صفحة جزء
[ ص: 5 ] ثم دخلت سنة ست وستين

وفيها وثب المختار بن أبي عبيد الثقفي الكذاب بالكوفة ؛ ليأخذ بثأر الحسين بن علي - فيما يزعم - وأخرج عنها عاملها عبد الله بن مطيع ، وكان سبب ذلك أنه لما رجع أصحاب سليمان بن صرد مغلوبين إلى الكوفة وجدوا المختار بن أبي عبيد الكذاب مسجونا ، فكتب إليهم يعزيهم ويعدهم ويمنيهم وما يعدهم الشيطان إلا غرورا ، وقال لهم فيما كتب به إليهم خفية : أبشروا ، فإني لو قد خرجت إليكم جردت فيما بين المشرق والمغرب من أعدائكم السيف ، فجعلتهم بإذن الله ركاما ، وقتلتهم فذا وتوأما ، فرحب الله بمن قارب منكم واهتدى ، ولا يبعد الله إلا من أبى وعصى . فلما وصلهم الكتاب [ ص: 6 ] قرءوه سرا وردوا إليه : إنا كما تحب ، فمتى أحببت أخرجناك من محبسك . فكره أن يخرجوه من مكانه على وجه القهر لنواب الكوفة ، فتلطف فكتب إلى زوج أخته صفية - وكانت امرأة صالحة - وهو عبد الله بن عمر بن الخطاب يسأله أن يشفع في خروجه من محبسه عند نائبي الكوفة عبد الله بن يزيد ، و إبراهيم بن محمد بن طلحة ، فكتب ابن عمر إليهما يشفع عندهما فيه فلم يمكنهما رده ، وكان فيما كتب إليهما ابن عمر : قد علمتما ما بيني وبينكما من الود وما بيني وبين المختار من القرابة والصهر ، وأنا أقسم عليكما لما خليتما سبيله ، والسلام . فاستدعيا به فضمنه جماعة من أصحابه ، واستحلفه عبد الله بن يزيد إن هو بغى للمسلمين غائلة فعليه ألف بدنة ينحرها تجاه الكعبة ، وكل مملوك له - من عبد وأمة - حر ، فالتزم لهما بذلك ، ولزم منزله ، وجعل يقول : قاتلهما الله ، أما حلفي بالله ، فإني لا أحلف على يمين فأرى غيرها خيرا منها إلا كفرت عن يميني ، وأتيت الذي هو خير ، وأما إهدائي ألف بدنة فيسير ، وأما عتقي مماليكي فوددت أنه قد استتم لي هذا الأمر ولا أملك مملوكا واحدا .

واجتمعت الشيعة عليه ، وكثر أصحابه وبايعوه في السر . وكان الذي يأخذ البيعة له ويحرض الناس عليه خمسة ; وهم السائب بن مالك الأشعري ، و يزيد بن أنس ، و أحمر بن شميط ; ورفاعة بن شداد ، و عبد الله بن شداد الجشمي ، ولم يزل أمره يقوى ويشتد ويستفحل ويرتفع ، حتى عزل [ ص: 7 ] عبد الله بن الزبير عن الكوفة عبد الله بن يزيد ، و إبراهيم بن محمد بن طلحة ، وبعث عبد الله بن مطيع نائبا عليها ، وبعث الحارث بن عبد الله بن أبي ربيعة نائبا على البصرة .

فلما دخل عبد الله بن مطيع المخزومي إلى الكوفة ، في رمضان سنة خمس وستين ، خطب الناس ، وقال في خطبته : إن أمير المؤمنين عبد الله بن الزبير أمرني أن أسير فيكم بسيرة عمر بن الخطاب ، و عثمان بن عفان . فقام إليه السائب بن مالك الأشعري فقال : لا نرضى إلا بسيرة علي بن أبي طالب التي سار بها في بلادنا ، ولا نريد سيرة عثمان - وتكلم فيه - ولا سيرة عمر ، وإن كان لا يريد للناس إلا خيرا . وصدقه على ما قال بعض أمراء الشيعة ، فسكت الأمير وقال : إني سأسير فيكم بما تحبون من ذلك .

وجاء صاحب الشرطة ، وهو إياس بن مضارب العجلي إلى ابن مطيع فقال له : إن هذا الذي رد عليك من رءوس أصحاب المختار ، ولست آمن المختار ، فابعث إليه فاردده إلى السجن ، فإن عيوني قد أخبروني أن أمره قد استجمع له ، وكأنك به وقد وثب بالمصر . فبعث إليه عبد الله بن مطيع زائدة بن قدامة ، وأميرا آخر معه ، فدخلا على المختار فقالا له : أجب الأمير . فدعا بثيابه وأمر بإسراج [ ص: 8 ] دابته ، وتهيأ للذهاب معهما ، فقرأ زائدة بن قدامة وإذ يمكر بك الذين كفروا ليثبتوك أو يقتلوك أو يخرجوك الآية . فألقى المختار نفسه وأمر بقطيفة أن تلقى عليه ، وأظهر أنه مريض ، وقال : أخبرا الأمير بحالي ، فرجعا إلى ابن مطيع فاعتذرا عنه ، فصدقهما ولها عنه .

فلما كان المحرم من هذه السنة عزم المختار على الخروج لطلب ثأر الحسين - فيما يزعم - فلما صمم على ذلك اجتمعت عليه الشيعة وثبطوه عن الخروج الآن إلى وقت آخر ، ثم أنفذوا طائفة منهم إلى محمد ابن الحنفية يسألونه عن أمر المختار وما دعاهم إليه ، فلما اجتمعوا به كان ملخص ما قال لهم : إنا لا نكره أن ينصرنا الله بمن شاء من خلقه . وقد كان المختار بلغه مخرجهم إلى محمد ابن الحنفية ، فكره ذلك ، وخشي أن يكذبه فيما أخبر به عنه ، فإنه لم يكن بإذن محمد ابن الحنفية ، وهم بالخروج قبل رجوع أولئك ، وجعل يسجع لهم سجعا من سجع الكهان بذلك ، ثم كان الأمر على ما سجع به . فلما رجعوا أخبروه بما قال ابن الحنفية ، فعند ذلك قوي أمر الشيعة على الخروج مع المختار بن أبي عبيد .

وقد روى أبو مخنف أن أمراء الشيعة قالوا للمختار : اعلم أن جميع أمراء [ ص: 9 ] الكوفة مع عبد الله بن مطيع وهم ألب علينا ، وإنه إن بايعك إبراهيم بن الأشتر النخعي وحده أغنانا عن جميع من سواه . فبعث إليه المختار جماعة من أصحابه يدعونه إلى الدخول معهم في الأخذ بثأر الحسين ، وذكروه سابقة أبيه مع علي رضي الله عنه ، فقال : قد أجبتكم إلى ما سألتم ، على أن أكون أنا ولي أمركم . فقالوا : إن هذا لا يمكن ؛ لأن المهدي قد بعث المختار إلينا وزيرا له وداعيا إليه . فسكت عنهم إبراهيم بن الأشتر ، فرجعوا إلى المختار فأخبروه ، فمكث ثلاثا ثم خرج في جماعة من رءوس أصحابه إليه ، فدخل على ابن الأشتر فقام إليه واحترمه وأكرمه وجلس إليه فدعاه المختار إلى الدخول معهم ، وأخرج له كتابا على لسان ابن الحنفية يدعوه إلى الدخول مع أصحابه من الشيعة ، فيما قاموا فيه من نصرة آل بيت النبي صلى الله عليه وسلم ، والأخذ بثأر الحسين . فقال إبراهيم بن الأشتر : إنه قد جاءتني كتب محمد ابن الحنفية بغير هذا النظام ، فقال المختار : إن هذا زمان وذاك زمان . فقال إبراهيم بن الأشتر : فمن يشهد أن هذا كتابه . فتقدم جماعة من أصحاب المختار فشهدوا بذلك . فقام ابن الأشتر من مجلسه وأجلس المختار فيه وبايعه ، ودعا لهم بفاكهة وشراب من عسل .

قال الشعبي - وكان حاضرا ذلك من أمرهم هو وأبوه - : فلما انصرف المختار ، قال لي إبراهيم بن الأشتر : يا شعبي ، وماذا ترى فيما شهد به هؤلاء ؟ فقلت : إنهم قراء وأمراء ووجوه الناس ، ولا أراهم يشهدون إلا بما يعلمون . قال : [ ص: 10 ] وكتمته ما في نفسي من اتهامهم ، ولكني كنت أحب أن يخرجوا للأخذ بثأر الحسين ، وكنت على رأي القوم .

ثم جعل إبراهيم يختلف إلى المختار في منزله هو ومن أطاعه من قومه ، ثم اتفق رأي الشيعة على أن يكون خروجهم ليلة الخميس لأربع عشرة ليلة خلت من ربيع الأول من هذه السنة ; سنة ست وستين .

وقد بلغ ابن مطيع أمر القوم وما اشتوروا عليه ، فبعث الشرط في كل جانب من جوانب الكوفة ، وألزم كل أمير بحفظ ناحيته من أن يخرج منها أحد ، فلما كان ليلة الثلاثاء خرج إبراهيم بن الأشتر قاصدا إلى دار المختار في مائة رجل من قومه وعليهم الدروع تحت الأقبية ، فلقيه إياس بن مضارب فقال له : أين تريد يا ابن الأشتر في هذه الساعة ؟ إن أمرك لمريب ، فوالله لا أدعك حتى أحضرك إلى الأمير فيرى فيك رأيه . فتناول إبراهيم بن الأشتر رمحا من يد رجل فطعنه في ثغرة نحره ، فسقط وأمر رجلا فاحتز رأسه ، وذهب به إلى المختار فألقاه بين يديه ، فقال له المختار بشرك الله بخير ، فهذا طائر صالح . ثم طلب إبراهيم من المختار أن يخرج في هذه الليلة ، فأمر المختار بالنار أن ترفع ، وأن ينادى بشعار أصحابه : يا منصور أمت ، يا ثارات الحسين . ثم نهض المختار فجعل يلبس درعه وسلاحه وهو يقول : [ ص: 11 ]

قد علمت بيضاء حسناء الطلل واضحة الخدين عجزاء الكفل     أني غداة الروع مقدام بطل

وخرج بين يديه إبراهيم بن الأشتر ، فجعل يتقصد الأمراء الموكلين بنواحي البلد ، فيطردهم عن أماكنهم واحدا واحدا ، وينادي بشعار المختار . وبعث المختار أبا عثمان النهدي فنادى بشعار المختار : يا ثارات الحسين . فاجتمع الناس إليه من هاهنا وهاهنا ، وجاء شبث بن ربعي فاقتتل هو والمختار عند داره وحصره حتى جاء إبراهيم بن الأشتر فطرده عنه .

فرجع شبث إلى ابن مطيع ، وأشار عليه بأن يجمع الأمراء إليه ، وأن ينهض بنفسه ، فإن أمر المختار قد قوي واستفحل ، وجاءت الشيعة من كل فج عميق إلى المختار ، فاجتمع إليه في أثناء الليل قريب من أربعة آلاف ، فأصبح وقد عبى جيشه وصلى بهم الصبح ، فقرأ فيها : والنازعات غرقا و عبس وتولى في الثانية . قال بعض من سمعه : فما سمعت إماما أفصح لهجة منه . وقد جهز ابن مطيع جيشا ؛ ثلاثة آلاف عليهم شبث بن ربعي ، وأربعة آلاف أخرى مع راشد بن إياس بن مضارب ، فوجه المختار إبراهيم بن الأشتر في ستمائة فارس وستمائة راجل إلى راشد بن إياس ، وبعث نعيم بن هبيرة في ثلاثمائة فارس وستمائة راجل إلى شبث بن ربعي . فأما إبراهيم بن الأشتر فإنه هزم قرنه راشد [ ص: 12 ] بن إياس وقتله وأرسل إلى المختار يبشره ، وأما نعيم بن هبيرة فإنه لقي شبث بن ربعي فهزمه شبث بن ربعي وقتله وجاء فأحاط بالمختار بن أبي عبيد وحصره ، وأقبل إبراهيم بن الأشتر نحو المختار بن أبي عبيد ، فاعترض له حسان بن فائد العبسي في نحو من ألفي فارس من جهة ابن مطيع ، فاقتتلوا ساعة ، فهزمه إبراهيم ، ثم أقبل نحو المختار ، فوجد شبث بن ربعي قد حصر المختار وجيشه ، فما زال حتى طردهم عنه ، وكروا راجعين . وخلص إبراهيم إلى المختار ، وارتحلوا من مكانهم ذلك إلى غيره في ظاهر الكوفة فقال له إبراهيم بن الأشتر : اعمد بنا إلى قصر الإمارة ، فليس دونه أحد يرد عنه . فوضعوا ما معهم من الأثقال وأجلسوا هنالك ضعفة المشايخ والرجال .

واستخلف المختار على من هنالك أبا عثمان النهدي ، وبعث بين يديه إبراهيم بن الأشتر ، وعبأ المختار جيشه كما كان ، وسار نحو القصر ، فبعث ابن مطيع عمرو بن الحجاج في ألفي رجل ، فبعث إليه المختار يزيد بن أنس ، وسار هو وابن الأشتر أمامه حتى دخل الكوفة من باب الكناسة ، وأرسل ابن مطيع شمر بن ذي الجوشن - الذي قتل الحسين - في ألفين آخرين ، فبعث إليه المختار سعيد بن منقذ الهمذاني ، وسار المختار حتى انتهى إلى سكة شبث ، وإذا [ ص: 13 ] نوفل بن مساحق بن عبد الله بن مخرمة في خمسة آلاف ، وخرج ابن مطيع من القصر في الناس ، واستخلف عليه شبث بن ربعي ، فتقدم إبراهيم بن الأشتر إلى الجيش الذي مع نوفل بن مساحق . فهزمهم وأخذ بلجام دابة ابن مساحق فمت إليه بالقرابة ، فأطلقه ، فكان لا ينساها بعد لابن الأشتر .

ثم تقدم المختار بجيشه إلى الكناسة وحصروا ابن مطيع بقصره ثلاثا ، ومعه أشراف الناس سوى عمرو بن حريث ، فإنه لزم داره ، فلما ضاق الحال على ابن مطيع وأصحابه استشارهم فأشار عليه شبث بن ربعي أن يأخذ له ولهم من المختار أمانا ، فقال : ما كنت لأفعل هذا وأمير المؤمنين مطاع بالحجاز وبالبصرة . فقال له : فإن رأيت أن تذهب بنفسك مختفيا حتى تلحق بصاحبك فتخبره بما كان من الأمر ، وبما كان منا في نصره وإقامة دولته . فلما كان الليل خرج ابن مطيع مختفيا حتى دخل دار أبي موسى الأشعري ، فلما أصبح الناس أخذ الأمراء لهم أمانا من أميرهم ابن الأشتر فأمنهم ، فخرجوا من القصر وجاءوا إلى المختار فبايعوه ، وجاء المختار فدخل القصر فبات فيه ، وأصبح أشراف الناس في المسجد وعلى باب القصر ، فخرج المختار إلى المسجد فصعد المنبر وخطب الناس خطبة بليغة ، ثم دعا الناس إلى البيعة وقال : فوالذي جعل السماء سقفا مكفوفا والأرض فجاجا سبلا ، ما بايعتم بعد بيعة علي أهدى منها ، ثم نزل فدخل ودخل الناس يبايعونه على كتاب الله وسنة رسوله ، والطلب بثأر الحسين وأهل البيت ، وجاء رجل إلى المختار فأخبره أن ابن مطيع في دار أبي موسى ، [ ص: 14 ] فأراه أنه لا يسمع قوله ، حتى كرر ذلك ثلاثا ، كل ذلك يريه أنه لا يسمع قوله . فسكت الرجل ، فلما كان الليل بعث المختار إلى ابن مطيع بمائة ألف درهم وقال له : اذهب فقد أخبرت بمكانك ، - وكان له صديقا قبل ذلك - فذهب ابن مطيع إلى البصرة وكره أن يرجع إلى عبد الله بن الزبير وهو مغلوب . وشرع المختار يتحبب إلى الناس بحسن السيرة ووجد في بيت المال تسعة آلاف ألف ، فأعطى الجيش الذين حضروا معه القتال نفقات كثيرة . واستعمل على شرطته عبد الله بن كامل الشاكري ، وقرب أشراف الناس فكانوا جلساءه ، فشق ذلك على الموالي الذين قاموا بنصره ، وقالوا لأبي عمرة كيسان مولى عرينة ، وكان على حرسه : قدم والله أبو إسحاق العرب وتركنا ، فأنهى ذلك أبو عمرة إليه ، فقال : بل هم مني وأنا منهم ، ثم قال إنا من المجرمين منتقمون [ السجدة : 22 ] فقال لهم أبو عمرة : أبشروا فإنه سيقتلهم ويقربكم فأعجبهم ذلك وسكتوا .

ثم إن المختار بعث الأمراء إلى النواحي والبلدان والأقاليم والرساتيق من أرض العراق وخراسان ، وعقد الألوية والرايات . وقرر الإمارة والولايات ، وجعل يجلس للناس غدوة وعشية يحكم بينهم فلما طال ذلك عليه استقضى شريحا ، [ ص: 15 ] فتكلم في شريح طائفة من الشيعة ، وقالوا إنه شهد على حجر بن عدي ، وإنه لم يبلغ عن هانئ بن عروة ما أرسله به ، وقد كان علي بن أبي طالب عزله عن القضاء ، فلما بلغ شريحا ذلك تمارض ولزم بيته ، فجعل المختار مكانه عبد الله بن عتبة بن مسعود ، ثم عزله وجعل مكانه عبد الله بن مالك الطائي قاضيا .

التالي السابق


الخدمات العلمية