صفحة جزء
داود بن علي

بن خلف ، الإمام ، البحر ، الحافظ ، العلامة ، عالم الوقت أبو سليمان البغدادي ، المعروف بالأصبهاني ، مولى أمير المؤمنين المهدي ، رئيس أهل الظاهر .

[ ص: 98 ] مولده سنة مائتين .

وسمع : سليمان بن حرب ، وعمرو بن مرزوق ، والقعنبي ، ومحمد بن كثير العبدي ، ومسدد بن مسرهد ، وإسحاق ابن راهويه ، وأبا ثور الكلبي ، والقواريري ، وطبقتهم .

وارتحل إلى إسحاق [ ابن راهويه ] وسمع منه " المسند " و " التفسير " ، وناظر عنده ; وجمع وصنف ، وتصدر ، وتخرج به الأصحاب .

قال أبو بكر الخطيب : صنف الكتب ، وكان إماما ورعا ناسكا زاهدا ، وفي كتبه حديث كثير ، لكن الرواية عنه عزيزة جدا .

حدث عنه : ابنه أبو بكر محمد بن داود ، وزكريا الساجي ، ويوسف بن يعقوب الداودي ، وعباس بن أحمد المذكر ، وغيرهم .

قال أبو محمد ابن حزم : إنما عرف بالأصبهاني ، لأن أمه أصبهانية ، وكان أبوه حنفي المذهب .

قال أبو عمرو المستملي : رأيت داود بن علي يرد على إسحاق ابن راهويه ، وما رأيت أحدا قبله ولا بعده يرد عليه ، هيبة له .

قال عمر بن محمد بن بجير الحافظ : سمعت داود بن علي يقول : دخلت على إسحاق وهو يحتجم ، فجلست ، فرأيت كتب الشافعي ، [ ص: 99 ] فأخذت أنظر ، فصاح بي إسحاق : أيش تنظر ؟ فقلت : معاذ الله أن نأخذ إلا من وجدنا متاعنا عنده قال : فجعل يضحك ، أو يتبسم .

سعيد بن عمر البرذعي ، قال : كنا عند أبي زرعة الرازي ، فاختلف رجلان من أصحابنا في أمر داود الأصبهاني ، والمزني ، والرجلان : فضلك الرازي ، وابن خراش فقال ابن خراش : داود كافر . وقال فضلك : المزني : جاهل .

فأقبل أبو زرعة يوبخهما ، وقال لهما : ما واحد منكما لهما بصاحب . ثم قال : ترى داود هذا ، لو اقتصر على ما يقتصر عليه أهل العلم لظننت أنه يكمد أهل البدع بما عنده من البيان والآلة ولكنه تعدى ، لقد قدم علينا من نيسابور ، فكتب إلي محمد بن رافع ، ومحمد بن يحيى ، وعمرو بن زرارة ، وحسين بن منصور ، ومشيخة نيسابور بما أحدث هناك ، فكتمت ذلك لما خفت من عواقبه ، ولم أبد له شيئا من ذلك ، فقدم بغداد .

وكان بينه وبين صالح بن أحمد بن حنبل حسن ، فكلم صالحا أن يتلطف له في الاستئذان على أبيه ، فأتى صالح أباه ، فقال : رجل سألني أن يأتيك ، فقال : ما اسمه ؟ قال : داود . قال : من أين هو ؟ قال : من أصبهان . فكان صالح يروغ عن تعريفه ، فما زال الإمام أحمد يفحص ، حتى فطن به ، فقال : هذا قد كتب إلى محمد بن يحيى في أمره أنه زعم أن القرآن محدث ، فلا يقربني . فقال : يا أبه ! إنه ينتفي من هذا وينكره . فقال : محمد بن يحيى أصدق منه ، لا تأذن له .

[ ص: 100 ] قال أبو عبد الله المحاملي : رأيت داود بن علي يصلي ، فما رأيت مسلما يشبهه في حسن تواضعه .

وقد كان محمد بن جرير الطبري يختلف إلى داود بن علي مدة ، ثم تخلف عنه ، وعقد لنفسه مجلسا ، فأنشأ داود يتمثل : فلو أني بليت بهاشمي خؤولته بنو عبد المدان

صبرت على أذاه لي ولكن تعالي فانظري بمن ابتلاني

قال أحمد بن كامل القاضي : أخبرني أبو عبد الله الوراق : أنه كان يورق على داود بن علي ، وأنه سمعه يسأل عن القرآن ، فقال : أما الذي في اللوح المحفوظ : فغير مخلوق ، وأما الذي هو بين الناس : فمخلوق .

قلت : هذه التفرقة والتفصيل ما قالها أحد قبله ، فيما علمت ، وما زال المسلمون على أن القرآن العظيم كلام الله ، ووحيه وتنزيله ، حتى أظهر المأمون القول : بأنه مخلوق ، وظهرت مقالة المعتزلة ، فثبت الإمام أحمد بن حنبل ، وأئمة السنة على القول : بأنه غير مخلوق ، إلى أن ظهرت مقالة حسين بن علي الكرابيسي وهي : أن القرآن كلام الله غير مخلوق ، وأن ألفاظنا به مخلوقة ، فأنكر الإمام أحمد ذلك ، وعده بدعة ، وقال : من قال : لفظي بالقرآن مخلوق ، يريد به القرآن ، فهو جهمي . وقال أيضا : من [ ص: 101 ] قال : لفظي بالقرآن غير مخلوق فهو مبتدع . فزجر عن الخوض في ذلك من الطرفين .

وأما داود فقال : القرآن محدث . فقام على داود خلق من أئمة الحديث ، وأنكروا قوله وبدعوه ، وجاء من بعده طائفة من أهل النظر ، فقالوا : كلام الله معنى قائم بالنفس ، وهذه الكتب المنزلة دالة عليه ، ودققوا وعمقوا ، فنسأل الله الهدى واتباع الحق ، فالقرآن العظيم ، حروفه ومعانيه وألفاظه كلام رب العالمين ، غير مخلوق ، وتلفظنا به وأصواتنا به من أعمالنا المخلوقة ، قال النبي -صلى الله عليه وسلم- : زينوا القرآن بأصواتكم ولكن لما كان الملفوظ لا يستقل إلا بتلفظنا ، والمكتوب لا ينفك عن كتابة ، والمتلو لا يسمع إلا بتلاوة تال ، صعب فهم المسألة ، وعسر إفراز اللفظ الذي هو الملفوظ من اللفظ الذي يعنى به التلفظ ، فالذهن يعلم الفرق بين هذا وبين هذا ، والخوض في هذا خطر . نسأل الله السلامة في الدين . وفي المسألة بحوث طويلة ، الكف عنها أولى ، ولا سيما في هذه الأزمنة المزمنة .

[ ص: 102 ] قال أبو العباس ثعلب : كان داود بن علي عقله أكبر من علمه .

وقال قاسم بن أصبغ الحافظ : ذاكرت ابن جرير الطبري ، وابن سريج في كتاب ابن قتيبة في الفقه ، فقالا : ليس بشيء ، فإذا أردت الفقه ، فكتب أصحاب الفقه ، كالشافعي ، وداود ، ونظرائهما . ثم قالا : ولا كتب أبي عبيد في الفقه ، أما ترى كتابه في " الأموال " ، مع أنه أحسن كتبه ؟

وقال ابن حزم : كان داود عراقيا ، كتب ثمانية عشر ألف ورقة ، ومن أصحابه : أبو الحسن عبد الله بن أحمد بن رويم ، وأبو بكر بن النجار ، وأبو الطيب محمد بن جعفر الديباجي ، وأحمد بن مخلد الإيادي ، وأبو سعيد الحسن بن عبيد الله ، صاحب التصانيف ، وأبو بكر محمد بن أحمد الدجاجي ، وأبو نصر السجستاني ثم سرد أسماء عدة من تلامذته .

أخبرنا عمر بن عبد المنعم عن أبي اليمن الكندي ، أخبرنا علي بن عبد السلام ، أخبرنا أبو إسحاق الفقيه ، في " طبقات الفقهاء " له ، قال : ذكر فقهاء بغداد ، ومنهم : أبو سليمان داود بن علي بن خلف الأصبهاني ، ولد في سنة اثنتين ومائتين ومات سنة سبعين ومائتين .

أخذ العلم عن : إسحاق ابن راهويه ، وأبي ثور ; وكان زاهدا متقللا وقيل : إنه كان في مجلسه أربعمائة صاحب طيلسان أخضر ، وكان من المتعصبين للشافعي ، [ ص: 103 ] وصنف كتابين في فضائله والثناء عليه ، وانتهت إليه رئاسة العلم ببغداد ، وأصله من أصفهان ، ومولده بالكوفة ، ومنشؤه ببغداد ، وقبره بها في الشونيزية .

وقال أبو بكر الخلال : أخبرنا الحسين بن عبد الله ، قال : سألت المروذي عن قصة داود الأصبهاني ، وما أنكر عليه أبو عبد الله ، فقال : كان داود خرج إلى خراسان ، إلى ابن راهويه ، فتكلم بكلام شهد عليه أبو نصر بن عبد المجيد وآخر ، شهدا عليه أنه قال : القرآن محدث .

فقال لي أبو عبد الله : من داود بن علي ؟ لا فرج الله عنه . قلت : هذا من غلمان أبي ثور . قال : جاءني كتاب محمد بن يحيى النيسابوري أن داود الأصبهاني قال ببلدنا : إن القرآن محدث . قال المروذي : حدثني محمد بن إبراهيم النيسابوري ، أن إسحاق ابن راهويه لما سمع كلام داود في بيته ، وثب على داود وضربه ، وأنكر عليه .

الخلال : سمعت أحمد بن محمد بن صدقة ، سمعت محمد بن الحسين بن صبيح ، سمعت داود الأصبهاني يقول : القرآن محدث ، ولفظي بالقرآن مخلوق .

وأخبرنا سعيد بن أبي مسلم : سمعت محمد بن عبدة يقول : دخلت إلى داود ، فغضب علي أحمد بن حنبل ، فدخلت عليه ، فلم يكلمني ، فقال له رجل : يا أبا عبد الله ! إنه رد عليه مسألة . قال : وما هي ؟ قال : [ ص: 104 ] قال : الخنثى إذا مات من يغسله ؟ قال داود : يغسله الخدم . فقال محمد بن عبدة : الخدم رجال ، ولكن ييمم ، فتبسم أحمد وقال : أصاب ، أصاب ، ما أجود ما أجابه !

قال محمد بن إسحاق النديم : لداود من الكتب : كتاب " الإيضاح " كتاب " الإفصاح " ، كتاب " الأصول " ، كتاب " الدعاوى " ، كتاب كبير في الفقه ، كتاب " الذب عن السنة والأخبار " أربع مجلدات ، كتاب " الرد علي أهل الإفك " ، " صفة أخلاق النبي " ، كتاب " الإجماع " ، كتاب " إبطال القياس " ، كتاب " خبر الواحد وبعضه موجب للعلم " ، كتاب " الإيضاح " ، خمسة عشر مجلدا ، كتاب " المتعة " ، كتاب " إبطال التقليد " ، كتاب " المعرفة " ، كتاب " العموم والخصوص " . وسرد أشياء كثيرة .

قلت : للعلماء قولان في الاعتداد ، بخلاف داود وأتباعه : فمن اعتد بخلافهم ، قال : ما اعتدادنا بخلافهم لأن مفرداتهم حجة ، بل لتحكى في الجملة ، وبعضها سائغ ، وبعضها قوي ، وبعضها ساقط ، ثم ما تفردوا به هو شيء من قبيل مخالفة الإجماع الظني ، وتندر مخالفتهم لإجماع قطعي .

ومن أهدرهم ، ولم يعتد بهم ، لم يعدهم في مسائلهم المفردة خارجين بها من الدين ، ولا كفرهم بها ، بل يقول : هؤلاء في حيز العوام ، أو هم كالشيعة في الفروع ، ولا نلتفت إلى أقوالهم ، ولا ننصب معهم الخلاف ، ولا نعتني بتحصيل كتبهم ، ولا ندل مستفتيا من العامة عليهم . وإذا تظاهروا [ ص: 105 ] بمسألة معلومة البطلان ، كمسح الرجلين ، أدبناهم ، وعزرناهم ، وألزمناهم بالغسل جزما .

قال الأستاذ أبو إسحاق الإسفراييني : قال الجمهور : إنهم -يعني نفاة القياس- لا يبلغون رتبة الاجتهاد ، ولا يجوز تقليدهم القضاء .

ونقل الأستاذ أبو منصور البغدادي ، عن أبي علي بن أبي هريرة ، وطائفة من الشافعية ، أنه لا اعتبار بخلاف داود ، وسائر نفاة القياس ، في الفروع دون الأصول .

وقال إمام الحرمين أبو المعالي : الذي ذهب إليه أهل التحقيق : أن منكري القياس لا يعدون من علماء الأمة ، ولا من حملة الشريعة ، لأنهم معاندون ، مباهتون فيما ثبت استفاضة وتواترا ، لأن معظم الشريعة صادر عن الاجتهاد ، ولا تفي النصوص بعشر معشارها ، وهؤلاء ملتحقون بالعوام .

قلت : هذا القول من أبي المعالي أداه إليه اجتهاده ، وهم فأداهم اجتهادهم إلى نفي القول بالقياس ، فكيف يرد الاجتهاد بمثله ، وندري بالضرورة أن داود كان يقرئ مذهبه ، ويناظر عليه ، ويفتي به في مثل بغداد ، وكثرة الأئمة بها وبغيرها ، فلم نرهم قاموا عليه ، ولا أنكروا فتاويه ولا تدريسه ، ولا سعوا في منعه من بثه ، وبالحضرة مثل إسماعيل القاضي ، شيخ المالكية ، وعثمان بن بشار الأنماطي ، شيخ الشافعية ، والمروذي ، شيخ الحنبلية ، وابني الإمام أحمد ، وأبي العباس أحمد بن محمد البرتي شيخ الحنفية ، وأحمد بن أبي عمران القاضي ، ومثل عالم [ ص: 106 ] بغداد إبراهيم الحربي . بل سكتوا له ، حتى لقد قال قاسم بن أصبغ : ذاكرت الطبري -يعني ابن جرير - وابن سريج ، فقلت لهما : كتاب ابن قتيبة في الفقه أين هو عندكما ؟ قالا : ليس بشيء ، ولا كتاب أبي عبيد ، فإذا أردت الفقه فكتب الشافعي ، وداود ، ونظرائهما .

ثم كان بعده ابنه أبو بكر ، وابن المغلس ، وعدة من تلامذة داود ، وعلى أكتافهم مثل : ابن سريج ، شيخ الشافعية ، وأبي بكر الخلال ، شيخ الحنبلية ، وأبي الحسن الكرخي شيخ الحنفية ، وكان أبو جعفر الطحاوي بمصر . بل كانوا يتجالسون ويتناظرون ، ويبرز كل منهم بحججه ، ولا يسعون بالداودية إلى السلطان . بل أبلغ من ذلك ، ينصبون معهم الخلاف ، في تصانيفهم قديما وحديثا .

وبكل حال ، فلهم أشياء أحسنوا فيها ، ولهم مسائل مستهجنة ، يشغب عليهم بها ، وإلى ذلك يشير الإمام أبو عمرو ابن الصلاح ، حيث يقول : الذي اختاره الأستاذ أبو منصور ، وذكر أنه الصحيح من المذهب ، أنه يعتبر خلاف داود . ثم قال ابن الصلاح : وهذا الذي استقر عليه الأمر آخرا ، كما هو الأغلب الأعرف من صفو الأئمة المتأخرين ، الذين أوردوا مذهب داود في مصنفاتهم المشهورة ، كالشيخ أبي حامد الإسفراييني ، والماوردي ، والقاضي أبي الطيب ، فلولا اعتدادهم به لما ذكروا مذهبه في مصنفاتهم المشهورة .

قال : وأرى أن يعتبر قوله إلا فيما خالف فيه القياس الجلي ، وما أجمع عليه القياسيون من أنواعه ، أو بناه على أصوله التي قام الدليل القاطع على بطلانها ، فاتفاق من سواه إجماع منعقد ، كقوله في التغوط في الماء [ ص: 107 ] الراكد وتلك المسائل الشنيعة ، وقوله : لا ربا إلا في الستة المنصوص عليها فخلافه في هذا أو نحوه غير معتد به ، لأنه مبني على ما يقطع ببطلانه .

قلت : لا ريب أن كل مسألة انفرد بها ، وقطع ببطلان قوله فيها ، فإنها هدر ، وإنما نحكيها للتعجب ، وكل مسألة له عضدها نص ، وسبقه إليها صاحب أو تابع ، فهي من مسائل الخلاف ، فلا تهدر .

وفي الجملة ، فداود بن علي بصير بالفقه ، عالم بالقرآن ، حافظ للأثر ، رأس في معرفة الخلاف ، من أوعية العلم ، له ذكاء خارق ، وفيه [ ص: 108 ] دين متين . وكذلك في فقهاء الظاهرية جماعة لهم علم باهر ، وذكاء قوي ، فالكمال عزيز ، والله الموفق .

ونحن : فنحكي قول ابن عباس في المتعة وفي الصرف وفي إنكار العول وقول طائفة من الصحابة في ترك الغسل من الإيلاج وأشباه ذلك ، ولا نجوز لأحد تقليدهم في ذلك .

قال ابن كامل : مات داود في شهر رمضان سنة سبعين ومائتين .

التالي السابق


الخدمات العلمية