صفحة جزء
[ ص: 699 ]

وقعة عين وردة

واستراح سليمان وأصحابه واطمأنوا ، فلما اقترب قدوم أهل الشام إليهم خطب سليمان أصحابه ، فرغبهم في الآخرة ، وزهدهم في الدنيا ، وحثهم على الجهاد ، وقال : إن قتلت فالأمير عليكم المسيب بن نجبة ، فإن قتل فعبد الله بن سعد بن نفيل ، فإن قتل فعبد الله بن وال ، فإن قتل فرفاعة بن شداد . ثم بعث بين يديه المسيب بن نجبة في أربعمائة فارس ، فأغاروا على جيش شرحبيل بن ذي الكلاع وهم غارون ، فقتلوا منهم جماعة وجرحوا آخرين ، واستاقوا نعما ، وأتى الخبر إلى عبيد الله بن زياد ، فأرسل بين يديه الحصين بن نمير فصبح سليمان بن صرد وجيشه فتواقفوا في يوم الأربعاء لثمان بقين من جمادى الأولى ، وحصين بن نمير قائم في اثني عشر ألفا ، وقد تهيأ كل من الفريقين لصاحبه ، فدعا الشاميون أصحاب سليمان إلى الدخول في طاعة مروان بن الحكم ، ودعا أصحاب سليمان الشاميين إلى أن يسلموا إليهم عبيد الله بن زياد فيقتلوه عن الحسين ، وامتنع كل من الفريقين أن يجيب إلى ما دعا إليه الآخر ، فاقتتلوا قتالا شديدا عامة يومهم إلى الليل ، وكانت الدائرة فيه للعراقيين على الشاميين ، فلما أصبحوا أصبح ابن ذي الكلاع ، وقد وصل إلى الشاميين في ثمانية آلاف فارس ، وقد أنبه وشتمه عبيد الله بن زياد ، فاقتتل الناس في هذا اليوم [ ص: 700 ] قتالا لم ير الشيب والمرد مثله قط ، لا يحجز بينهم إلا أوقات الصلوات إلى الليل ، فلما أصبح الناس من اليوم الثالث وصل إلى الشاميين أدهم بن محرز في عشرة آلاف ، وذلك في يوم الجمعة ، فاقتتلوا قتالا شديدا إلى حين ارتفاع الضحى ، ثم استدار أهل الشام بأهل العراق وأحاطوا بهم من كل جانب ، فخطب سليمان بن صرد الناس ، وحرضهم على الجهاد ، فاقتتل الناس قتالا عظيما جدا ، ثم ترجل سليمان بن صرد وكسر جفن سيفه ، ونادى : يا عباد الله ، من أراد الرواح إلى الجنة ، والتوبة من ذنبه ، والوفاء بعهده فليأت إلي . فترجل معه ناس كثيرون وكسروا جفون سيوفهم ، وحملوا حتى صاروا في وسط القوم ، وقتلوا من أهل الشام مقتلة عظيمة حتى خاضوا في الدماء ، وقتل سليمان بن صرد ، رماه يزيد بن الحصين بسهم فوقع ، ثم وثب ، ثم وقع ، ثم وثب ، ثم وقع ، فأخذ الراية المسيب بن نجبة ، فقاتل بها قتالا شديدا ، وهو يقول :


قد علمت ميالة الذوائب واضحة اللبات والترائب     أني غداة الروع والتغالب
أشجع من ذي لبدة مواثب


قطاع أقران مخوف الجانب

ثم قتل ، رحمه الله ، فقضى في ذلك الموقف نحبه ، ولحق صحبه ، فأخذ الراية عبد الله بن سعد بن نفيل ، فقاتل قتالا شديدا أيضا وهو يقول : [ ص: 701 ] رحم الله أخوي ، منهم من قضى نحبه ، ومنهم من ينتظر ، وما بدلوا تبديلا . وحمل حينئذ ربيعة بن المخارق على أهل العراق حملة منكرة ، وتبارز هو وعبد الله بن سعد بن نفيل ، ثم اتحدا فحمل ابن أخي ربيعة على عبد الله بن سعد فقتله ، ثم احتمل عمه ، فأخذ الراية عبد الله بن وال ، فحرض الناس على الجهاد ، وجعل يقول : الرواح إلى الجنة . وذلك بعد العصر ، وحمل بالناس ففرق من كان حوله ، ثم قتل ، وكان من الفقهاء المفتين ، قتله أدهم بن محرز الباهلي أمير الحرب ساعتئذ من جهة الشاميين ، فأخذ الراية رفاعة بن شداد ، فانحاز بالناس ، وقد دخل الظلام ، ورجع الشاميون إلى رحالهم ، وانشمر رفاعة بمن بقي معه راجعا إلى بلاده ، فلما أصبح الشاميون إذا العراقيون قد كروا راجعين إلى بلادهم ، فلم يبعثوا وراءهم طلبا ولا أحدا ، فقطع رفاعة بمن معه الخابور ومر على قرقيسيا ، فبعث إليهم زفر بن الحارث الطعام والعلف والأطباء فأقاموا ثلاثا حتى استراحوا ثم رحلوا ، فلما وصلوا إلى هيت إذا سعد بن حذيفة بن اليمان قد أقبل بمن معه من أهل المدائن قاصدين إلى نصرتهم ، فلما أخبروه بما كان من أمرهم ، وما حل بهم ، ونعوا إليه أصحابهم ترحموا عليهم واستغفروا لهم وتباكوا على إخوانهم ، وانصرف أهل المدائن إليها ، ورجع راجعة أهل الكوفة إليها ، وقد قتل منهم خلق كثير وجم غفير ، وإذا المختار بن أبي عبيد كما هو في السجن لم يخرج منه بعد ، فكتب إلى رفاعة بن شداد يعزيه فيمن قتل [ ص: 702 ] منهم ويترحم عليهم ، ويغبطهم بما نالوا من الشهادة وجزيل الثواب ، ويقول : مرحبا بالذين أعظم الله أجورهم ، ورضي عنهم ، والله ما خطا منهم أحد خطوة إلا كان ثواب الله له فيها أعظم من الدنيا وما فيها ، وإن سليمان قد قضى ما عليه ، وتوفاه الله وجعل روحه في أرواح النبيين والشهداء والصالحين ، وبعد فأنا الأمير المأمون ، قاتل الجبارين والمفسدين إن شاء الله ، فأعدوا واستعدوا وأبشروا ، وأنا أدعوكم إلى كتاب الله وسنة رسوله ، والطلب بدماء أهل البيت . وذكر كلاما كثيرا في هذا المعنى ، وقد كان قبل قدومهم أخبر الناس بهلاكهم عن رئيه الذي كان يأتي إليه من الشياطين ، فإنه قد كان يأتيه شيطان فيوحي إليه قريبا مما كان يوحي شيطان مسيلمة إليه . وكان جيش سليمان بن صرد وأصحابه يسمى بجيش التوابين .

وقد كان سليمان بن صرد الخزاعي أبو مطرف الكوفي صحابيا جليلا نبيلا عابدا زاهدا ، روى عن النبي صلى الله عليه وسلم أحاديث في " الصحيحين " وغيرهما ، وشهد مع علي صفين ، وكان أحد من كان يجتمع الشيعة في داره لبيعة الحسين ، وكتب إلى الحسين فيمن كتب بالقدوم إلى العراق ، فلما قدمها تخلوا عنه ، وقتل بكربلاء ، ورأى هؤلاء أنهم كانوا سببا في قدومه ، وأنهم خذلوه حتى قتل هو وأهل بيته ، فندموا على ما فعلوا ، ثم اجتمعوا في هذا الجيش ، [ ص: 703 ] وسموا جيشهم جيش التوابين ، وسموا سليمان بن صرد أمير التوابين ، فقتل سليمان ، رضي الله عنه ، في هذه الوقعة بعين وردة ، سنة خمس وستين . وقيل : سنة سبع وستين . والأول أصح . وكان عمره يوم قتل ثلاثا وتسعين سنة ، رحمه الله .

وأما المسيب بن نجبة بن ربيعة الفزاري ، فإنه قدم مع خالد بن الوليد من العراق وشهد فتح دمشق ، ثم عاد إلى العراق وشهد مع علي صفين وغيرها ، وكان أحد الكبار الذين خرجوا يطلبون بدم الحسين ، رضي الله عنه ، وحمل رأسه ورأس سليمان بن صرد إلى مروان بن الحكم بعد الوقعة ، وكتب أمراء الشاميين إلى عبد الملك بن مروان بما فتح الله عليهم ، وأظفرهم من عدوهم ، فخطب الناس ، وأعلمهم بما كان من أمر الجنود ومن قتل من أهل العراق ، وقد قال : أهلك الله رءوس الضلال ; سليمان بن صرد وأصحابه . وعلق الرءوس بدمشق . وكان مروان بن الحكم قد عهد بالأمر من بعده إلى ولديه ; عبد الملك ، ثم عبد العزيز ، وأخذ بيعة الأمراء على ذلك في هذه السنة . قاله ابن جرير وغيره .

وفيها دخل مروان بن الحكم وعمرو بن سعيد الأشدق إلى الديار المصرية ، [ ص: 704 ] فأخذاها من يد نائبها الذي كان لعبد الله بن الزبير ، وهو عبد الرحمن بن جحدم ، وكان سبب ذلك أن مروان قصدها ، فخرج إليه نائبها ابن جحدم ، فقابله مروان ليقاتله ، فاشتغل به ، وخلص عمرو بن سعيد بطائفة من الجيش من وراء عبد الرحمن بن جحدم ، فدخل مصر ، فملكها ، وهرب عبد الرحمن ودخل مروان إلى مصر ، فملكها وجعل عليها ولده عبد العزيز بن مروان .

وفيها بعث ابن الزبير أخاه مصعبا ليفتح له الشام ، فبعث إليه مروان عمرو بن سعيد ، فتلقاه إلى فلسطين ، فهرب منه مصعب بن الزبير ، وكر راجعا ، ولم يظفر بشيء ، واستقر ملك الشام ومصر لمروان .

وفيها جهز مروان جيشين ; أحدهما مع حبيش بن دلجة القيني ليأخذ له المدينة ، وكان من أمره ما سنذكره ، والآخر مع عبيد الله بن زياد إلى العراق [ ص: 705 ] لينتزعه من نواب ابن الزبير ، فلما كانوا ببعض الطريق لقوا جيش التوابين مع سليمان بن صرد ، وكان من أمرهم ما ذكرناه عند عين الوردة ; قتلوا أكثر أصحاب سليمان بن صرد معه واستمروا ذاهبين فلما كانوا بالجزيرة بلغهم موت مروان بن الحكم ، وكانت وفاته في شهر رمضان من هذه السنة ، وكان سبب موته أنه تزوج بأم خالد امرأة يزيد بن معاوية ، وهي أم هاشم بنت هاشم بن عتبة بن ربيعة ، وإنما أراد مروان بتزويجه إياها ليصغر ابنها خالدا في أعين الناس ، فإنه قد كان في نفوس كثير من الناس منه أن يملكوه بعد أخيه معاوية ، فتزوج أمه ليصغر أمره ، فبينما هو ذات يوم داخل إلى عند مروان ، إذ جعل مروان يتكلم فيه عند جلسائه ، فلما جلس قال له فيما خاطبه به : يابن الرطبة الاست . فذهب خالد إلى أمه ، فأخبرها بما قال له ، فقالت : اكتم ذلك ، ولا تعلمه أنك أعلمتني بذلك . فلما دخل عليها مروان قال لها : هل ذكرني خالد عندك بسوء ؟ فقالت له : وما عساه يقول لك وهو يحبك ويعظمك . ثم إن مروان رقد عندها ، فلما أخذه النوم عمدت إلى وسادة ، فوضعتها على وجهه ، وتحاملت عليها هي وجواريها حتى مات غما ، وكان ذلك في ثالث شهر رمضان سنة خمس وستين بدمشق ، وله من العمر ثلاث وستون سنة . وقيل : إحدى وستون وقيل : إحدى وثمانون سنة . وكانت إمارته تسعة أشهر . وقيل : عشرة أشهر إلا ثلاثة أيام .

التالي السابق


الخدمات العلمية