صفحة جزء
يحيى بن يحيى بن كثير

ابن وسلاس بن شملال بن منغايا ، الإمام الكبير ، فقيه الأندلس أبو محمد الليثي البربري المصمودي الأندلسي القرطبي .

مولده في سنة اثنتين وخمسين ومائة

[ ص: 520 ] سمع أولا من الفقيه زياد بن عبد الرحمن شبطون ، ويحيى بن مضر ، وطائفة .

ثم ارتحل إلى المشرق في أواخر أيام مالك الإمام ، فسمع منه " الموطأ " سوى أبواب من الاعتكاف ، شك في سماعها منه ، فرواها عن زياد شبطون ، عن مالك ، وسمع من الليث بن سعد ، وسفيان بن عيينة ، وعبد الله بن وهب ، وعبد الرحمن بن القاسم العتقي ، وحمل عن ابن القاسم عشرة كتب سؤالات ، ومسائل ، وسمع من القاسم بن عبد الله العمري ، وأنس بن عياض الليثي .

ويقال : إنه لحق نافع بن أبي نعيم مقرئ المدينة ، وأخذ عنه . وهذا بعيد ، فإن نافعا مات قبل مالك بعشر سنين .

ولازم ابن وهب ، وابن القاسم ، ثم حج ، ورجع إلى المدينة ليزداد من مالك ، فوجده في مرض الموت ، فأقام إلى أن توفاه الله ، وشهد جنازته ، ورجع إلى قرطبة بعلم جم ، وتصدر للاشتغال ، وازدحموا عليه ، وبعد صيته ، وانتفعوا بعلمه وهديه وسمته .

وكان كبير الشأن ، وافر الجلالة ، عظيم الهيبة ، نال من الرئاسة والحرمة ما لم يبلغه أحد .

روى عنه : ولده أبو مروان عبيد الله ، ومحمد بن العباس بن الوليد ، ومحمد بن وضاح ، وبقي بن مخلد ، وصباح بن عبد الرحمن العتقي ، وخلق سواهم .

كان أحمد بن خالد بن الحباب الحافظ يقول : لم يعط أحد من أهل [ ص: 521 ] العلم بالأندلس من الحظوة ، وعظم القدر ، وجلالة الذكر ، ما أعطيه يحيى بن يحيى .

وبلغنا أن يحيى بن يحيى الليثي كان عند مالك بن أنس - رحمه الله ، فمر على باب مالك الفيل ، فخرج كل من كان في مجلسه لرؤية الفيل ، سوى يحيى بن يحيى ، فلم يقم ، فأعجب به مالك ، وسأله : من أنت ؟ وأين بلدك ؟ ثم لم يزل بعد مكرما له .

وعن يحيى بن يحيى ، قال : أخذت بركاب الليث ، فأراد غلامه أن يمنعني فقال الليث : دعه . ثم قال لي : خدمك العلم . قال : فلم تزل بي الأيام حتى رأيت ذلك .

وقيل : إن عبد الرحمن بن الحكم المرواني صاحب الأندلس نظر إلى جارية له في رمضان نهارا ، فلم يملك نفسه أن واقعها ، ثم ندم ، وطلب الفقهاء ، وسألهم عن توبته ، فقال يحيى بن يحيى : صم شهرين متتابعين ، فسكت العلماء ، فلما خرجوا قالوا ليحيى : مالك لم تفته بمذهبنا عن مالك أنه مخير بين العتق والصوم والإطعام ؟ قال : لو فتحنا له هذا الباب ، لسهل عليه أن يطأ كل يوم ، ويعتق رقبة ، فحملته على أصعب الأمور لئلا يعود .

[ ص: 522 ] قال أبو عمر بن عبد البر : قدم يحيى بن يحيى الأندلس بعلم كثير ، فعادت فتيا الأندلس بعد عيسى بن دينار الفقيه عليه ، وانتهى السلطان والعامة إلى رأيه ، وكان فقيها حسن الرأي ، وكان لا يرى القنوت في الصبح ، ولا في سائر الصلوات ، ويقول : سمعت الليث بن سعد يقول : سمعت يحيى بن سعيد الأنصاري يقول : إنما قنت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - نحوا من أربعين يوما يدعو على قوم ، ويدعو لآخرين . قال : وكان الليث لا يقنت .

ثم قال ابن عبد البر : وخالف يحيى بن يحيى مالكا في اليمين مع الشاهد ، فلم ير القضاء به ولا الحكم وأخذ بقول الليث بن سعد .

قال : وكان يرى جواز كراء الأرض بجزء مما يخرج منها ، على مذهب الليث ، ويقول : هي سنة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في خيبر . [ ص: 523 ] وقضى برأي أمينين إذا لم يوجد في أهل الزوجين حكمان يصلحان لذلك .

قال أبو عمر : وكان يحيى بن يحيى إمام أهل بلده ، والمقتدى به منهم ، والمنظور إليه ، والمعول عليه ، وكان ثقة عاقلا ، حسن الهدي والسمت ، يشبه في سمته بسمت مالك . قال : ولم يكن له بصر بالحديث .

قلت : نعم ، ما كان من فرسان هذا الشأن ، بل كان متوسطا فيه - رحمه الله .

قال ابن الفرضي : كان يفتي برأي مالك ، وكان إمام وقته ، وواحد بلده ، وكان رجلا عاقلا .

قال محمد بن عمر بن لبابة : فقيه الأندلس : عيسى بن دينار ، وعالمها : عبد الملك بن حبيب ، وعاقلها : يحيى بن يحيى .

ثم قال ابن الفرضي في " تاريخه " : وكان يحيى بن يحيى ممن اتهم ببعض الأمر في الهيج - يعني : في القيام والإنكار على أمير الأندلس - قال : فهرب إلى طليطلة ، ثم استأمن ، فكتب له الحكم الأمير المعروف [ ص: 524 ] بالربضي أمانا ، فرد إلى قرطبة .

قال عبد الله بن محمد بن جعفر : رأيت يحيى بن يحيى نازلا عن دابته ، ماشيا إلى الجامع يوم جمعة ، وعليه عمامة ورداء متين ، وأنا أحبس دابة أبي .

قال أبو القاسم بن بشكوال الحافظ كان يحيى بن يحيى مجاب الدعوة ، قد أخذ نفسه في هيئته ومقعده هيئة مالك الإمام بالأندلس ، فإنه عرض عليه قضاء الجماعة ، فامتنع ، فكان أمير الأندلس لا يولي أحدا القضاء بمدائن إقليم الأندلس ، إلا من يشير به يحيى بن يحيى ، فكثر لذلك تلامذة يحيى بن يحيى ، وأقبلوا على فقه مالك ، ونبذوا ما سواه .

نقل غير واحد وفاة يحيى بن يحيى في شهر رجب سنة أربع وثلاثين ومائتين وبعضهم قال : في سنة ثلاث والأول أصح .

أخبرنا بكتاب " الموطأ " الإمام المعمر مسند المغرب أبو محمد عبد الله بن محمد بن هارون الطائي كتابة من مدينة تونس ، قال : أخبرنا [ ص: 525 ] القاضي أبو القاسم أحمد بن يزيد بن بقي المالكي قراءة عليه في سنة عشرين وستمائة ، قال : أخبرنا محمد بن عبد الحق القرطبي قراءة ، قال : أخبرنا الإمام محمد بن فرج مولى ابن الطلاع ، قال : أخبرنا القاضي أبو الوليد يونس بن عبد الله بن مغيث سماعا ، أخبرنا أبو عيسى يحيى بن عبد الله بن يحيى بن يحيى بن يحيى الليثي قراءة - وتوفي في رجب سنة سبع وستين وثلاثمائة .

قال : أخبرنا عم أبي الفقيه أبو مروان عبيد الله بن يحيى بن يحيى - وتوفي في رمضان سنة ثمان وتسعين ومائتين - قال : أخبرنا أبي قال : حدثنا مالك بن أنس سوى فوته من الاعتكاف ، فذكر " الموطأ " .

التالي السابق


الخدمات العلمية