صفحة جزء
فصل ( تولي ابن عباس إمامة الحج سنة خمس وثلاثين بأمر عثمان بن عفان )

تولى ابن عباس إمامة الحج سنة خمس وثلاثين بأمر عثمان بن عفان له وهو محصور ، وفي غيبته هذه قتل عثمان . وحضر مع علي يوم الجمل ، وكان على الميسرة يوم صفين ، وشهد قتال الخوارج ، وتأمر على البصرة من جهة علي ، فكان إذا خرج منها يستخلف أبا الأسود الدؤلي على الصلاة ، وزياد بن أبي سفيان على الخراج ، وكان أهل البصرة مغبوطين به ، يفقههم ويعلم جاهلهم ، ويعظ مجرمهم ، ويعطي فقيرهم ، فلم يزل عليها حتى مات علي ، ويقال : إن عليا عزله عنها قبل موته ، ثم وفد على معاوية ، فأكرمه وقربه واحترمه [ ص: 106 ] وعظمه ، وكان يلقي عليه المسائل المعضلة فيجيب فيها سريعا ، فكان معاوية يقول : ما رأيت أحدا أحضر جوابا من ابن عباس . ولما جاء الكتاب بموت الحسن بن علي اتفق كون ابن عباس عند معاوية فعزاه فيه بأحسن تعزية ، ورد عليه ابن عباس ردا حسنا كما قدمنا ، وبعث معاوية ابنه يزيد فجلس بين يدي ابن عباس فعزاه بعبارة فصيحة بليغة وجيزة ، شكره عليها ابن عباس - وقد تقدم ذلك أيضا - ولما مات معاوية ورام الحسين بن علي الخروج إلى العراق ، نهاه ابن عباس أشد النهي ، وأراد ابن عباس أن يتعلق بثياب الحسين ; - لأن ابن عباس كان قد أضر في آخر عمره - فلم يقبل منه ، فلما بلغه موته حزن عليه حزنا شديدا ولزم بيته ، وكان يقول : يا لسان قل خيرا تغنم ، واسكت عن شر تسلم ، فإنك إن لا تفعل تندم ، وجاء إليه رجل يقال له : جندب . فقال له أوصني : فقال : أوصيك بتوحيد الله ، والعمل له ، وإقام الصلاة وإيتاء الزكاة ، فإن كل خير أنت آتيه بعد ذلك مقبول ، وإلى الله مرفوع ، يا جندب ، إنك لن تزداد من يومك إلا قربا ، فصل صلاة مودع ، وأصبح في الدنيا كأنك غريب مسافر ، فإنك من أهل القبور ، وابك على ذنبك ، وتب من خطيئتك ، ولتكن الدنيا عليك أهون من شسع [ ص: 107 ] نعلك ، وكأن قد فارقتها وصرت إلى عدل الله ، ولن تنتفع بما خلفت ، ولن ينفعك إلا عملك . وقال بعضهم :أوصى ابن عباس بكلمات خير من الخيل الدهم قال : لا تكلمن فيما لا يعنيك حتى ترى له موضعا ، ولا تمارين سفيها ولا حليما ; فإن الحليم يغلبك والسفيه يزدريك ، ولا تذكرن أخاك إذا توارى عنك إلا بمثل الذي تحب أن يتكلم فيك إذا تواريت عنه ، واعمل عمل رجل يعلم أنه مجزي بالإحسان مأخوذ بالإجرام . فقال رجل عنده : يابن عباس ، هذا خير من عشرة آلاف . فقال ابن عباس : كلمة منه خير من عشرة آلاف .

وقال ابن عباس : تمام المعروف تعجيله وتصغيره وستره . يعني أن تعجل العطية للمعطى ، وأن تصغر في عين المعطي ، وأن تسترها عن الناس فلا تظهرها ; فإن في إظهارها فتح باب الرياء وكسر قلب المعطى ، واستحياءه من الناس .

وقال ابن عباس : أعز الناس علي جليسي ; لو استطعت أن لا يقع الذباب على وجهه لفعلت . وقال أيضا : لا يكافئ من أتاني يطلب حاجة فرآني لها موضعا إلا الله ، عز وجل ، وكذا رجل بدأني بالسلام ، أو أوسع لي في مجلس ، أو قام لي عن المجلس أو رجل سقاني شربة ماء على ظمأ ، [ ص: 108 ] أو رجل حفظني بظهر الغيب . والمأثور عنه من هذه المكارم كثير جدا ، وفيما ذكرنا إشارة إلى ما لم نذكره .

وقد عده الهيثم بن عدي في العميان من الأشراف ، وفي بعض الأحاديث الواردة عنه ما يدل على ذلك . وقد أصيبت إحدى عينيه فنحل جسمه ، فلما أصيبت الأخرى عاد إليه لحمه فقيل في ذلك ، فقال : أصابني ما رأيتم في الأولى شفقة على الأخرى ، فلما ذهبتا اطمأن قلبي . وقال أبو القاسم البغوي : ثنا علي بن الجعد ، ثنا شريك ، عن سماك ، عن عكرمة ، عن ابن عباس ، أنه وقع في عينه الماء فقيل له : ننزع من عينك الماء ، على أنك لا تصلي سبعة أيام ؟ فقال : لا ، إنه من ترك الصلاة وهو يقدر عليها لقي الله وهو عليه غضبان . وفي رواية أنه قيل له : نزيل هذا الماء من عينك على أن تبقى خمسة أيام لا تصلي إلا على عود ، وفي رواية : إلا مستلقيا ، فقال : لا ، والله ولا ركعة واحدة ، إنه من ترك صلاة واحدة متعمدا ، لقي الله وهو عليه غضبان .

وقد أنشد المدائني لابن عباس حين عمي :


إن يأخذ الله من عيني نورهما ففي لساني وسمعي منهما نور     قلبي ذكي وعقلي غير ذي دخل
وفي فمي صارم كالسيف مأثور



[ ص: 109 ] ولما وقع الخلف بين ابن الزبير وبين عبد الملك بن مروان ، اعتزل ابن عباس ، و محمد ابن الحنفية الناس ، فدعاهما ابن الزبير ; ليبايعاه فأبيا عليه ، وقال كل منهما : لا نبايعك ولا نخالفك ، فهم بهما ، فبعثا أبا الطفيل عامر بن واثلة فاستنجد لهما من العراق من شيعتهما فقدم أربعة آلاف فكبروا بمكة تكبيرة واحدة ، وهموا بابن الزبير ، فانطلق ابن الزبير هاربا وتعلق بأستار الكعبة ، وقال : أنا عائذ بالله . فكفوهم عنه ، ثم مالوا إلى ابن عباس ، و ابن الحنفية وقد حمل ابن الزبير حول دورهم الحطب ليحرقهم ، فخرجوا بهما حتى نزلوا الطائف ، وأقام ابن عباس سنتين لم يبايع أحدا ، كما تقدم .

فلما كان في سنة ثمان وستين توفي عبد الله بن عباس بالطائف ، وصلى عليه محمد ابن الحنفية ، وقال : مات اليوم حبر هذه الأمة . فلما وضعوه ليدخلوه في قبره جاء طائر أبيض لم ير مثل خلقته ، فدخل في أكفانه والتف فيها حتى دفن معه . قال عفان : فكانوا يرونه [ ص: 110 ] علمه ، فلما وضع في اللحد تلا تال لا يعرف من هو - وفي رواية : أنهم سمعوا من قبره : يا أيتها النفس المطمئنة ارجعي إلى ربك راضية مرضية فادخلي في عبادي وادخلي جنتي هذا القول في وفاته هو الذي صححه غير واحد من الأئمة ، ونص عليه أحمد بن حنبل و الواقدي ، و ابن عساكر ، وهو المشهور عند الحفاظ . وقيل : إنه توفي سنة ثلاث وستين ، وقيل : سنة ثلاث وسبعين ، وقيل : سنة سبع وستين . وقيل : سنة تسع وستين ، وقيل : سنة سبعين ، والصحيح الأول ، وهذه الأقوال كلها شاذة غريبة مردودة . والله سبحانه وتعالى أعلم . وكان عمره يوم مات ثنتين وسبعين سنة . وقيل إحدى وسبعين . وقيل أربعا وسبعين . والأول أصح ، والله أعلم .

التالي السابق


الخدمات العلمية