صفحة جزء
ولم يكن بالمدينة عالم من بعد التابعين يشبه مالكا في العلم والفقه ، والجلالة والحفظ ، فقد كان بها بعد الصحابة مثل سعيد بن المسيب ، والفقهاء السبعة والقاسم ، وسالم ، وعكرمة ، ونافع ، وطبقتهم ، ثم زيد بن أسلم ، وابن شهاب ، وأبي الزناد ، ويحيى بن سعيد ، وصفوان بن سليم ، وربيعة بن أبي عبد الرحمن ، وطبقتهم ، فلما تفانوا ، اشتهر ذكر مالك بها ، وابن أبي ذئب ، وعبد العزيز بن الماجشون ، وسليمان بن بلال ، وفليح بن سليمان ، والدراوردي ، وأقرانهم ، فكان مالك هو المقدم فيهم على الإطلاق ، والذي تضرب إليه آباط الإبل من الآفاق ، رحمه الله تعالى . وقد وقع لي من عواليه " موطأ " أبي مصعب . وفي الطريق [ ص: 59 ] إجازة ، ووقع لي من عالي حديثه بالاتصال أربعون حديثا من المائة الشريحية ، وجزء بيبى ، وجزء البانياسي ، والأجزاء المحامليات ، فمن ذلك :

أخبرنا أبو المعالي أحمد بن إسحاق الهمداني ، قال : أخبرنا أبو المحاسن محمد بن هبة الله بن عبد العزيز الدينوري ببغداد ، سنة عشرين وستمائة ، أخبرنا عمي أبو بكر محمد بن عبد العزيز في سنة تسع وثلاثين وخمسمائة ، أخبرنا عاصم بن الحسن ، أخبرنا عبد الواحد بن محمد الفارسي ، حدثنا الحسين بن إسماعيل القاضي ، حدثنا أحمد بن إسماعيل المدني ، حدثنا مالك ، عن عبد الله بن عبد الرحمن الأنصاري ، عن أبي يونس مولى عائشة ، عن عائشة أن رجلا قال لرسول الله - صلى الله عليه وسلم - وهو واقف على الباب ، وأنا أسمع - : يا رسول الله ، إني أصبح جنبا ، وأنا أريد [ ص: 60 ] الصيام ، أفأغتسل وأصوم ذلك اليوم ؟ فقال : " وأنا أصبح جنبا وأنا أريد الصيام فأغتسل وأصوم ذلك اليوم " فقال له الرجل : يا رسول الله ، إنك لست مثلنا ، قد غفر الله لك ما تقدم من ذنبك وما تأخر ، فغضب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وقال : " والله إني لأرجو أن أكون أخشاكم لله وأعلمكم بما أتقي .

هذا حديث صحيح . أخرجه أبو داود عن القعنبي عن مالك ، ورواه النسائي في مسند مالك له ، عن محمد بن سلمة ، عن عبد الرحمن بن القاسم الفقيه ، عن مالك .

وروى النسائي هذا المتن بنحوه عن أحمد بن حفص النيسابوري ، عن أبيه ، عن إبراهيم بن ط‍همان ، عن حجاج بن حجاج ، عن قتادة ، عن عبد ربه ، عن أبي عياض ، عن عبد الرحمن بن الحارث ، عن نافع مولى أم سلمة ، عن أم سلمة ، عن النبي - صلى الله عليه وسلم - فهذا إسناد غريب ، عزيز قد توالى فيه خمسة تابعيون بعضهم عن بعض ، ومن حيث العدد : كأنني صافحت فيه النسائي .

ورواه أيضا ابن أبي عروبة ، عن قتادة بإسناده ، لكنه لم يسم فيه نافعا ، بل قال : عن مولى أم سلمة ، عنها ، وحديث عائشة هو في صحيح [ ص: 61 ] مسلم من طريق إسماعيل بن جعفر ، عن عبد الله بن عبد الرحمن وهو أبو طوالة ، ولم يخرج البخاري لأبي يونس شيئا فيما علمت ، والله أعلم .

قال أبو عبد الله الحاكم - وذكر سادة من أئمة التابعين بالمدينة ، كابن المسيب ، ومن بعده - قال : فما ضربت أكباد الإبل من النواحي إلى أحد منهم دون غيره ، حتى انقرضوا وخلا عصرهم ، ثم حدث مثل ابن شهاب ، وربيعة ، ويحيى بن سعيد ، وعبد الله بن يزيد بن هرمز ، وأبي الزناد ، وصفوان بن سليم ، وكلهم يفتي بالمدينة ، ولم ينفرد واحد منهم بأن ضربت إليه أكباد الإبل حتى خلا هذا العصر فلم يقع بهم التأويل في عالم أهل المدينة . ثم حدث بعدهم مالك ، فكان مفتيها ، فضربت إليه أكباد الإبل من الآفاق ، واعترفوا له ، وروت الأئمة عنه ممن كان أقدم منه سنا ، كالليث عالم أهل مصر والمغرب ، وكالأوزاعي عالم أهل الشام ومفتيهم ، والثوري ، وهو المقدم بالكوفة ، وشعبة عالم أهل البصرة . إلى أن قال : وحمل عنه قبلهم يحيى بن سعيد الأنصاري حين ولاه أبو جعفر قضاء القضاة ، فسأل مالكا أن يكتب له مائة حديث حين خرج إلى العراق ، ومن قبل كان ابن جريج حمل عنه .

أبو مصعب : سمعت مالكا يقول : دخلت على أبي جعفر أمير المؤمنين ، وقد نزل على مثال له - يعني فرشه - وإذا على بساطه دابتان ما تروثان ولا تبولان ، وجاء صبي يخرج ثم يرجع ، فقال لي : أتدري من هذا ؟ قلت : لا . قال : هذا ابني ، وإنما يفزع من هيبتك ، ثم ساءلني عن أشياء منها حلال ، ومنها حرام ، ثم قال لي : أنت - والله - أعقل الناس ، وأعلم الناس . قلت : لا والله يا أمير المؤمنين . قال : بلى . ولكنك تكتم . ثم قال : والله لئن بقيت لأكتبن قولك كما تكتب المصاحف ، ولأبعثن به إلى [ ص: 62 ] الآفاق ، فلأحملنهم عليه .

الحسن بن عبد العزيز الجروي : حدثنا عبد الله بن يوسف ، عن خلف بن عمر ، سمع مالكا يقول : ما أجبت في الفتوى حتى سألت من هو أعلم مني : هل تراني موضعا لذلك ؟ سألت ربيعة ، وسألت يحيى بن سعيد ، فأمراني بذلك . فقلت : فلو نهوك ؟ قال : كنت أنتهي ، لا ينبغي للرجل أن يبذل نفسه حتى يسأل من هو أعلم منه .

قال خلف : ودخلت عليه ، فقال : ما ترى ؟ فإذا رؤيا بعثها بعض إخوانه ، يقول : رأيت النبي - صلى الله عليه وسلم - في المنام ، في مسجد قد اجتمع الناس عليه ، فقال لهم : إني قد خبأت تحت منبري طيبا أو علما ، وأمرت مالكا أن يفرقه على الناس ، فانصرف الناس وهم يقولون : إذا ينفذ مالك ما أمره به رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ثم بكى ، فقمت عنه .

أحمد بن صالح : سمعت ابن وهب يقول : قال مالك : لقد سمعت من ابن شهاب أحاديث كثيرة ، ما حدثت بها قط ، ولا أحدث بها .

نصر بن علي الجهضمي حدثني حسين بن عروة قال : قدم المهدي ، فبعث إلى مالك بألفي دينار ، أو قال : بثلاثة آلاف دينار ، ثم أتاه الربيع بعد ذلك ، فقال : إن أمير المؤمنين يحب أن تعادله إلى مدينة [ ص: 63 ] السلام ، فقال : قال النبي - صلى الله عليه وسلم - : المدينة خير لهم لو كانوا يعلمون والمال عندي على حاله .

محمود بن غيلان ، حدثنا إسماعيل بن داود المخراقي : سمعت مالكا يقول : أخذ ربيعة الرأي بيدي ، فقال : ورب هذا المقام ، ما رأيت عراقيا تام العقل ، وسمعت مالكا يقول : كان عطاء بن أبي رباح ضعيف العقل .

ياسين بن عبد الأحد ، حدثني عمر بن المحبر الرعيني ، قال : قدم المهدي المدينة ، فبعث إلى مالك ، فأتاه ، فقال لهارون وموسى : اسمعا منه ، فبعث إليه ، فلم يجبهما ، فأعلما المهدي ، فكلمه ، فقال : يا أمير المؤمنين ، العلم يؤتى أهله . فقال : صدق مالك ، صيرا إليه ، فلما صارا إليه ، قال له مؤدبهما : اقرأ علينا ، فقال : إن أهل المدينة يقرءون على العالم ، كما يقرأ الصبيان على المعلم ، فإذا أخطئوا ، أفتاهم . فرجعوا إلى المهدي ، فبعث إلى مالك ، فكلمه ، فقال : سمعت ابن شهاب يقول : جمعنا هذا العلم في الروضة من رجال ، وهم يا أمير المؤمنين : سعيد بن المسيب ، وأبو سلمة ، وعروة ، والقاسم ، وسالم ، وخارجة بن زيد ، وسليمان بن يسار ، ونافع ، وعبد الرحمن بن هرمز ، ومن بعدهم : أبو الزناد ، وربيعة ، ويحيى بن سعيد ، وابن شهاب ، كل هؤلاء يقرأ عليهم [ ص: 64 ] ولا يقرءون ، فقال : في هؤلاء قدوة ، صيروا إليه ، فاقرءوا عليه ، ففعلوا .

قتيبة : حدثنا معن ، عن مالك ، قال : قدم هارون يريد الحج ، ومعه يعقوب أبو يوسف ، فأتى مالك أمير المؤمنين ، فقربه وأكرمه ، فلما جلس ، أقبل إليه أبو يوسف ، فسأله عن مسألة فلم يجبه ، ثم عاد فسأله فلم يجبه ، ثم عاد فسأله . فقال هارون : يا أبا عبد الله ، هذا قاضينا يعقوب ، يسألك ، قال : فأقبل عليه مالك ، فقال : يا هذا ، إذا رأيتني جلست لأهل الباطل ، فتعال أجبك معهم .

السراج : حدثنا قتيبة : كنا إذا دخلنا على مالك ، خرج إلينا مزينا مكحلا مطيبا ، قد لبس من أحسن ثيابه ، وتصدر الحلقة ، ودعا بالمراوح ، فأعطى لكل منا مروحة .

محمد بن سعد : حدثني محمد بن عمر ، قال : كان مالك يأتي المسجد ، فيشهد الصلوات والجمعة والجنائز ، ويعود المرضى ، ويجلس في المسجد ، فيجتمع إليه أصحابه ، ثم ترك الجلوس ، فكان يصلي وينصرف ، وترك شهود الجنائز ، ثم ترك ذلك كله ، والجمعة ، واحتمل الناس ذلك كله ، وكانوا أرغب ما كانوا فيه ، وربما كلم في ذلك ، فيقول : ليس كل أحد يقدر أن يتكلم بعذره . [ ص: 65 ]

وكان يجلس في منزله على ضجاع له ، ونمارق [ مطروحة في منزله يمنة ويسرة ] لمن يأتيه من قريش ، والأنصار ، والناس .

وكان مجلسه مجلس وقار وحلم . قال : وكان رجلا مهيبا نبيلا ، ليس في مجلسه شيء من المراء واللغط ، ولا رفع صوت ، وكان الغرباء يسألونه عن الحديث ، فلا يجيب إلا في الحديث بعد الحديث ، وربما أذن لبعضهم يقرأ عليه ، وكان له كاتب قد نسخ كتبه ، يقال له : حبيب . يقرأ للجماعة ، ولا ينظر أحد في كتابه ولا يستفهم ، هيبة لمالك ، وإجلالا له ، وكان حبيب إذا قرأ فأخطأ فتح عليه مالك ، وكان ذلك قليلا .

ابن وهب : سمعت مالكا يقول : ما أكثر أحد قط فأفلح .

حرملة : حدثنا ابن وهب ، قال لي مالك : العلم ينقص ولا يزيد ، ولم يزل العلم ينقص بعد الأنبياء والكتب . [ ص: 66 ]

أحمد بن مسعود المقدسي : حدثنا إسحاق بن إبراهيم الحنيني ، قال : كان مالك يقول : والله ما دخلت على ملك من هؤلاء الملوك حتى أصل إليه ، إلا نزع الله هيبته من صدري .

حرملة : حدثنا ابن وهب : سمعت مالكا يقول : اعلم أنه فساد عظيم أن يتكلم الإنسان بكل ما يسمع .

هارون بن موسى الفروي : سمعت مصعبا الزبيري يقول : سأل هارون الرشيد مالكا ، وهو في منزله ، ومعه بنوه ، أن يقرأ عليهم . قال : ما قرأت على أحد منذ زمان وإنما يقرأ علي ، فقال : أخرج الناس حتى أقرأ أنا عليك ، فقال : إذا منع العام لبعض الخاص ، لم ينتفع الخاص . وأمر معن بن عيسى ، فقرأ عليه .

إسماعيل بن أبي أويس ، قال : سألت خالي مالكا عن مسألة ، فقال لي : قر . ثم توضأ ، ثم جلس على السرير ، ثم قال : لا حول ولا قوة إلا بالله . وكان لا يفتي حتى يقولها .

ابن وهب : سمعت مالكا يقول : ما تعلمت العلم إلا لنفسي ، وما تعلمت ليحتاج الناس إلي ، وكذلك كان الناس .

إسماعيل القاضي : سمعت أبا مصعب يقول : لم يشهد مالك الجماعة خمسا وعشرين سنة ، فقيل له : ما يمنعك ؟ قال : مخافة أن أرى منكرا ، فأحتاج أن أغيره .

إبراهيم الحزامي : حدثني مطرف بن عبد الله ، قال لي مالك : ما يقول الناس في ؟ قلت : أما الصديق فيثني ، وأما العدو فيقع . فقال : ما [ ص: 67 ] زال الناس كذلك ، ولكن نعوذ بالله من تتابع الألسنة كلها .

أحمد بن سعيد الرباطي سمعت عبد الرزاق يقول : سأل سندل مالكا عن مسألة ، فأجابه ، فقال : أنت من الناس ، أحيانا تخطئ ، وأحيانا لا تصيب ، قال : صدقت . هكذا الناس . فقيل لمالك : لم تدر ما قال لك ؟ ففطن لها ، وقال : عهدت العلماء ، ولا يتكلمون بمثل هذا ، وإنما أجيبه على جواب الناس .

حرملة : حدثنا ابن وهب : سمعت مالكا يقول : ليس هذا الجدل من الدين بشيء .

ابن وهب ، عن مالك ، قال : دخلت على المنصور ، وكان يدخل عليه الهاشميون ، فيقبلون يده ورجله - عصمني الله من ذلك - .

الحارث بن مسكين : أخبرنا ابن القاسم قال : قيل لمالك : لم لم تأخذ عن عمرو بن دينار ؟ قال : أتيته ، فوجدته يأخذون عنه قياما ، فأجللت حديث رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أن آخذه قائما .

إبراهيم بن المنذر : حدثنا معن ، وغيره ، عن مالك ، قال : لا يؤخذ العلم عن أربعة : سفيه يعلن السفه ، وإن كان أروى الناس ، وصاحب بدعة يدعو إلى هواه ، ومن يكذب في حديث الناس ، وإن كنت لا أتهمه في [ ص: 68 ] الحديث ، وصالح عابد فاضل إذا كان لا يحفظ ما يحدث به .

أصبغ : حدثنا ابن وهب ، عن مالك - وسئل عن الصلاة خلف أهل البدع ؛ القدرية وغيرهم - فقال : لا أرى أن يصلى خلفهم . قيل : فالجمعة ؟ قال : إن الجمعة فريضة ، وقد يذكر عن الرجل الشيء ، وليس هو عليه . فقيل له : أرأيت إن استيقنت ، أو بلغني من أثق به ، أليس لا أصلي الجمعة خلفه ؟ قال : إن استيقنت . كأنه يقول : إن لم يستيقن ذلك ، فهو في سعة من الصلاة خلفه .

أبو يوسف أحمد بن محمد الصيدلاني : سمعت محمد بن الحسن الشيباني يقول : كنت عند مالك فنظر إلى أصحابه ، فقال : انظروا أهل المشرق ، فأنزلوهم بمنزلة أهل الكتاب إذا حدثوكم ، فلا تصدقوهم ، ولا تكذبوهم ، ثم التفت ، فرآني ، فكأنه استحيا ، فقال : يا أبا عبد الله ، أكره أن تكون غيبة ، هكذا أدركت أصحابنا يقولون .

قلت : هذا القول من الإمام قاله لأنه لم يكن له اعتناء بأحوال بعض القوم ، ولا خبر تراجمهم ، وهذا هو الورع . ألا تراه لما خبر حال أيوب السختياني العراقي كيف احتج به . وكذلك حميد الطويل ، وغير واحد ممن روى عنهم . وأهل العراق كغيرهم ، فيهم الثقة الحجة ، والصدوق ، والفقيه ، والمقرئ ، والعابد ، وفيهم الضعيف ، والمتروك ، والمتهم . وفي " الصحيحين " شيء كثير جدا من رواية العراقيين - رحمهم الله - . وفيهم من التابعين كمثل علقمة ، ومسروق ، وعبيدة ، والحسن ، [ ص: 69 ] وابن سيرين ، والشعبي ، وإبراهيم ، ثم الحكم ، وقتادة ، ومنصور ، وأبي إسحاق ، وابن عون ، ثم مسعر ، وشعبة ، وسفيان ، والحمادين ، وخلائق أضعافهم ، رحم الله الجميع . وهذه الحكاية رواها الحاكم عن النجاد ، عن هلال بن العلاء ، عن الصيدلاني .

التالي السابق


الخدمات العلمية