صفحة جزء
روى أحمد بن إبراهيم الدورقي ، عن علي بن الحسن قال : بلغ الفضيل أن حريزا يريد أن يأتيه ، فأقفل الباب من خارج ، فجاء فرأى الباب مقفلا ، فرجع ، فأتيته فقلت له : حريز ، قال : ما يصنع بي ، يظهر لي محاسن كلامه ، وأظهر له محاسن كلامي ، فلا يتزين لي ، ولا أتزين له ، خير له .

ثم قال علي : ما رأيت أنصح للمسلمين ، ولا أخوف منه ، ولقد رأيته في المنام قائما على صندوق يعطي المصاحف ، والناس حوله ، فيهم : سفيان بن عيينة ، وهارون أمير المؤمنين ، فما رأيته يودع أحدا ، فيقدر أن يتم وداعه .

قال فيض بن وثيق سمعت الفضيل يقول : إن استطعت أن لا تكون محدثا ولا قارئا ، ولا متكلما ، إن كنت بليغا قالوا : ما أبلغه ! وأحسن حديثه! وأحسن صوته ! فيعجبك ذلك ، فتنتفخ ، وإن لم تكن بليغا ، ولا حسن الصوت قالوا : ليس يحسن يحدث ، وليس صوته بحسن ، أحزنك ذلك ، وشق عليك ، فتكون مرائيا ، وإذا جلست ، فتكلمت ، فلم تبال من ذمك ومن مدحك ، فتكلم .

وقال محمد بن زنبور : قال الفضيل : لا يسلم لك قلبك حتى لا تبالي من أكل الدنيا . [ ص: 434 ]

وقيل له : ما الزهد ؟ قال : القنوع ، قيل : ما الورع ؟ قال : اجتناب المحارم . قيل : ما العبادة ؟ قال : أداء الفرائض . قيل : ما التواضع ؟ قال : أن تخضع للحق . وقال : أشد الورع في اللسان .

قلت : هكذا هو ، فقد ترى الرجل ورعا في مأكله وملبسه ومعاملته ، وإذا تحدث يدخل عليه الداخل من حديثه ، فإما أن يتحرى الصدق ، فلا يكمل الصدق ، وإما أن يصدق ، فينمق حديثه ليمدح على الفصاحة ، وإما أن يظهر أحسن ما عنده ليعظم ، وإما أن يسكت في موضع الكلام ، ليثنى عليه . ودواء ذلك كله الانقطاع عن الناس إلا من الجماعة .

قال عبد الصمد بن يزيد : سمعت الفضيل يقول : لو أن لي دعوة مستجابة ما جعلتها إلا في إمام ، فصلاح الإمام صلاح البلاد والعباد .

وسمعته يقول : إنما هما عالمان : فعالم الدنيا علمه منشور ، وعالم الآخرة علمه مستور . احذروا عالم الدنيا ، لا يضركم بسكره ، العلماء كثير ، والحكماء قليل .

وعنه : لا يبلغ العبد حقيقة الإيمان حتى يعد البلاء نعمة ، والرخاء مصيبة ، وحتى لا يحب أن يحمد على عبادة الله .

قال الحسين بن زياد المروزي : سمعت فضيلا يقول : لو حلفت أني مراء كان أحب إلي من أن أحلف أني لست بمراء ، ولو رأيت رجلا اجتمع الناس حوله لقلت : هذا مجنون ، من الذي اجتمع الناس حوله ، لا يحب أن يجود كلامه لهم؟

فيض بن إسحاق : سمعت فضيلا يقول : ليست الدنيا دار إقامة ، وإنما آدم أهبط إليها عقوبة ، ألا ترى كيف يزويها عنه ، ويمررها عليه بالجوع ، [ ص: 435 ] بالعري ، بالحاجة ، كما تصنع الوالدة الشفيقة بولدها ، تسقيه مرة حضضا ومرة صبرا ، وإنما تريد بذلك ما هو خير له .

وعن الفضيل : حرام على قلوبكم أن تصيب حلاوة الإيمان حتى تزهدوا في الدنيا .

وعنه : إذا لم تقدر على قيام الليل ، وصيام النهار ، فاعلم أنك محروم ، كبلتك خطيئتك .

وعن فضيل ، ورأى قوما من أصحاب الحديث يمرحون ويضحكون ، فناداهم : مهلا يا ورثة الأنبياء ، مهلا ثلاثا ، إنكم أئمة يقتدى بكم .

قال ابن عيينة : سمعت الفضيل بن عياض يقول : يغفر للجاهل سبعون ذنبا ما لا يغفر للعالم ذنب واحد .

قال أحمد بن حنبل : حدثنا أبو جعفر الحذاء ، سمعت الفضيل يقول : أخذت بيد سفيان بن عيينة في هذا الوادي ، فقلت : إن كنت تظن أنه بقي على وجه الأرض شر مني ومنك ، فبئس ما تظن .

قال عبد الصمد مردويه : سمعت الفضيل يقول : من أحب صاحب بدعة ، أحبط الله عمله ، وأخرج نور الإسلام من قلبه ، لا يرتفع لصاحب بدعة إلى الله عمل ، نظر المؤمن إلى المؤمن يجلو القلب ، ونظر الرجل إلى صاحب بدعة يورث العمى ، من جلس مع صاحب بدعة لم يعط الحكمة .

قال أبو العباس السراج : حدثني أبو النضر إسماعيل بن عبد الله ، حدثنا يحيى بن يوسف الزمي ، عن فضيل بن عياض قال : لما دخل علي هارون أمير [ ص: 436 ] المؤمنين قلت : يا حسن الوجه ، لقد كلفت أمرا عظيما ، أما إني ما رأيت أحدا أحسن وجها منك ، فإن قدرت أن لا تسود هذا الوجه بلفحة من النار فافعل . قال : عظني . قلت : بماذا أعظك ؟ هذا كتاب الله بين الدفتين ، انظر ماذا عمل بمن أطاعه ، وماذا عمل بمن عصاه ، إني رأيت الناس يغوصون على النار غوصا شديدا ، ويطلبونها طلبا حثيثا ، أما والله لو طلبوا الجنة بمثلها أو أيسر لنالوها ، وقال : عد إلي ، فقال : لو لم تبعث إلي لم آتك ، وإن انتفعت بما سمعت ، عدت إليك .

قال إبراهيم بن الأشعث : سمعت الفضيل يقول في مرضه : ارحمني بحبي إياك فليس شيء أحب إلي منك .

وسمعته يقول وهو يشتكي : مسني الضر وأنت أرحم الراحمين .

وسمعته يقول : من استوحش من الوحدة ، واستأنس بالناس ، لم يسلم من الرياء ، لا حج ولا جهاد أشد من حبس اللسان ، وليس أحد أشد غما ممن سجن لسانه .

قال الحسن بن زياد : سمعت الفضيل كثيرا يقول : احفظ لسانك ، وأقبل على شأنك ، واعرف زمانك ، وأخف مكانك .

وقال أحمد بن إبراهيم الدورقي : حدثنا الفيض بن إسحاق ، سمعت الفضيل يقول : وددت أنه طار في الناس أني مت حتى لا أذكر . إني لأسمع صوت أصحاب الحديث ، فيأخذني البول فرقا منهم .

وقال الدورقي : حدثنا الحسين بن زياد ، سمعت فضيلا يقول لأصحاب الحديث : لم تكرهوني على أمر تعلمون أني كاره له -يعني الرواية- ؟ لو كنت عبدا لكم ، فكرهتكم كان نولي أن تبيعوني ، لو أعلم أني إذا دفعت ردائي هذا [ ص: 437 ] إليكم ذهبتم عني لفعلت .

الدورقي : وسمعت إسحاق بن إبراهيم يقول : سمعت الفضيل يخاطب نفسه : ما أراه أخرجك من الحل فدسك في الحرم إلا ليضعف عليك الذنب ، أما تستحي تذكر الدينار والدرهم ، وأنت حول البيت ، إنما كان يأتيه التائب والمستجير .

وعن الفضيل قال : المؤمن يغبط ولا يحسد ، الغبطة من الإيمان ، والحسد من النفاق .

قلت : هذا يفسر لك قوله -عليه الصلاة والتسليم- : لا حسد إلا في اثنتين : رجل آتاه الله مالا ينفقه في الحق ، ورجل آتاه الله القرآن فهو يقوم به آناء الليل وأطراف النهار . فالحسد هنا معناه : الغبطة ، أن تحسد أخاك على ما آتاه الله ، لا أنك تحسده ، بمعنى أنك تود زوال ذلك عنه ، فهذا بغي وخبث .

وعن الفضيل قال : من أخلاق الأنبياء الحلم والأناة وقيام الليل .

قال أبو عبد الرحمن السلمي : أخبرنا أبو بكر محمد بن جعفر ، أخبرنا الحسن بن عبد الله العسكري ، حدثنا ابن أخي أبي زرعة ، حدثنا محمد بن إسحاق ابن راهويه ، حدثنا أبو عمار ، عن الفضل بن موسى قال : كان الفضيل شاطرا يقطع الطريق ، فذكر الحكاية -وقد مضت . [ ص: 438 ]

وقال إبراهيم بن الليث : حدثنا المحدث علي بن خشرم قال : أخبرني رجل من جيران الفضيل من أبيورد ، قال : كان الفضيل يقطع الطريق وحده ، فبينا هو ذات ليلة ، وقد انتهت إليه القافلة ، فقال بعضهم : اعدلوا بنا إلى هذه القرية ، فإن الفضيل يقطع الطريق . فسمع ذلك ، فأرعد ، فقال : يا قوم جوزوا ، والله لأجتهدن أن لا أعصي الله .

وروي نحوها من وجه آخر ، لكنه في الإسناد ابن جهضم ، وهو هالك . وبكل حال : فالشرك أعظم من قطع الطريق ، وقد تاب من الشرك خلق صاروا أفضل الأمة . فنواصي العباد بيد الله -تعالى- وهو يضل من يشاء ويهدي إليه من أناب .

قال إبراهيم بن سعيد الجوهري : قال لي المأمون ، قال لي الرشيد : ما رأت عيناي مثل فضيل بن عياض ، دخلت عليه فقال لي : فرغ قلبك للحزن وللخوف حتى يسكناه ، فيقطعاك عن المعاصي ، ويباعداك من النار .

وعن ابن أبي عمر قال : ما رأيت بعد الفضيل أعبد من وكيع . قال إبراهيم بن الأشعث : رأيت سفيان بن عيينة يقبل يد الفضيل مرتين ، وعن ابن المبارك قال : إذا نظرت إلى الفضيل ، جدد لي الحزن ، ومقت نفسي ، ثم بكى .

قال يحيى بن أيوب : دخلت مع زافر بن سليمان على الفضيل بن عياض ، فإذا معه شيخ ، فدخل زافر وأقعدني على الباب . قال زافر : فجعل الفضيل ينظر إلي ثم قال : هؤلاء المحدثون يعجبهم قرب الإسناد ، ألا أخبرك بإسناد لا شك فيه : رسول الله ، عن جبريل ، عن الله : نارا وقودها الناس والحجارة عليها ملائكة غلاظ شداد فأنا وأنت يا أبا سليمان من الناس ، ثم [ ص: 439 ] غشي عليه وعلى الشيخ ، وجعل زافر ينظر إليهما ، ثم خرج الفضيل ، وقمنا والشيخ مغشي عليه .

قال سهل بن راهويه : قلت لابن عيينة : ألا ترى إلى الفضيل لا تكاد تجف له دمعة . قال : إذا قرح القلب ، نديت العينان .

قال الأصمعي : نظر الفضيل إلى رجل يشكو إلى رجل ، فقال : يا هذا ، تشكو من يرحمك إلى من لا يرحمك .

قال أحمد بن أبي الحواري : حدثنا أبو عبد الله الأنطاكي قال : اجتمع الفضيل والثوري ، فتذاكرا ، فرق سفيان وبكى ، ثم قال : أرجو أن يكون هذا المجلس علينا رحمة وبركة . فقال له الفضيل : لكني يا أبا عبد الله ، أخاف أن لا يكون أضر علينا منه . ألست تخلصت إلى أحسن حديثك ، وتخلصت أنا إلى أحسن حديثي ، فتزينت لي وتزينت لك ؟ فبكى سفيان وقال : أحييتني أحياك الله .

وقال الفيض : قال لي الفضيل : لو قيل لك : يا مرائي ، غضبت ، وشق عليك ، وعسى ما قيل لك حق ، تزينت للدنيا وتصنعت ، وقصرت ثيابك ، وحسنت سمتك ، وكففت أذاك حتى يقال : أبو فلان عابد ، ما أحسن سمته ! فيكرمونك ، وينظرونك ، ويقصدونك ويهدون إليك ، مثل الدرهم الستوق لا يعرفه كل أحد فإذا قشر قشر عن نحاس .

إبراهيم بن الأشعث : سمعت الفضيل يقول : بلغني أن العلماء فيما مضى [ ص: 440 ] كانوا إذا تعلموا عملوا ، وإذا عملوا شغلوا ، وإذا شغلوا فقدوا ، وإذا فقدوا طلبوا ، فإذا طلبوا هربوا .

وعنه قال : كفى بالله محبا وبالقرآن مؤنسا ، وبالموت واعظا ، وبخشية الله علما ، وبالاغترار جهلا .

وعنه : خصلتان تقسيان القلب : كثرة الكلام ، وكثرة الأكل .

وعنه : كيف ترى حال من كثرت ذنوبه ، وضعف علمه ، وفني عمره ، ولم يتزود لمعاده .

وعنه : يا مسكين ، أنت مسيء وترى أنك محسن ، وأنت جاهل وترى أنك عالم ، وتبخل وترى أنك كريم ، وأحمق وترى أنك عاقل ، أجلك قصير ، وأملك طويل .

قلت : إي -والله- صدق ، وأنت ظالم وترى أنك مظلوم ، وآكل للحرام وترى أنك متورع ، وفاسق وتعتقد أنك عدل ، وطالب العلم للدنيا وترى أنك تطلبه لله .

عباس الدوري : حدثنا محمد بن عبد الله الأنباري ، قال : سمعت فضيلا يقول : لما قدم هارون الرشيد إلى مكة قعد في الحجر هو وولده ، وقوم من [ ص: 441 ] الهاشميين ، وأحضروا المشايخ ، فبعثوا إلي فأردت أن لا أذهب ، فاستشرت جاري ، فقال : اذهب لعله يريد أن تعظه ، فدخلت المسجد ، فلما صرت إلى الحجر ، قلت لأدناهم : أيكم أمير المؤمنين ؟ فأشار إليه ، فقلت : السلام عليك يا أمير المؤمنين ورحمة الله وبركاته ، فرد علي وقال : اقعد ، ثم قال : إنما دعوناك لتحدثنا بشيء ، وتعظنا ، فأقبلت عليه ، فقلت : يا حسن الوجه ، حساب الخلق كلهم عليك ، فجعل يبكي ويشهق ، فرددت عليه ، وهو يبكي ، حتى جاء الخادم فحملوني وأخرجوني ، وقال : اذهب بسلام .

وقال محرز بن عون : كنت عند الفضيل ، فأتى هارون ومعه يحيى بن خالد ، وولده جعفر ، فقال له يحيى : يا أبا علي ، هذا أمير المؤمنين يسلم عليك . قال : أيكم هو ؟ قالوا : هذا ، فقال : يا حسن الوجه ، لقد طوقت أمرا عظيما ، وكررها ، ثم قال : حدثني عبيد المكتب ، عن مجاهد في قوله : وتقطعت بهم الأسباب قال : الأوصال التي كانت في الدنيا . وأومأ بيده إليهم .

قال عبد الله بن خبيق : قال الفضيل : تباعد من القراء ، فإنهم إن أحبوك مدحوك بما ليس فيك ، وإن غضبوا شهدوا عليك ، وقبل منهم . [ ص: 442 ]

قال قطبة بن العلاء : سمعت الفضيل يقول : آفة القراء العجب . وللفضيل -رحمه الله- مواعظ ، وقدم في التقوى راسخ ، وله ترجمة في كتاب " الحلية " وفي تاريخ أبي القاسم ابن عساكر . وكان يعيش من صلة ابن المبارك ونحوه من أهل الخير ، ويمتنع من جوائز الملوك .

قال بعضهم : كنا جلوسا عند الفضيل بن عياض ، فقلنا له : كم سنك؟ فقال :

بلغت الثمانين أو جزتها فماذا أؤمل أو أنتظر     علتني السنون فأبلينني
فدق العظام وكل البصر



قلت : هو من أقران سفيان بن عيينة في المولد ولكنه مات قبله بسنوات وكان ابنه :

التالي السابق


الخدمات العلمية