صفحة جزء
قال الحاكم أبو عبد الله : سمعت محمد بن حامد البزاز قال : سمعت الحسن بن محمد بن جابر يقول : سمعت محمد بن يحيى قال لنا لما ورد محمد بن إسماعيل البخاري نيسابور : اذهبوا إلى هذا الرجل الصالح فاسمعوا منه . فذهب الناس إليه ، وأقبلوا على السماع منه ، حتى ظهر الخلل في مجلس محمد بن يحيى ، فحسده بعد ذلك ، وتكلم فيه .

وقال أبو أحمد بن عدي . ذكر لي جماعة من المشايخ أن محمد بن إسماعيل لما ورد نيسابور اجتمع الناس عليه ، حسده بعض من كان في ذلك الوقت من مشايخ نيسابور لما رأوا إقبال الناس إليه ، واجتماعهم عليه ، فقال لأصحاب الحديث : إن محمد بن إسماعيل يقول : اللفظ بالقرآن مخلوق ، فامتحنوه في المجلس . فلما حضر الناس مجلس البخاري ، قام إليه رجل ، فقال : يا أبا عبد الله ، ما تقول في اللفظ بالقرآن ، مخلوق هو أم غير مخلوق ؟ فأعرض عنه البخاري ولم يجبه . فقال الرجل : يا أبا عبد الله ، فأعاد عليه القول ، فأعرض عنه . ثم قال في الثالثة ، فالتفت إليه البخاري ، وقال : [ ص: 454 ] القرآن كلام الله غير مخلوق ، وأفعال العباد مخلوقة والامتحان بدعة . فشغب الرجل ، وشغب الناس ، وتفرقوا عنه . وقعد البخاري في منزله .

أنبأنا المسلم بن محمد القيسي وغيره قالوا : أخبرنا زيد بن الحسن ، أخبرنا عبد الرحمن بن محمد ، أخبرنا أحمد بن علي الخطيب ، أخبرنا أحمد بن محمد بن غالب أبو بكر البرقاني ، أخبرنا أبو بكر الإسماعيلي ، أخبرنا عبد الله بن محمد بن سيار ، حدثني محمد بن مسلم خشنام قال : سئل محمد بن إسماعيل بنيسابور عن اللفظ ، فقال : حدثني عبيد الله بن سعيد-يعني أبا قدامة - عن يحيى بن سعيد هو القطان قال : أعمال العباد كلها مخلوقة . فمرقوا عليه ، وقالوا له بعد ذلك : ترجع عن هذا القول ، حتى نعود إليك ؟ قال : لا أفعل إلا أن تجيئوا بحجة فيما تقولون أقوى من حجتي . وأعجبني من محمد بن إسماعيل ثباته .

وقال الحاكم : حدثنا أبو بكر محمد بن أبي الهيثم المطوعي ببخارى ، حدثنا محمد بن يوسف الفربري ، سمعت محمد بن إسماعيل يقول : أما أفعال العباد فمخلوقة . فقد حدثنا علي بن عبد الله ، حدثنا مروان بن معاوية ، حدثنا أبو مالك ، عن ربعي ، عن حذيفة قال : قال النبي -صلى الله عليه وسلم- : إن الله يصنع كل صانع وصنعته .

وبه قال : وسمعت عبيد الله بن سعيد يقول : سمعت يحيى بن سعيد [ ص: 455 ] يقول : ما زلت أسمع أصحابنا يقولون : إن أفعال العباد مخلوقة .

قال البخاري : حركاتهم وأصواتهم واكتسابهم وكتابتهم مخلوقة . فأما القرآن المتلو ، المبين المثبت في المصاحف ، المسور المكتوب ، الموعى في القلوب ، فهو كلام الله ليس بمخلوق . قال الله تعالى : بل هو آيات بينات في صدور الذين أوتوا العلم .

وقال أبو حامد الأعمشي : رأيت محمد بن إسماعيل في جنازة أبي عثمان سعيد بن مروان ، ومحمد بن يحيى يسأله عن الأسامي والكنى وعلل الحديث ، ويمر فيه محمد بن إسماعيل مثل السهم . فما أتى على هذا شهر حتى قال محمد بن يحيى : ألا من يختلف إلى مجلسه فلا يختلف إلينا ، فإنهم كتبوا إلينا من بغداد أنه تكلم في اللفظ ، ونهيناه ، فلم ينته ، فلا تقربوه ، ومن يقربه فلا يقربنا . فأقام محمد بن إسماعيل هاهنا مدة ، ثم خرج إلى بخارى .

وقال أبو حامد بن الشرقي : سمعت محمد بن يحيى الذهلي يقول : [ ص: 456 ] القرآن كلام الله غير مخلوق من جميع جهاته ، وحيث تصرف ، فمن لزم هذا استغنى عن اللفظ وعما سواه من الكلام في القرآن ، ومن زعم أن القرآن مخلوق فقد كفر ، وخرج عن الإيمان ، وبانت منه امرأته ، يستتاب ، فإن تاب ، وإلا ضربت عنقه ، وجعل ماله فيئا بين المسلمين ولم يدفن في مقابرهم ، ومن وقف ، فقال : لا أقول مخلوق ولا غير مخلوق ، فقد ضاهى الكفر ، ومن زعم أن لفظي بالقرآن مخلوق ، فهذا مبتدع ، لا يجالس ولا يكلم . ومن ذهب بعد هذا إلى محمد بن إسماعيل البخاري فاتهموه ، فإنه لا يحضر مجلسه إلا من كان على مثل مذهبه .

وقال الحاكم : أخبرنا محمد بن أبي الهيثم ببخارى ، أخبرنا الفربري ، حدثنا البخاري ، قال : نظرت في كلام اليهود والنصارى والمجوس ، فما رأيت أحدا أضل في كفرهم من الجهمية ، وإني لأستجهل من لا يكفرهم .

وقال غنجار : حدثنا محمد بن أحمد بن حاضر العبسي ، حدثنا الفربري ، سمعت البخاري يقول : القرآن كلام الله غير مخلوق . ومن قال مخلوق فهو كافر .

وقال الحاكم : حدثنا طاهر بن محمد الوراق ، سمعت محمد بن شاذل يقول : لما وقع بين محمد بن يحيى والبخاري ، دخلت على البخاري ، فقلت : يا أبا عبد الله ، أيش الحيلة لنا فيما بينك وبين محمد بن [ ص: 457 ] يحيى ، كل من يختلف إليك يطرد ؟ فقال : كم يعتري محمد بن يحيى الحسد في العلم . والعلم رزق الله يعطيه من يشاء . فقلت : هذه المسألة التي تحكى عنك ؟ قال : يا بني ، هذه مسألة مشؤومة ، رأيت أحمد بن حنبل ، وما ناله في هذه المسألة ، وجعلت على نفسي أن لا أتكلم فيها .

قلت : المسألة هي أن اللفظ مخلوق ، سئل عنها البخاري ، فوقف فيها ، فلما وقف واحتج بأن أفعالنا مخلوقة ، واستدل لذلك ، فهم منه الذهلي أنه يوجه مسألة اللفظ ، فتكلم فيه ، وأخذه بلازم قوله هو وغيره . وقد قال البخاري في الحكاية التي رواها غنجار في " تاريخه " : حدثنا خلف بن محمد بن إسماعيل ، سمعت أبا عمرو أحمد بن نصر النيسابوري الخفاف ببخارى يقول : كنا يوما عند أبي إسحاق القيسي ، ومعنا محمد بن نصر المروزي ، فجرى ذكر محمد بن إسماعيل البخاري ، فقال محمد بن نصر : سمعته يقول : من زعم أني قلت : لفظي بالقرآن مخلوق فهو كذاب ، فإني لم أقله . فقلت له : يا أبا عبد الله ، قد خاض الناس في هذا وأكثروا فيه . فقال : ليس إلا ما أقول . قال أبو عمرو الخفاف ، فأتيت البخاري ، فناظرته في شيء من الأحاديث حتى طابت نفسه فقلت : يا أبا عبد الله ، هاهنا أحد يحكي عنك أنك قلت هذه المقالة . فقال : يا أبا عمرو ، احفظ ما أقول لك : من زعم من أهل [ ص: 458 ] نيسابور وقومس والري وهمذان وحلوان وبغداد والكوفة والبصرة ومكة والمدينة أني قلت : لفظي بالقرآن مخلوق فهو كذاب . فإني لم أقله ، إلا أني قلت : أفعال العباد مخلوقة .

وقال أبو سعيد حاتم بن أحمد الكندي : سمعت مسلم بن الحجاج يقول : لما قدم محمد بن إسماعيل نيسابور ما رأيت واليا ولا عالما فعل به أهل نيسابور ما فعلوا به ، استقبلوه مرحلتين وثلاثة . فقال محمد بن يحيى في مجلسه : من أراد أن يستقبل محمد بن إسماعيل غدا فليستقبله . فاستقبله محمد بن يحيى وعامة العلماء ، فنزل دار البخاريين ، فقال لنا محمد بن يحيى : لا تسألوه عن شيء من الكلام ، فإنه إن أجاب بخلاف ما نحن فيه ، وقع بيننا وبينه ، ثم شمت بنا كل حروري ، وكل رافضي ، وكل جهمي ، وكل مرجئ بخراسان . قال : فازدحم الناس على محمد بن إسماعيل ، حتى امتلأ السطح والدار ، فلما كان اليوم الثاني أو الثالث ، قام إليه رجل ، فسأله عن اللفظ بالقرآن ، فقال : أفعالنا مخلوقة ، وألفاظنا من أفعالنا . فوقع بينهم اختلاف ، فقال بعض الناس : قال : لفظي بالقرآن مخلوق ، وقال بعضهم : لم يقل ، حتى تواثبوا ، فاجتمع أهل الدار ، وأخرجوهم . [ ص: 459 ]

وقال الحاكم : أخبرنا أبو عبد الله محمد بن يعقوب بن الأخرم ، سمعت ابن علي المخلدي ، سمعت محمد بن يحيى يقول : قد أظهر هذا البخاري قول اللفظية واللفظية عندي شر من الجهمية .

وقال سمعت محمد بن صالح بن هانئ : سمعت أحمد بن سلمة يقول : دخلت على البخاري ، فقلت : يا أبا عبد الله ، هذا رجل مقبول بخراسان خصوصا في هذه المدينة ، وقد لج في هذا الحديث حتى لا يقدر أحد منا أن يكلمه فيه ، فما ترى ؟ فقبض على لحيته ، ثم قال : وأفوض أمري إلى الله إن الله بصير بالعباد اللهم إنك تعلم أني لم أرد المقام بنيسابور أشرا ولا بطرا ، ولا طلبا للرئاسة ، وإنما أبت علي نفسي في الرجوع إلى وطني لغلبة المخالفين ، وقد قصدني هذا الرجل حسدا لما آتاني الله لا غير . ثم قال لي : يا أحمد ، إني خارج غدا لتتخلصوا من حديثه لأجلي .

قال : فأخبرت جماعة أصحابنا ، فوالله ما شيعه غيري . كنت معه حين خرج من البلد ، وأقام على باب البلد ثلاثة أيام لإصلاح أمره .

قال : وسمعت محمد بن يعقوب الحافظ يقول : لما استوطن [ ص: 460 ] البخاري نيسابور أكثر مسلم بن الحجاج الاختلاف إليه . فلما وقع بين الذهلي وبين البخاري ما وقع في مسألة اللفظ ، ونادى عليه ، ومنع الناس عنه ، انقطع عنه أكثر الناس غير مسلم . فقال الذهلي يوما : ألا من قال باللفظ فلا يحل له أن يحضر مجلسنا . فأخذ مسلم رداء فوق عمامته ، وقام على رؤوس الناس ، وبعث إلى الذهلي ما كتب عنه على ظهر جمال . وكان مسلم يظهر القول باللفظ ولا يكتمه .

قال : وسمعت محمد بن يوسف المؤذن ، سمعت أبا حامد بن الشرقي يقول : حضرت مجلس محمد بن يحيى الذهلي ، فقال : ألا من قال : لفظي بالقرآن مخلوق فلا يحضر مجلسنا . فقام مسلم بن الحجاج من المجلس .

رواها أحمد بن منصور الشيرازي عن محمد بن يعقوب ، فزاد : وتبعه أحمد بن سلمة .

قال أحمد بن منصور الشيرازي : سمعت محمد بن يعقوب الأخرم ، سمعت أصحابنا يقولون : لما قام مسلم وأحمد بن سلمة من مجلس الذهلي ، قال الذهلي : لا يساكنني هذا الرجل في البلد . فخشي البخاري وسافر .

وقال محمد بن أبي حاتم : أتى رجل أبا عبد الله البخاري ، فقال : يا أبا عبد الله ، إن فلانا يكفرك ! فقال : قال النبي -صلى الله عليه وسلم- : إذا قال الرجل [ ص: 461 ] لأخيه : يا كافر ، فقد باء به أحدهما .

وكان كثير من أصحابه يقولون له : إن بعض الناس يقع فيك ، فيقول : إن كيد الشيطان كان ضعيفا ويتلو أيضا : ولا يحيق المكر السيئ إلا بأهله فقال له عبد المجيد بن إبراهيم : كيف لا تدعو الله على هؤلاء الذين يظلمونك ويتناولونك ويبهتونك ؟ فقال : قال النبي -صلى الله عليه وسلم- : اصبروا حتى تلقوني على الحوض وقال -صلى الله عليه وسلم- : من دعا على ظالمه ، فقد انتصر .

قال محمد بن أبي حاتم : وسمعته يقول : لم يكن يتعرض لنا قط أحد من أفناء الناس إلا رمي بقارعة ، ولم يسلم ، وكلما حدث الجهال أنفسهم أن يمكروا بنا رأيت من ليلتي في المنام نارا توقد ثم تطفأ من غير أن ينتفع بها ، فأتأول قوله تعالى : كلما أوقدوا نارا للحرب أطفأها الله . [ ص: 462 ] وكان هجيراه من الليل إذا أتيته في آخر مقدمه من العراق : إن ينصركم الله فلا غالب لكم وإن يخذلكم فمن ذا الذي ينصركم من بعده الآية . .

وقال أحمد بن منصور الشيرازي : سمعت القاسم بن القاسم يقول : سمعت إبراهيم وراق أحمد بن سيار يقول لما قدم البخاري مرو استقبله أحمد بن سيار فيمن استقبله ، فقال له أحمد : يا أبا عبد الله ، نحن لا نخالفك فيما تقول ، ولكن العامة لا تحمل ذا منك . فقال البخاري : إني أخشى النار ، أسأل عن شيء أعلمه حقا أن أقول غيره . فانصرف عنه أحمد بن سيار .

وقال عبد الرحمن بن أبي حاتم في " الجرح والتعديل " قدم محمد بن إسماعيل الري سنة خمسين ومائتين ، وسمع منه أبي وأبو زرعة ، وتركا حديثه عندما كتب إليهما محمد بن يحيى أنه أظهر عندهم بنيسابور أن لفظه بالقرآن مخلوق . [ ص: 463 ]

قلت : إن تركا حديثه ، أو لم يتركاه ، البخاري ثقة مأمون محتج به في العالم .

التالي السابق


الخدمات العلمية