، وإنه أمرني أن أؤجلكم ثلاثا ، فقد مضت فما أنتم صانعون ؟ أتسالمون أم تحاربون ؟ فقالوا : بل نحارب . فقال : لا تفعلوا ، بل سالموا ونجعل جدنا وقوتنا على هذا الملحد . يعني ابن الزبير . فقالوا له : يا عدو الله ، لو أردت ذلك لما مكناك منه ، أنحن نذركم تذهبون فتلحدون في بيت الله الحرام ؟ ! ثم تهيئوا للقتال ، وقد كانوا اتخذوا خندقا بينهم وبين مسلم بن عقبة وجعلوا جيشهم أربعة أرباع ، على كل ربع أمير ، وجعلوا أجل الأرباع الربع الذي فيه عبد الله بن حنظلة الغسيل ، ثم اقتتلوا قتالا شديدا ، ثم انهزم أهل المدينة إليها ، وقد قتل من الفريقين خلق من السادات والأعيان ، منهم ; عبد الله بن مطيع ، وبنون له سبعة بين يديه ، وعبد الله بن حنظلة الغسيل ، وأخوه لأمه محمد بن ثابت بن شماس ، ومحمد بن عمرو بن حزم ، وقد مر به مروان بن الحكم وهو مجدل ، فقال : رحمك الله ، فكم من سارية قد رأيتك تطيل عندها القيام والسجود .

ثم أباح مسلم بن عقبة الذي يقول فيه السلف : مسرف بن عقبة . قبحه [ ص: 620 ] الله المدينة ثلاثة أيام كما أمره يزيد لا جزاه الله خيرا ، وقتل خلقا من أشرافها وقرائها ، وانتهب أموالا كثيرة منها ، ووقع شر عظيم وفساد عريض ، على ما ذكره غير واحد ، فكان ممن قتل بين يديه صبرا معقل بن سنان الأشجعي ، وقد كان صديقه قبل ذلك ، ولكن أسمعه في يزيد كلاما غليظا ، فنقم عليه بسببه .

واستدعى بعلي بن الحسين فجاء يمشي بين مروان بن الحكم وابنه عبد الملك ، ليأخذ له بهما عنده أمانا ، ولم يشعر أن يزيد قد أوصاه به ، فلما جلس بين يديه استدعى مروان بشراب - وقد كان مسلم بن عقبة قد حمل معه من الشام ثلجا إلى المدينة فكان يشاب له بشرابه - فلما جيء بالشراب ، شرب مروان قليلا ، ثم أعطى الباقي لعلي بن الحسين ليأخذ له بذلك أمانا ، وكان مروان موادا لعلي بن الحسين ، فلما نظر إليه مسلم بن عقبة قد أخذ الإناء في يده قال له : لا تشرب من شرابنا . ثم قال له : إنما جئت مع هذين لتأمن بهما . فارتعدت يد علي بن الحسين وجعل لا يضع الإناء من يده ولا يشربه ، ثم قال له : لولا أن أمير المؤمنين أوصاني بك لضربت عنقك . ثم قال له : إن شئت أن تشرب فاشرب ، وإن شئت دعونا لك بغيرها . فقال : هذه التي في كفي أريد . فشرب ثم قال له مسلم بن عقبة إلي ، هاهنا . فأجلسه معه على السرير ، وقال له : إن أمير المؤمنين أوصاني بك ، وإن هؤلاء شغلوني عنك . ثم قال : لعل أهلك فزعوا . قال : إي والله . فأمر بدابته فأسرجت ، ثم حمله عليها حتى رده إلى منزله مكرما ، ثم استدعى بعمرو بن عثمان بن عفان - ولم يكن خرج مع بني أمية - فقال له : إنك إن ظهر أهل المدينة قلت : أنا كنت معكم . وإن ظهر أهل [ ص: 621 ] الشام قلت : أنا ابن أمير المؤمنين . ثم أمر به ، فنتفت لحيته بين يديه .

قال المدائني : وأباح مسلم بن عقبة المدينة ثلاثا ، يقتلون الناس ، ويأخذون الأموال . فأرسلت سعدى بنت عوف المرية إلى مسلم بن عقبة تقول : أنا بنت عمك ، فمر أصحابك أن لا يتعرضوا لإبل لنا بمكان كذا وكذا . فقال لأصحابه لا تبدءوا إلا بإبلها . وجاءت امرأة فقالت : أنا مولاتك ، وابني في الأسارى . فقال : عجلوه لها . فضربت عنقه ، وقال : أعطوها رأسه ، أما ترضين أن لا تقتلي حتى تتكلمي في ابنك ؟ ووقعوا على النساء حتى قيل : إنه حبلت ألف امرأة في تلك الأيام من غير زوج .

قال المدائني ، عن أبي قرة قال : قال هشام بن حسان : ولدت ألف امرأة من أهل المدينة بعد الحرة من غير زوج .

وقد اختفى جماعة من سادات الصحابة ، منهم جابر بن عبد الله ، وخرج أبو سعيد الخدري فلجأ إلى غار في جبل ، فلحقه رجل من أهل الشام . قال : فلما رأيته انتضيت سيفي فقصدني ، فلما رآني صمم على قتلي ، فشمت سيفي ، ثم قلت : إني أريد أن تبوء بإثمي وإثمك فتكون من أصحاب النار وذلك جزاء الظالمين [ المائدة : 29 ] . [ ص: 622 ] فلما رأى ذلك قال : من أنت ؟ قلت : أنا أبو سعيد الخدري قال : صاحب رسول الله صلى الله عليه وسلم ؟ قلت : نعم . فمضى وتركني .

قال المدائني : وجيء إلى مسلم بسعيد بن المسيب ، فقال له : بايع . فقال : أبايع على سيرة أبي بكر وعمر . فأمر بضرب عنقه ، فشهد رجل أنه مجنون ، فخلى سبيله .

وقال المدائني عن علي بن عبد الله القرشي وأبي إسحاق التميمي قالا : لما انهزم أهل المدينة يوم الحرة صاح النساء والصبيان ، فقال ابن عمر : بعثمان ورب الكعبة .

[ ص: 623 ] قال المدائني عن شيخ من أهل المدينة قال : سألت الزهري : كم كان القتلى يوم الحرة ؟ قال : سبعمائة من وجوه الناس من المهاجرين والأنصار ، ووجوه الموالي ، وممن لا يعرف من حر وعبد وغيرهم عشرة آلاف . قال : وكانت الوقعة لثلاث بقين من ذي الحجة سنة ثلاث وستين ، وانتهبوا المدينة ثلاثة أيام .

قال الواقدي وأبو معشر : كانت وقعة الحرة يوم الأربعاء لليلتين بقيتا من [ ص: 624 ] ذي الحجة سنة ثلاث وستين .

قال الواقدي ، عن عبد الله بن جعفر عن ابن عوف قال : وحج بالناس في هذه السنة عبد الله بن الزبير ، وكانوا يسمونه العائذ ، ويرون الأمر شورى . وجاء الخبر إلى أهل مكة بما حصل لأهل المدينة ليلة مستهل المحرم ، مع سعيد مولى المسور بن مخرمة ، فحزنوا حزنا شديدا ، وتأهبوا لقتال أهل الشام .

قال ابن جرير : وقد رويت قصة الحرة على غير ما رواه أبو مخنف فحدثني أحمد بن زهير ، ثنا أبي ، سمعت وهب بن جرير ، ثنا جويرية بن أسماء قال : سمعت أشياخ أهل المدينة يحدثون أن معاوية لما حضرته الوفاة دعا ابنه يزيد فقال له : إن لك من أهل المدينة يوما ، فإن فعلوا فارمهم بمسلم بن عقبة فإنه رجل قد عرفت نصيحته . فلما هلك معاوية وفد إليه وفد من أهل المدينة ، وكان ممن وفد عليه عبد الله بن حنظلة بن أبي عامر - وكان شريفا فاضلا سيدا عابدا - معه ثمانية بنين له ، فأعطاه مائة ألف درهم ، وأعطى بنيه ، كل واحد منهم عشرة آلاف سوى كسوتهم وحملانهم ، فلما قدم المدينة عبد الله بن حنظلة أتاه الناس فقالوا : ما وراءك ؟ قال : جئتكم من عند رجل والله لو لم أجد إلا بني هؤلاء [ ص: 625 ] لجاهدته بهم . قالوا : قد بلغنا أنه أعطاك وأحذاك وأكرمك . قال : قد فعل ، وما قبلت منه إلا لأتقوى به . فحض الناس فبايعوه ، فبلغ ذلك يزيد ، فبعث إليهم مسلم بن عقبة ، وقد بعث أهل المدينة إلى كل ماء بينهم وبين الشام فصبوا فيه زقا من قطران وعوروه ، فأرسل الله على جيش الشام السماء مدرارا ، فلم يستقوا بدلو حتى وردوا المدينة ، فخرج إليهم أهل المدينة بجموع كثيرة وهيئة لم ير مثلها ، فلما رآهم أهل الشام هابوهم وكرهوا قتالهم ، ومسلم شديد الوجع ، فبينما الناس في قتالهم إذ سمعوا التكبير من خلفهم في جوف المدينة ، وأقحم عليهم بنو حارثة من أهل الشام وهم على الجدد ، فانهزم الناس ، فكان من أصيب في الخندق أكثر ممن قتل من الناس ، فدخلوا المدينة ، [ ص: 626 ] وهزم الناس وعبد الله بن حنظلة مستند إلى الجدار يغط نوما ، فنبهه ابنه ، فلما فتح عينيه ، ورأى ما صنع الناس ، أمر أكبر بنيه فتقدم حتى قتل ، فدخل مسلم بن عقبة المدينة ، فدعا الناس للبيعة على أنهم خول ليزيد بن معاوية ، يحكم في دمائهم وأموالهم وأهليهم ما شاء .

وقد روى ابن عساكر في ترجمة أحمد بن عبد الصمد من " تاريخه " من كتاب المجالسة لأحمد بن مروان المالكي ، ثنا الحسين بن الحسن اليشكري ، ثنا الزيادي ، عن الأصمعي ( ح ) وحدثني محمد بن الحارث ، عن المدائني قال : لما قتل أهل الحرة هتف هاتف بمكة على أبي قبيس مساء تلك الليلة ، وابن الزبير جالس يسمع :


قتل الخيار بنو الخيا     ر ذوو المهابة والسماح
والصائمون القائمو     ن القانتون أولو الصلاح
المهتدون المتقو     ن السابقون إلى الفلاح
ماذا بواقم والبقيع     من الجحاجحة الصباح
وبقاع يثرب ويحهن     من النوادب والصياح

[ ص: 627 ] فقال ابن الزبير لأصحابه : يا هؤلاء ، قتل أصحابكم ، فإنا لله وإنا إليه راجعون .

وقد أخطأ يزيد خطأ فاحشا في قوله لمسلم بن عقبة أن يبيح المدينة ثلاثة أيام ، وهذا خطأ كبير ، فإنه وقع في هذه الثلاثة أيام من المفاسد العظيمة في المدينة النبوية ما لا يحد ولا يوصف ، مما لا يعلمه إلا الله عز وجل .

وقد أراد بإرسال مسلم بن عقبة توطيد سلطانه وملكه ، ودوام أيامه ، فعاقبه الله بنقيض قصده ، فقصمه الله قاصم الجبابرة ، وأخذه أخذ عزيز مقتدر .

قال البخاري في " صحيحه " : حدثنا الحسين بن حريث ، ثنا الفضل بن موسى ، ثنا الجعيد ، عن عائشة بنت سعد بن أبي وقاص ، عن أبيها قال : سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول : " لا يكيد أهل المدينة أحد إلا انماع كما ينماع الملح في الماء " .

وقد رواه مسلم من حديث أبي عبد الله القراظ المدني - واسمه [ ص: 628 ] دينار - عن سعد بن أبي وقاص أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : " لا يريد أحد أهل المدينة بسوء إلا أذابه الله في النار ذوب الرصاص " أو : " ذوب الملح في الماء " .

وفي رواية لمسلم من طريق أبي عبد الله القراظ ، عن سعد وأبي هريرة ، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : " من أراد أهل المدينة بسوء أذابه الله كما يذوب الملح في الماء " .

وقال الإمام أحمد : حدثنا أنس بن عياض ، ثنا يزيد بن خصيفة ، عن عبد الرحمن بن عبد الله بن عبد الرحمن بن أبي صعصعة ، عن عطاء بن يسار ، عن السائب بن خلاد ، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : " من أخاف أهل المدينة ظلما أخافه الله ، وعليه لعنة الله والملائكة والناس أجمعين ، لا يقبل الله منه يوم القيامة صرفا ولا عدلا " . ورواه النسائي من غير وجه ، عن علي بن حجر ، عن إسماعيل بن جعفر ، عن يزيد بن خصيفة ، عن عبد الرحمن بن عبد الله بن عبد الرحمن بن أبي صعصعة ، عن عطاء بن يسار عن ابن [ ص: 629 ] خلاد من بلحارث بن الخزرج ، أخبره ، فذكره . وكذلك رواه الحميدي عن عبد العزيز بن أبي حازم ، عن يزيد بن خصيفة . ورواه النسائي أيضا ، عن يحيى بن حبيب بن عربي ، عن حماد ، عن يحيى بن سعيد ، عن مسلم بن أبي مريم ، عن عطاء بن يسار ، عن ابن خلاد ، وكان من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم ، فذكره .

وقال ابن وهب : أخبرني حيوة بن شريح ، عن ابن الهاد ، عن أبي بكر ، عن عطاء بن يسار عن السائب بن خلاد قال : سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول : " من أخاف أهل المدينة أخافه الله ، وعليه لعنة الله والملائكة والناس أجمعين " .

وقال الدارقطني : ثنا علي بن أحمد بن الهيثم ، ثنا أبي ، ثنا سعيد بن عبد الحميد بن جعفر ، ثنا أبو زكريا يحيى بن عبد الله بن يزيد بن عبد الله بن أنيس الأنصاري ، عن محمد وعبد الرحمن ابني جابر بن عبد الله قالا : خرجنا [ ص: 630 ] مع أبينا يوم الحرة ، وقد كف بصره فقال : تعس من أخاف رسول الله صلى الله عليه وسلم . فقلنا : يا أبت ، وهل أحد يخيف رسول الله صلى الله عليه وسلم ؟ ! فقال : سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول : " من أخاف هذا الحي من الأنصار فقد أخاف ما بين هذين " . ووضع كفيه على جنبيه قال الدارقطني : تفرد به سعد بن عبد الحميد لفظا وإسنادا . وقد استدل بهذا الحديث وأمثاله من ذهب إلى الترخيص في لعنة يزيد بن معاوية ، وهو رواية عن أحمد بن حنبل اختارها الخلال ، وأبو بكر عبد العزيز ، والقاضي أبو يعلى ، وابنه القاضي أبو الحسين ، وانتصر لذلك الشيخ أبو الفرج بن الجوزي في مصنف مفرد وجوز لعنه ، ومنع من ذلك آخرون - وصنفوا فيه أيضا - لئلا يجعل لعنه وسيلة إلى أبيه أو أحد من الصحابة ، وحملوا ما صدر عنه من سوء التصرفات على أنه تأول وأخطأ ، وقالوا : إنه كان مع ذلك إماما فاسقا ، والإمام إذا فسق لا يعزل بمجرد ذلك ، على أصح قولي العلماء ، بل ولا يجوز الخروج عليه ; لما في ذلك من إثارة الفتنة ، ووقوع الهرج ، كما جرى .

وأما ما يذكره بعض الناس من أن يزيد بن معاوية لما بلغه خبر أهل المدينة ، [ ص: 631 ] وما جرى عليهم عند الحرة من مسلم بن عقبة وجيشه ، فرح بذلك فرحا شديدا ، فإنه كان يرى أنه الإمام ، وقد خرجوا عن طاعته ، وأمروا عليهم غيره ، فله قتالهم حتى يرجعوا إلى الطاعة ، ولزوم الجماعة ، كما أنذرهم بذلك على لسان النعمان بن بشير ومسلم بن عقبة ثلاثة أيام كما تقدم ، وقد جاء في الحديث الصحيح : " من جاءكم وأمركم جميع يريد أن يفرق بينكم فاقتلوه كائنا من كان " . وأما ما يوردونه عنه من الشعر في ذلك ، واستشهاده بشعر ابن الزبعرى في وقعة أحد التي يقول فيها :


ليت أشياخي ببدر شهدوا     جزع الخزرج من وقع الأسل
حين حكت بقباء بركها     واستحر القتل في عبد الأشل
قد قتلنا الضعف من أشرافهم     وعدلنا ميل بدر فاعتدل

وقد زاد بعض الروافض فيها فقال :


لعبت هاشم بالملك فلا     ملك جاء ولا وحي نزل

فهذا إن قاله يزيد بن معاوية فلعنة الله عليه ولعنة اللاعنين ، وإن لم يكن قاله فلعنة الله على من وضعه عليه ليشنع عليه به وعلى ملوك المسلمين ، وسنذكر ترجمة يزيد بن معاوية قريبا ، وما ذكر عنه ، وما قيل فيه ، وما كان يعانيه من الأفعال والقبائح والأقوال ، في السنة الآتية ، فإنه لم يمهل بعد وقعة الحرة وقتل الحسين إلا يسيرا حتى قصمه الله الذي قصم الجبابرة قبله [ ص: 632 ] وبعده ، إنه كان عليما قديرا .

وقد توفي في هذه السنة خلق من المشاهير والأعيان من الصحابة وغيرهم في وقعة الحرة مما يطول ذكرهم ; فمن مشاهيرهم من الصحابة عبد الله بن حنظلة أمير المدينة ، الذي بايعه أهل الحرة ، ومعقل بن سنان ، وعبد الله بن زيد بن عاصم ، رضي الله عنهم ، ومسروق بن الأجدع .

التالي السابق


الخدمات العلمية