صفحة جزء
المحنة :

قال عمرو بن حكام : حدثنا شعبة ، عن قتادة ، عن عكرمة ، عن ابن عباس ، قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : لا يمنعن أحدكم مخافة الناس أن يتكلم بحق علمه تفرد به عمرو ، وليس بحجة .

وقال سليمان بن بنت شرحبيل ، حدثنا عيسى بن يونس ، عن سليمان [ ص: 233 ] التيمي ، عن أبي نضرة ، عن أبي سعيد : قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : لا يمنعن أحدكم هيبة الناس أن يقول بالحق إذا رآه أو سمعه غريب فرد .

وقال حماد بن سلمة ، ومعلى بن زياد - وهذا لفظه - عن أبي غالب ، عن أبي أمامة أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال : أحب الجهاد إلى الله كلمة حق تقال لإمام جائر .

إسحاق بن موسى الخطمي : حدثنا أبو بكر بن عبد الرحمن ، حدثنا يعقوب بن محمد بن عبد الرحمن القاري ، عن أبيه ، عن جده ، أن عمر كتب إلى معاوية : أما بعد ، فالزم الحق ، ينزلك الحق منازل أهل الحق ، يوم لا يقضى إلا بالحق .

وبإسناد واه عن أبي ذر : أبى الحق أن يترك له صديقا . [ ص: 234 ]

الصدع بالحق عظيم ، يحتاج إلى قوة وإخلاص ، فالمخلص بلا قوة يعجز عن القيام به ، والقوي بلا إخلاص يخذل ، فمن قام بهما كاملا ، فهو صديق . ومن ضعف ، فلا أقل من التألم والإنكار بالقلب . ليس وراء ذلك إيمان ، فلا قوة إلا بالله .

سفيان الثوري ، عن الحسن بن عمرو ، عن محمد بن مسلم مولى حكيم بن حزام ، عن عبد الله بن عمرو قال : قال النبي - صلى الله عليه وسلم - : إذا رأيتم أمتي تهاب الظالم أن تقول له : إنك ظالم ، فقد تودع منهم هكذا رواه جماعة عن سفيان .

ورواه النضر بن إسماعيل ، عن الحسن ، فقال : عن مجاهد ، عن عبد الله بن عمرو مرفوعا . ورواه سيف بن هارون عن الحسن ، فقال : عن أبي الزبير : سمعت عبد الله بن عمرو مرفوعا .

سفيان الثوري ، عن زبيد ، عن عمرو بن مرة ، عن أبي البختري ، [ ص: 235 ] عن أبي سعيد قال : قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : لا يحقرن أحدكم نفسه أن يرى أمرا لله فيه مقال ، فلا يقول فيه ، فيقال له : ما منعك ؟ فيقول : مخافة الناس . فيقول : فإياي كنت أحق أن تخاف رواه الفريابي وأبو نعيم وخلاد عنه .

حماد بن زيد ، عن أيوب ، عن أبي قلابة ، عن أبي أسماء ، عن ثوبان قال : قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : إن أخوف ما أخاف على أمتي الأئمة المضلون ، وإذا وضع السيف عليهم ، لم يرفع عنهم إلى يوم القيامة ، ولا تزال طائفة من أمتي على الحق ظاهرين ، لا يضرهم من خالفهم أو خذلهم حتى يأتي أمر الله .

الحسين بن موسى : حدثنا الحسين بن الفضل البجلي ، حدثنا عبد العزيز بن يحيى المكي ، حدثنا سليم بن مسلم ، عن ابن جريج ، عن [ ص: 236 ] عطاء ، عن ابن عباس قال : قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : " لله عند إحداث كل بدعة تكيد الإسلام ولي يذب عن دينه " . الحديث . هذا موضوع ، ما رواه ابن جريج .

كان الناس أمة واحدة ، ودينهم قائما في خلافة أبي بكر وعمر . فلما استشهد قفل باب الفتنة عمر - رضي الله عنه - وانكسر الباب ، قام رءوس الشر على الشهيد عثمان حتى ذبح صبرا . وتفرقت الكلمة وتمت وقعة الجمل ، ثم وقعة صفين . فظهرت الخوارج ، وكفرت سادة الصحابة ، ثم ظهرت الروافض والنواصب .

وفي آخر زمن الصحابة ظهرت القدرية ، ثم ظهرت المعتزلة بالبصرة ، والجهمية والمجسمة بخراسان في أثناء عصر التابعين مع ظهور السنة وأهلها .

إلى بعد المائتين ، فظهر المأمون الخليفة - وكان ذكيا متكلما ، له نظر في المعقول - فاستجلب كتب الأوائل ، وعرب حكمة اليونان ، وقام في ذلك وقعد ، وخب ووضع ، ورفعت الجهمية والمعتزلة رءوسها ، بل والشيعة ، فإنه كان كذلك . وآل به الحال إلى أن حمل الأمة على القول بخلق القرآن ، وامتحن العلماء ، فلم يمهل . وهلك لعامه ، وخلى بعده شرا وبلاء في الدين . فإن الأمة ما زالت على أن القرآن العظيم كلام الله - تعالى - ووحيه وتنزيله ، لا يعرفون غير ذلك ، حتى نبغ لهم القول بأنه كلام الله مخلوق مجعول ، وأنه إنما يضاف إلى الله - تعالى - إضافة تشريف ، كبيت الله ، وناقة الله . فأنكر ذلك العلماء . ولم تكن الجهمية يظهرون في دولة المهدي والرشيد والأمين فلما ولي المأمون ، كان منهم ، وأظهر المقالة .

روى أحمد بن إبراهيم الدورقي ، عن محمد بن نوح : أن الرشيد قال : بلغني أن بشر بن غياث المريسي يقول : القرآن مخلوق ، فلله علي [ ص: 237 ] إن أظفرني به ، لأقتلنه . قال الدورقي : وكان متواريا أيام الرشيد فلما مات الرشيد ، ظهر ، ودعا إلى الضلالة .

قلت : ثم إن المأمون نظر في الكلام ، وناظر ، وبقي متوقفا في الدعاء إلى بدعته .

قال أبو الفرج بن الجوزي : خالطه قوم من المعتزلة ، فحسنوا له القول بخلق القرآن ، وكان يتردد ويراقب بقايا الشيوخ ، ثم قوي عزمه ، وامتحن الناس .

أخبرنا المسلم بن محمد في كتابه : أخبرنا أبو اليمن الكندي ، أخبرنا أبو منصور الشيباني ، أخبرنا أبو بكر الخطيب ، أخبرنا أبو بكر الحيري ، أخبرنا أبو العباس الأصم ، أخبرنا يحيى بن أبي طالب ، أخبرني الحسن بن شاذان الواسطي ، حدثني ابن عرعرة ، حدثني ابن أكثم قال : قال لنا المأمون : لولا مكان يزيد بن هارون ، لأظهرت أن القرآن مخلوق . فقال بعض جلسائه : يا أمير المؤمنين ، ومن يزيد حتى يتقى ؟ فقال : ويحك ! إني أخاف إن أظهرته فيرد علي يختلف الناس ، وتكون فتنة ، وأنا أكره الفتنة . فقال الرجل : فأنا أخبر ذلك منه ، قال له : نعم . فخرج إلى واسط ، فجاء إلى يزيد ، وقال : يا أبا خالد ، إن أمير المؤمنين يقرئك السلام ، ويقول لك : إني أريد أن أظهر خلق القرآن ، فقال : كذبت على أمير المؤمنين . أمير المؤمنين لا يحمل الناس على ما لا يعرفونه . فإن كنت صادقا ، فاقعد . فإذا اجتمع الناس في المجلس ، فقل . قال : فلما أن كان الغد ، اجتمعوا . فقام ، فقال كمقالته ، فقال يزيد : كذبت على أمير المؤمنين ، إنه لا يحمل الناس على ما لا يعرفونه ، وما لم يقل به أحد . قال : فقدم ، وقال : يا أمير المؤمنين ، كنت أعلم ، وقص عليه ، قال : ويحك يلعب بك !! [ ص: 238 ]

قال صالح بن أحمد : سمعت أبي ، يقول : لما دخلنا على إسحاق بن إبراهيم للمحنة ، قرأ علينا كتاب الذي صار إلى طرسوس ، يعني : المأمون ، فكان فيما قرئ علينا : ليس كمثله شيء و هو خالق كل شيء فقلت وهو السميع البصير قال صالح : ثم امتحن القوم ، ووجه بمن امتنع إلى الحبس ، فأجاب القوم جميعا غير أربعة : أبي ، ومحمد بن نوح ، والقواريري ، والحسن بن حماد سجادة . ثم أجاب هذان ، وبقي أبي ومحمد في الحبس أياما ، ثم جاء كتاب من طرسوس بحملهما مقيدين زميلين .

الطبراني : حدثنا عبد الله بن أحمد ، حدثني أبو معمر القطيعي قال : لما أحضرنا إلى دار السلطان أيام المحنة ، وكان أحمد بن حنبل قد أحضر فلما رأى الناس يجيبون ، وكان رجلا لينا ، فانتفخت أوداجه ، واحمرت عيناه ، وذهب ذلك اللين . فقلت : إنه قد غضب لله ، فقلت أبشر : حدثنا ابن فضيل ، عن الوليد بن عبد الله بن جميع ، عن أبي سلمة قال : كان من أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - من إذا أريد على شيء من أمر دينه ، رأيت حماليق عينيه في رأسه تدور كأنه مجنون .

أخبرنا عمر بن القواس ، عن الكندي ، أخبرنا الكروخي ، أخبرنا شيخ الإسلام ، أخبرنا أبو يعقوب ، حدثنا الحسين بن محمد الخفاف : سمعت ابن أبي أسامة يقول : حكي لنا أن أحمد قيل له أيام المحنة : يا أبا عبد الله ، أو لا ترى الحق كيف ظهر عليه الباطل ؟ قال : كلا ، إن ظهور الباطل على الحق أن تنتقل القلوب من الهدى إلى الضلالة ، وقلوبنا بعد لازمة للحق .

الأصم : حدثنا عباس الدوري : سمعت أبا جعفر الأنباري يقول : [ ص: 239 ] لما حمل أحمد إلى المأمون ، أخبرت ، فعبرت الفرات ، فإذا هو جالس في الخان ، فسلمت عليه ، فقال : يا أبا جعفر ، تعنيت . فقلت : يا هذا أنت اليوم رأس ، والناس يقتدون بك ، فوالله لئن أجبت إلى خلق القرآن ، ليجيبن خلق ، وإن أنت لم تجب ، ليمتنعن خلق من الناس كثير . ومع هذا فإن الرجل إن لم يقتلك فإنك تموت ، لا بد من الموت ، فاتق الله ولا تجب . فجعل أحمد يبكي ، ويقول : ما شاء الله . ثم قال : يا أبا جعفر ، أعد علي فأعدت عليه ، وهو يقول : ما شاء الله .

قال أحمد بن محمد بن إسماعيل الأدمي : حدثنا الفضل بن زياد ، سمعت أحمد بن حنبل يقول : أول يوم امتحنه إسحاق ، لما خرج من عنده ، وذلك في جمادى الآخرة سنة ثماني عشرة ومائتين ، فقعد في مسجده ، فقال له جماعة : أخبرنا بمن أجاب . فكأنه ثقل عليه ، فكلموه أيضا . قال : فلم يجب أحد من أصحابنا ، والحمد لله . ثم ذكر من أجاب ومن واتاهم على أكثر ما أرادوا . فقال : هو مجعول محدث . وامتحنهم مرة مرة ، وامتحنني مرتين مرتين . فقال لي : ما تقول في القرآن ؟ قلت : كلام الله غير مخلوق .

فأقامني وأجلسني في ناحية ، ثم سألهم ، ثم ردني ثانية ، فسألني وأخذني في التشبيه . فقلت : ليس كمثله شيء وهو السميع البصير فقال لي : وما السميع البصير ؟ فقلت : هكذا قال تعالى .

قال محمد بن إبراهيم البوشنجي : جعلوا يذاكرون أبا عبد الله بالرقة في التقية وما روي فيها . فقال : كيف تصنعون بحديث خباب : إن من كان قبلكم كان ينشر أحدهم بالمنشار ، لا يصده ذلك عن دينه فأيسنا منه . [ ص: 240 ]

وقال : لست أبالي بالحبس ، ما هو ومنزلي إلا واحد ، ولا قتلا بالسيف ، إنما أخاف فتنة السوط . فسمعه بعض أهل الحبس ، فقال : لا عليك يا أبا عبد الله ، فما هو إلا سوطان ، ثم لا تدري أين يقع الباقي ، فكأنه سري عنه .

قال : وحدثني من أثق به ، عن محمد بن إبراهيم بن مصعب ، وهو يومئذ صاحب شرطة المعتصم خلافة لأخيه إسحاق بن إبراهيم قال : ما رأيت أحدا لم يداخل السلطان ، ولا خالط الملوك ، كان أثبت قلبا من أحمد يومئذ ، ما نحن في عينه إلا كأمثال الذباب .

وحدثني بعض أصحابنا عن أبي عبد الرحمن الشافعي أو هو حدثني أنهم أنفذوه إلى أحمد في محبسه ليكلمه في معنى التقية ، فلعله يجيب . قال : فصرت إليه أكلمه ، حتى إذا أكثرت وهو لا يجيبني . ثم قال لي : ما قولك اليوم في سجدتي السهو ؟ وإنما أرسلوه إلى أحمد للإلف الذي كان بينه وبين أحمد أيام لزومهم الشافعي . فإن أبا عبد الرحمن كان يومئذ ممن يتقشف ويلبس الصوف ، وكان أحفظ أصحاب الشافعي للحديث من قبل أن يتبطن بمذاهبه المذمومة . ثم لم يحدث أبو عبد الله بعدما أنبأتك أنه حدثني في أول خلافة الواثق ، ثم قطعه إلى أن مات ، إلا ما كان في زمن المتوكل . [ ص: 241 ]

قال صالح بن أحمد : حمل أبي ومحمد بن نوح من بغداد مقيدين ، فصرنا معهما إلى الأنبار . فسأل أبو بكر الأحول أبي : يا أبا عبد الله ، إن عرضت على السيف ، تجيب ؟ قال : لا . ثم سيرا ، فسمعت أبي يقول : صرنا إلى الرحبة ورحلنا منها في جوف الليل ، فعرض لنا رجل ، فقال : أيكم أحمد بن حنبل ؟ فقيل له : هذا ، فقال للجمال : على رسلك ، ثم قال : يا هذا ، ما عليك أن تقتل هاهنا ، وتدخل الجنة ؟ ثم قال : أستودعك الله ، ومضى . فسألت عنه ، فقيل لي : هذا رجل من العرب من ربيعة يعمل الشعر في البادية ، يقال له : جابر بن عامر ، يذكر بخير .

أحمد بن أبي الحواري : حدثنا إبراهيم بن عبد الله قال : قال أحمد بن حنبل : ما سمعت كلمة منذ وقعت في هذا الأمر أقوى من كلمة أعرابي كلمني بها في رحبة طوق . قال : يا أحمد ، إن يقتلك الحق ، مت شهيدا ، وإن عشت ، عشت حميدا . فقوى قلبي .

قال صالح بن أحمد : قال أبي : فلما صرنا إلى أذنة ورحلنا منها في جوف الليل ، وفتح لنا بابها ، إذا رجل قد دخل . فقال : البشرى ! قد مات الرجل; يعني : المأمون . قال أبي : وكنت أدعو الله أن لا أراه .

محمد بن إبراهيم البوشنجي : سمعت أحمد بن حنبل يقول : تبينت الإجابة في دعوتين : دعوت الله أن لا يجمع بيني وبين المأمون ، [ ص: 242 ] ودعوته أن لا أرى المتوكل . فلم أر المأمون ، مات بالبذندون قلت وهو نهر الروم . وبقي أحمد محبوسا بالرقة حتى بويع المعتصم إثر موت أخيه ، فرد أحمد إلى بغداد . وأما المتوكل فإنه نوه بذكر الإمام أحمد ، والتمس الاجتماع به ، فلما أن حضر أحمد دار الخلافة بسامراء ليحدث ولد المتوكل ويبرك عليه ، جلس له المتوكل في طاقة ، حتى نظر هو وأمه منها إلى أحمد ، ولم يره أحمد .

قال صالح : لما صدر أبي ومحمد بن نوح إلى طرسوس ، ردا في أقيادهما . فلما صار إلى الرقة ، حملا في سفينة ، فلما وصلا إلى عانة توفي محمد ، وفك قيده ، وصلى عليه أبي .

وقال حنبل : قال أبو عبد الله : ما رأيت أحدا على حداثة سنه ، وقدر علمه أقوم بأمر الله من محمد بن نوح ، إني لأرجو أن يكون قد ختم له بخير . قال لي ذات يوم : يا أبا عبد الله ، الله الله ، إنك لست مثلي . أنت رجل يقتدى بك . قد مد الخلق أعناقهم إليك ، لما يكون منك ، فاتق الله واثبت لأمر الله ، أو نحو هذا . فمات ، وصليت عليه ، ودفنته . أظن قال : بعانة .

قال صالح : وصار أبي إلى بغداد مقيدا . فمكث بالياسرية أياما ، [ ص: 243 ] ثم حبس في دار اكتريت عند دار عمارة ، ثم حول إلى حبس العامة في ، درب الموصلية . فقال : كنت أصلي بأهل السجن ، وأنا مقيد . فلما كان ، في رمضان سنة تسع عشر - قلت : وذلك بعد موت المأمون بأربعة عشر شهرا - حولت إلى دار إسحاق بن إبراهيم ، يعني : نائب بغداد . وأما حنبل ، فقال : حبس أبو عبد الله في دار عمارة ببغداد في إصطبل الأمير محمد بن إبراهيم أخي إسحاق بن إبراهيم ، وكان في حبس ضيق ، ومرض في رمضان . ثم حول بعد قليل إلى سجن العامة ، فمكث في ، السجن نحوا من ثلاثين شهرا . وكنا نأتيه ، فقرأ علي كتاب " الإرجاء " وغيره في الحبس ، ورأيته يصلي بهم في القيد ، فكان يخرج رجله من حلقة القيد وقت الصلاة والنوم .

قال صالح بن أحمد : قال أبي : كان يوجه إلي كل يوم برجلين ، أحدهما يقال له : أحمد بن أحمد بن رباح ، والآخر أبو شعيب الحجام ، فلا يزالان يناظراني ، حتى إذا قاما دعي بقيد ، فزيد في قيودي ، فصار - في رجلي أربعة أقياد . فلما كان في اليوم الثالث ، دخل علي فناظرني ، فقلت له : ما تقول في علم الله ؟ قال : مخلوق . قلت : كفرت بالله فقال الرسول الذي كان يحضر من قبل إسحاق بن إبراهيم : إن هذا رسول أمير المؤمنين . فقلت : إن هذا قد كفر . فلما كان في الليلة الرابعة ، وجه ، يعني : المعتصم ، ببغا الكبير إلى إسحاق ، فأمره بحملي إليه ، فأدخلت على إسحاق ، فقال : يا أحمد ، إنها والله نفسك ، إنه لا يقتلك بالسيف ، إنه قد آلى ، إن لم تجبه ، أن يضربك ضربا بعد ضرب ، وأن يقتلك في موضع لا يرى فيه شمس ولا قمر . أليس قد قال الله تعالى : [ ص: 244 ] إنا جعلناه قرآنا عربيا أفيكون مجعولا إلا مخلوقا ؟ فقلت : فقد قال تعالى : فجعلهم كعصف مأكول أفخلقهم ؟

قال : فسكت . فلما صرنا إلى الموضع المعروف بباب البستان ، أخرجت ، وجيء بدابة فأركبت وعلي الأقياد ، ما معي من يمسكني ، فكدت غير مرة أن أخر على وجهي لثقل القيود . فجيء بي إلى دار المعتصم ، فأدخلت حجرة ، ثم أدخلت بيتا ، وأقفل الباب علي في جوف الليل ولا سراج . فأردت الوضوء ، فمددت يدي ، فإذا أنا بإناء فيه ماء ، وطست موضوع ، فتوضأت وصليت .

فلما كان من الغد ، أخرجت تكتي ، وشددت بها الأقياد أحملها ، وعطفت سراويلي . فجاء رسول المعتصم ، فقال : أجب فأخذ بيدي ، وأدخلني عليه ، والتكة في يدي ، أحمل بها الأقياد ، وإذا هو جالس ، وأحمد بن أبي دواد حاضر ، وقد جمع خلقا كثيرا من أصحابه . فقال لي المعتصم : ادنه ادنه . فلم يزل يدنيني حتى قربت منه . ثم قال : اجلس ، فجلست ، وقد أثقلتني الأقياد ، فمكثت قليلا ، ثم قلت : أتأذن في الكلام ؟ قال تكلم ، فقلت : إلى ما دعا الله ورسوله ؟ فسكت هنية ثم قال : إلى شهادة أن لا إله إلا الله ، فقلت : فأنا أشهد أن لا إله إلا الله . ثم قلت : إن جدك ابن عباس يقول : لما قدم وفد عبد القيس على رسول الله ، سألوه عن الإيمان ، فقال : أتدرون ما الإيمان ؟ قالوا : الله [ ص: 245 ] ورسوله أعلم ، قال : شهادة أن لا إله إلا الله ، وأن محمدا رسول الله ، وإقام الصلاة وإيتاء الزكاة ، وأن تعطوا الخمس من المغنم قال أبي : فقال ، يعني : المعتصم : لولا أني وجدتك في يد من كان قبلي ، ما عرضت لك .

ثم قال : يا عبد الرحمن بن إسحاق ، ألم آمرك برفع المحنة ؟ فقلت : الله أكبر ! إن في هذا لفرجا للمسلمين . ثم قال لهم : ناظروه ، وكلموه ، يا عبد الرحمن كلمه . فقال : ما تقول في القرآن ؟ قلت : ما تقول أنت في علم الله ؟ فسكت ، فقال لي بعضهم : أليس قال الله تعالى الله خالق كل شيء ؟ والقرآن أليس شيئا ؟ فقلت :

قال الله تدمر كل شيء فدمرت إلا ما أراد الله . . فقال بعضهم : ما يأتيهم من ذكر من ربهم محدث أفيكون محدث إلا مخلوقا ؟ فقلت : قال الله : ص والقرآن ذي الذكر فالذكر هو القرآن ، وتلك ليس فيها ألف ولام . وذكر بعضهم حديث عمران بن حصين " إن الله خلق الذكر " ، فقلت : هذا خطأ ، حدثنا غير واحد : " إن الله كتب الذكر " واحتجوا بحديث [ ص: 246 ] ابن مسعود : ما خلق الله من جنة ولا نار ولا سماء ولا أرض أعظم من آية الكرسي فقلت : إنما وقع الخلق على الجنة والنار والسماء والأرض ، ولم يقع على القرآن . فقال بعضهم : حديث خباب : يا هنتاه ، تقرب إلى الله بما استطعت ، فإنك لن تتقرب إليه بشيء أحب إليه من كلامه فقلت : هكذا هو .

قال صالح : وجعل ابن أبي دواد ينظر إلى أبي كالمغضب . قال أبي : وكان يتكلم هذا ، فأرد عليه . ويتكلم هذا ، فأرد عليه ، فإذا انقطع الرجل منهم ، اعترض ابن أبي دواد ، فيقول : يا أمير المؤمنين ، هو ، والله ، ضال مضل مبتدع ! فيقول : كلموه ، ناظروه ، فيكلمني هذا ، فأرد عليه ، ويكلمني هذا ، فأرد عليه ، فإذا انقطعوا ، يقول المعتصم : ويحك يا أحمد ، ما تقول ؟ فأقول : يا أمير المؤمنين ، أعطوني شيئا من كتاب الله [ ص: 247 ] أو سنة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - حتى أقول به . فيقول أحمد بن أبي دواد : أنت لا تقول إلا ما في الكتاب أو السنة ؟ فقلت له : تأولت تأويلا ، فأنت أعلم وما تأولت ما يحبس عليه ، ولا يقيد عليه .

قال حنبل : قال أبو عبد الله : لقد احتجوا علي بشيء ما يقوى قلبي ، ولا ينطلق لساني أن أحكيه . أنكروا الآثار ، وما ظننتهم على هذا حتى سمعته ، وجعلوا يرغون ، يقول الخصم كذا وكذا فاحتججت عليهم بالقرآن بقوله : يا أبت لم تعبد ما لا يسمع ولا يبصر أفهذا منكر عندكم ؟ فقالوا : شبه ، يا أمير المؤمنين ، شبه .

التالي السابق


الخدمات العلمية