صفحة جزء
[ ص: 114 ] ثم دخلت سنة تسع وستين

ففيها كان مقتل عمرو بن سعيد الأموي الأشدق ، قتله عبد الملك بن مروان ، وكان سبب ذلك أن عبد الملك ركب في أول هذه السنة في جنوده قاصدا قرقيسياء ; ليحاصر زفر بن الحارث الكلابي الذي أعان سليمان بن صرد على جيش مروان حين قاتلوهم بعين وردة ، ومن عزمه إذا فرغ من ذلك أن يقصد مصعب بن الزبير بعد ذلك ، فلما سار إليها استخلف على دمشق عمرو بن سعيد الأشدق ، فتحصن بها وأخذ أموال بيت المال . وقيل : بل كان مع عبد الملك ، ولكنه انخذل عنه في طائفة من الجيش وكر راجعا إلى دمشق في الليل ، ومعه حميد بن حريث بن بحدل الكلبي ، وزهير بن الأبرد الكلبي ، فانتهوا إلى دمشق وعليها عبد الرحمن بن أم الحكم نائبا من جهة عبد الملك بن مروان ، فلما أحس بهم هرب وترك البلد ، فدخلها عمرو بن سعيد الأشدق ، فاستحوذ على ما فيها من الخزائن ، وخطب بالناس فوعدهم العدل والنصف والعطاء الجزيل والثناء الجميل ، ولما علم عبد الملك بما فعله الأشدق ، كر راجعا من فوره فوجد الأشدق قد حصن دمشق وعلق عليها الستائر والمسوح ، وانحاز الأشدق إلى حصن رومي منيع كان بدمشق فنزله ، [ ص: 115 ] فحاصره عبد الملك وقاتله عمرو بن سعيد الأشدق مدة ستة عشر يوما ، وراسله عبد الملك ، وقال له : أنشدك الله والرحم أن تفسد أمر بيتك وما هم عليه من اجتماع الكلمة ، وإن فيما صنعت قوة لابن الزبير ، فارجع إلى بيتك ، ولك علي عهد الله وميثاقه . وحلف بالأيمان المؤكدة أنك ولي عهدي من بعدي ، وكتبا بينهما كتابا ، فانخدع له عمرو وفتح أبواب دمشق ، ثم اصطلحا على ترك القتال ، وعلى أن يكون ولي العهد من بعد عبد الملك ، وعلى أن يكون مع كل عامل لعبد الملك عامل له ، وكتبا بينهما كتاب أمان ، وذلك عشية الخميس . ودخل عبد الملك دمشق إلى دار الإمارة على عادته ، وبعث إلى عمرو بن سعيد الأشدق يقول له : رد على الناس أعطياتهم التي أخذتها لهم من بيت المال ، فبعث إليه عمرو يقول له : إن هذا ليس إليك ، وليس هذا البلد لك ، فاخرج منه ، فلما كان يوم الاثنين بعث عبد الملك إلى عمرو بن سعيد يأمره بالإتيان إلى منزله بدار الإمارة الخضراء فلما جاءه الرسول صادف عنده عبد الله بن يزيد بن معاوية وهو زوج ابنته أم موسى بنت عمرو بن سعيد ، فاستشاره عمرو في الذهاب إلى عبد الملك فقال له : يا أبا سعيد والله لأنت أحب إلي من سمعي وبصري ، وأرى أن لا تأتيه ; فإن تبيعا الحميري ابن امرأة كعب الأحبار قال : إن عظيما من عظماء بني إسماعيل يغلق أبواب دمشق فلا يلبث أن يقتل . فقال عمرو : والله لو كنت نائما ما تخوفت أن ينبهني ابن الزرقاء ، وما كان ليجترئ على ذلك مني ، مع أن عثمان بن عفان أتاني البارحة في المنام [ ص: 116 ] فألبسني قميصه ، وقال عمرو بن سعيد للرسول : أبلغه السلام ، وقل له : أنا رائح إليك العشية إن شاء الله . فلما كان العشي - يعني بعد الظهر - لبس عمرو درعا بين ثيابه وتقلد سيفه ونهض فعثر بالبساط ، فقالت امرأته وبعض من حضره : إنا نرى أن لا تأتيه . فلم يلتفت إلى ذلك ومضى في مائة من مواليه ، وعبد الملك قد أمر بني مروان فاجتمعوا كلهم عنده ، فلما انتهى عمرو بن سعيد إلى الباب أمر عبد الملك أن يدخل وأن يحبس من معه ، عند كل باب طائفة منهم ، فدخل كذلك حتى انتهى إلى صرحة المكان الذي فيه عبد الملك ، ولم يبق معه من مواليه سوى وصيف واحد ، فرمى ببصره فإذا بنو مروان عن بكرة أبيهم مجتمعون عند عبد الملك ، فأحس بالشر فالتفت إلى وصيفه ، فقال له همسا : ويلك انطلق إلى أخي يحيى بن سعيد فقل له فليأتني . فلم يفهم عنه ، وقال له : لبيك . فأعاد عليه ذلك ، فلم يفهم أيضا ، وقال : لبيك . فقال : ويلك ! اغرب عني في حرق الله وناره . وكان عند عبد الملك حسان بن مالك بن بحدل ، وقبيصة بن ذؤيب ، فأذن لهما عبد الملك بالانصراف ، فلما خرجا غلقت الأبواب واقترب عمرو من عبد الملك ، فرحب به وأجلسه معه على السرير ، ثم جعل يحدثه طويلا . ثم إن عبد الملك قال : يا غلام ، خذ السيف عنه . فقال عمرو : إنا لله يا أمير المؤمنين ! فقال له عبد الملك : أوتطمع أن تتحدث معي متقلدا سيفك ؟ فأخذ الغلام السيف عنه ، ثم تحدثا ساعة ، ثم قال له عبد الملك : يا أبا أمية . قال : لبيك يا أمير المؤمنين . [ ص: 117 ] قال : إنك حيث خلعتني آليت بيميني إن ملأت عيني منك وأنا مالك لك أن أجمعك في جامعة . فقالت بنو مروان : ثم تطلقه يا أمير المؤمنين . قال : ثم أطلقه ، وما عسيت أن أفعل بأبي أمية ؟ فقال بنو مروان : أبر قسم أمير المؤمنين ، فقال عمرو : فأبر قسمك يا أمير المؤمنين . فأخرج عبد الملك من تحت فراشه جامعة فطرحها إليه ، ثم قال : يا غلام ، قم فاجمعه فيها . فقام الغلام فجمعه فيها ، فقال عمرو : أذكرك الله يا أمير المؤمنين أن تخرجني فيها على رءوس الناس . فقال عبد الملك : أمكرا يا أبا أمية عند الموت ؟ لاها الله إذا ، ما كنا لنخرجك في جامعة على رءوس الناس ، ولما نخرجها منك إلا صعدا . ثم اجتبذه اجتباذة أصاب فمه السرير فكسر ثنيته ، فقال عمرو : أذكرك الله يا أمير المؤمنين أن يدعوك كسر عظمي إلى ما هو أعظم من ذلك . فقال عبد الملك : والله لو أعلم أنك إذا بقيت تفي لي وتصلح قريش لأطلقتك ، ولكن ما اجتمع رجلان قط في بلد على ما نحن عليه إلا أخرج أحدهما صاحبه .

وفي رواية أنه قال له : أما علمت يا عمرو أنه لا يجتمع فحلان في شول ؟ فلما تحقق عمرو ما يريد من قتله قال له : أغدرا يابن الزرقاء ؟ وبينما هما كذلك إذ أذن للعصر ، فقام عبد الملك ليخرج إلى الصلاة ، وأمر أخاه عبد العزيز بن مروان بقتله ، وخرج عبد الملك وقام إليه عبد العزيز بالسيف ، فقال له [ ص: 118 ] عمرو : أذكرك الله والرحم أن لا تلي ذلك مني ، وليتول ذلك غيرك . فكف عنه عبد العزيز بن مروان . ولما رأى الناس عبد الملك قد خرج وليس معه عمرو أرجف الناس بعمرو ، وأقبل أخوه يحيى بن سعيد في ألف عبد لعمرو بن سعيد ، وأناس معهم كثير ، وأسرع عبد الملك الدخول إلى دار الإمارة ، وجاء أولئك فجعلوا يدقون باب الإمارة ويقولون : أسمعنا صوتك يا أبا أمية . وضرب رجل منهم الوليد بن عبد الملك في رأسه بالسيف فجرحه ، فأدخله إبراهيم بن عربي صاحب الديوان بيتا ، وأحرزه فيه ، ووقعت خبطة عظيمة في المسجد ، وضجت الأصوات . ولما رجع عبد الملك وجد أخاه لم يقتله ، فلامه وسبه وسب أمه ، - ولم تكن أم عبد العزيز أم عبد الملك - فقال : إنه ناشدني الله والرحم .

وكان ابن عمة عبد الملك بن مروان ثم إن عبد الملك قال : يا غلام ، آتني بالحربة . فأتاه بها فهزها ، وضربه بها فلم تغن شيئا ، ثم ثنى فلم تغن شيئا ، فضرب بيده إلى عضد عمرو فوجد مس الدرع فضحك ، وقال : ودارع أيضا ! إن كنت لمعدا ، يا غلام ، ائتني بالصمصامة . فأتاه بسيفه ثم أمر بعمرو فصرع فجلس على صدره فذبحه ، وهو يقول :


يا عمرو إن لا تدع شتمي ومنقصتي أضربك حيث تقول الهامة اسقوني



[ ص: 119 ] قالوا : وانتفض عبد الملك بعدما ذبحه كما تنتفض القصبة برعدة شديدة جدا ، بحيث إنهم ما رفعوه عن صدره إلا محمولا ، فوضعوه على سريره وهو يقول : ما رأيت مثل هذا قط قتلة ، صاحب دنيا ولا طالب آخرة . ودفع الرأس إلى عبد الرحمن بن أم الحكم ، فخرج به للناس فألقاه بين أظهرهم ، وخرج عبد العزيز بن مروان ومعه البدر من الأموال تحمل ، فألقيت بين الناس فجعلوا يختطفونها ، ويقال : إنها استرجعت بعد ذلك من الناس إلى بيت المال . ويقال إن الذي ولي قتل عمرو بن سعيد مولى عبد الملك أبو الزعيزعة بعدما خرج عبد الملك إلى الصلاة ، والله أعلم .

وقد دخل يحيى بن سعيد أخو عمرو بن سعيد دار الإمارة ، بعد مقتل أخيه ، بمن معه ، فقام إليهم بنو مروان فاقتتلوا ، وجرح جماعات من الطائفتين ، وجاءت يحيى بن سعيد صخرة في رأسه أشغلته عن نفسه ، وعن القتال ، ثم إن عبد الملك بن مروان خرج إلى المسجد الجامع فصعد المنبر فجعل يقول : ويحكم أين الوليد ؟ وأبيهم لئن كانوا قتلوه لقد أدركوا ثأرهم ، فأتاه إبراهيم بن عربي الكناني فقال : هذا الوليد عندي ، قد أصابته جراحة ، وليس عليه بأس ، ثم أمر عبد الملك بيحيى بن سعيد أن يقتل ، فشفع فيه أخوه [ ص: 120 ] عبد العزيز بن مروان وفي جماعات آخرين معه ، كان عبد الملك قد أمر بقتلهم يومئذ ، فشفعه فيهم وأمر بحبسه فسجن شهرا ، ثم سيره وبني عمرو بن سعيد وأهليهم إلى العراق فدخلوا على مصعب بن الزبير فأكرمهم وأحسن إليهم .

ثم لما انعقدت الجماعة لعبد الملك بعد مقتل ابن الزبير - كما سيأتي - وفدوا عليه فكاد يقتلهم ، فتلطف بعضهم في العبارة حتى رق لهم رقة شديدة ، وقال : إن أباكم خيرني بين أن يقتلني أو أقتله ، فاخترت قتله على قتلي ، وأما أنتم فما أرغبني فيكم وأوصلني لقرابتكم وأرعاني لحقكم ! فأحسن جائزتهم وقربهم ، وقد كان عبد الملك بعث إلى امرأة عمرو بن سعيد أن ابعثي إلي بكتاب الأمان الذي كنت كتبته لعمرو . فقالت : إني دفنته معه ليحاكمك به يوم القيامة عند الله .

وقد كان مروان بن الحكم وعد عمرو بن سعيد هذا أن يكون ولي العهد من بعد ولده عبد الملك كلاما مجردا فطمع في ذلك وقويت نفسه بسبب ذلك . وكان عبد الملك يبغضه بغضا شديدا من الصغر ، ثم كان هذا صنيعه إليه في الكبر .

قال ابن جرير : وذكر أن خالد بن يزيد بن معاوية قال لعبد الملك ذات يوم : عجب منك ومن عمرو بن سعيد ، كيف أصبت غرته حتى قتلته ؟ فقال :


أدنيته مني ليسكن روعه     فأصول صولة حازم مستمكن
غضبا ومحمية لديني إنه     ليس المسيء سبيله كالمحسن



[ ص: 121 ] قال خليفة بن خياط : وهذا الشعر للصبي بن أبي رافع ، تمثل به عبد الملك .

وروى ابن دريد ، عن أبي حاتم ، عن العتبي أن عبد الملك قال : لقد كان عمرو بن سعيد أحب إلي من دم النواظر ، ولكن والله لا يجتمع فحلان في الإبل إلا أخرج أحدهما الآخر ، وإنا لكما قال أخو بني يربوع :


أجازي من جزاني الخير خيرا     وجازي الخير يجزى بالنوال
وأجزي من جزاني الشر شرا     كما تحذى النعال على النعال



قال خليفة بن خياط وأنشد أبو اليقظان لعبد الملك في قتله عمرو بن سعيد :


صحت ولا تشلل وضرت عدوها     يمين أراقت مهجة ابن سعيد
وجدت ابن مروان ولا تبل نفسه     شديدا ضرير البأس غير بليد
هو ابن أبي العاصي لمروان ينتمي     إلى أسرة طابت له وجدود



قال الواقدي : أما حصار عبد الملك لعمرو بن سعيد الأشدق فكان في [ ص: 122 ] سنة تسع وستين رجع إليه من بطنان ، فحاصره بدمشق ، وأما قتله إياه فكان في سنة سبعين ، والله أعلم .

وهذه ترجمة عمرو بن سعيد الأشدق

هو عمرو بن سعيد بن العاص بن أمية بن عبد شمس ، أبو أمية القرشي الأموي ، المعروف بالأشدق ، يقال : إنه رأى النبي صلى الله عليه وسلم وروى عنه أنه قال : ما نحل والد ولدا أحسن من أدب حسن . وحديثا آخر في العتق .

وروى عن عمر ، و عثمان ، و علي وعائشة ، وحدث عنه بنوه ؛ أمية وسعيد ، و موسى وغيرهم . واستنابه معاوية على المدينة ، وكذلك يزيد بن معاوية بعد أبيه كما تقدم . وكان من سادات المسلمين ، ومن الكرماء المشهورين ، يعطي الكثير ، ويتحمل العظائم ، وكان وصي أبيه من بين بنيه ، وكان أبوه - كما [ ص: 123 ] قدمنا - من المشاهير الكرماء ، والسادة النجباء . قال عمرو : ما شتمت رجلا منذ كنت رجلا ، ولا كلفت من قصدني أن يسألني ; لهو أمن علي مني عليه .

وقال سعيد بن المسيب : خطباء الناس في الجاهلية : الأسود بن عبد المطلب ، وسهيل بن عمرو ، وخطباء الناس في الإسلام : معاوية وابنه ، وسعيد بن العاص وابنه ، وعبد الله بن الزبير .

وقد قال الإمام أحمد : حدثنا عبد الصمد ، ثنا حماد ، ثنا علي بن زيد ، أخبرني من سمع أبا هريرة يقول : سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول : ليرعفن على منبري جبار من جبابرة بني أمية حتى يسيل رعافه . قال : فأخبرني من رأى عمرو بن سعيد بن العاص رعف على منبر رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى سال رعافه .

وهو الذي كان يبعث البعوث إلى مكة بعد وقعة الحرة أيام يزيد بن معاوية لقتال ابن الزبير ، فنهاه أبو شريح الخزاعي ، وذكر له الحديث الذي سمعه من رسول الله صلى الله عليه وسلم في تحريم مكة فقال : نحن أعلم بذلك منك يا أبا شريح ، إن الحرم لا يعيذ عاصيا ولا فارا بدم ولا فارا بخربة . الحديث كما تقدم ، وهو في الصحيحين . ثم إن مروان دخل إلى مصر بعدما دعا إلى [ ص: 124 ] بيعة نفسه ، واستقر له الشام ودخل معه عمرو بن سعيد ففتح مصر ، وقد كان وعد عمرا أن يكون ولي العهد من بعد عبد الملك ، وأن يكون قبل ذلك نائبا بدمشق ، فلما قويت شوكة مروان رجع عن ذلك ، وجعل الأمر من بعد عبد الملك لولده عبد العزيز ، وخلع عمرو بن سعيد من ذلك ، فما زال ذلك في نفسه ، حتى كانت هذه السنة ، وعزم عبد الملك على الدخول إلى العراق لقتال مصعب بن الزبير ، فرجع من جيشه ودخل عمرو دمشق وتحصن بها ، وأجابه أهلها ، فاتبعه عبد الملك فحاصره ، ثم استنزله على أمان صوري ، ثم قتله كما قدمنا .

وكان ذلك في هذه السنة على المشهور عند الأكثرين . وقال الواقدي ، و أبو سعيد بن يونس : سنة سبعين . فالله أعلم . ومن الغريب ما ذكره هشام بن محمد الكلبي بسند له : أن رجلا سمع في المنام قائلا يقول على سور دمشق قبل أن يخرج عمرو بن سعيد بالكلية ، وقبل قتله بمدة ، هذه الأبيات :


ألا يا لقومي للسفاهة والوهن     وللفاجر الموهون والرأي ذي الأفن
ولابن سعيد بينما هو قائم     على قدميه خر للوجه والبطن
رأى الحصن منجاة من الموت فالتجا     إليه فزارته المنية في الحصن



قال : فأتى الرجل عبد الملك فأخبره ، فقال : ويحك ، سمعها منك أحد ؟ قال : لا . قال : ضعها تحت قدميك . ثم بعد ذلك خلع عمرو الطاعة ، وقتله عبد الملك بن مروان

التالي السابق


الخدمات العلمية