صفحة جزء
ابن الجصاص

الصدر الرئيس ، ذو الأموال ، أبو عبد الله ، الحسين بن عبد الله بن الجصاص ، البغدادي الجوهري التاجر الصفار .

قال ابن طولون : لا يباع لنا شيء إلا على يد ابن الجصاص .

وعنه قال : كنت يوما في الدهليز ، فخرجت قهرمانة معها مائة حبة جوهر ، تساوي الحبة ألف دينار ، فقالت : نريد أن تخرط هذا الحب حتى يصغر ، فأخذته منها مسرعا ، وجمعت سائر نهاري من الحب بمائة ألف درهم ، الواحدة بألف ، وأتيت به القهرمانة ، وقلت : قد خرطنا هذا .

[ ص: 470 ] يعني : فربح فيه -في يوم- بضعة وتسعين ألف دينار ولما تزوج المعتضد بالله بقطر الندى بنت خمارويه صاحب مصر ، نفذها أبوها مع ابن الجصاص في جهاز عظيم وتحف وجواهر تتجاوز الوصف ، فنصحها ابن الجصاص وقال : هذا شيء كثير ، والأوقات تتغير ، فلو أودعه من هذا؟ فقالت : نعم يا عم . وأودعته نفائس ثمينة ، فاتفق أنها أدخلت على المعتضد ، وكرمت عليه ، وحملت منه ، ثم ماتت في النفاس بغتة ، وزادت أموال ابن الجصاص إلى الغاية ، ونظرت إليه الأعين ، فلما كان في سنة اثنتين وثلاثمائة قبض عليه المقتدر ، وكبست داره ، وأخذوا له من الذهب والجوهر ما قوم بأربعة آلاف ألف دينار .

وقال أبو الفرج في " المنتظم " أخذوا منه ما مقداره ستة عشر ألف ألف دينار عينا ، وورقا ، وخيلا ، وقماشا ، فقيل : كان جل ماله من بنت خمارويه .

وحكى بعضهم قال : دخلت دار ابن الجصاص والقباني بين يديه يقبن سبائك الذهب .

قال التنوخي حدثني أبو الحسين بن عياش أنه سمع جماعة من ثقات الكتاب يقولون : إنهم حضروا مصادرة ابن الجصاص ، فكانت ستة آلاف ألف دينار ، هذا سوى ما أخذ من داره وبعدما بقي له .

قال التنوخي : لما صودر كان في داره سبعمائة مزملة خيزران .

ويحكى عنه بله وتغفيل ، مر به صديق ، فقال له : كيف أنت؟ فقال [ ص: 471 ] ابن الجصاص : الدنيا كلها محمومة . وكان قد حم . ونظر مرة في المرآة ، فقال لصاحبه : ترى لحيتي طالت؟ فقال : المرآة في يدك . قال : الشاهد يرى ما لا يرى الغائب .

ودخل يوما على الوزير ابن الفرات ، فقال : عندنا كلاب يحرموننا ننام . فقال الوزير : لعلهم جراء؟ قال : بل كل واحد في قدي وقدك .

ودعا فقال : حسبي الله وأنبياؤه وملائكته ، اللهم أعد من بركة دعائنا على أهل القصور في قصورهم ، وعلى أهل الكنائس في كنائسهم .

وفرغ من الأكل فقال : الحمد لله الذي لا يحلف بأعظم منه .

وكان مع الخاقاني في مركب وبيده كرة كافور ، فبصق في وجه الوزير ، وألقى الكافورة في دجلة ، ثم أفاق واعتذر ، وقال : إنما أردت أن أبصق في وجهك وألقيها في الماء فغلطت . فقال : كان كذلك يا جاهل .

قال التنوخي حدثنا جعفر بن ورقاء الأمير قال : اجتزت بابن الجصاص -وكان مصاهري- ، فرأيته على حوش داره حافيا حاسرا ، يعدو كالمجنون ، فلما رآني استحيى ، فقلت : ما لك؟ قال : يحق لي ، أخذوا مني أمرا عظيما ، فسلمته وقلت : ما بقي يكفي ; وإنما يقلق هذا القلق من يخاف الحاجة ، فاصبر حتى أبين لك غناك . قال : هات . قلت : أليس دارك هذه بآلتها وفرشها لك؟ وعقارك بالكرخ وضياعك؟ قال : بلى .

فما زلت أحاسبه حتى بلغ قيمة سبعمائة ألف دينار ، ثم قلت : واصدقني عما سلم لك ، فحسبناه ، فإذا هو بثلاثمائة ألف دينار ، قلت : فمن له ألف [ ص: 472 ] ألف دينار ببغداد؟ ! هذا وجاهك قائم ، فلم تغتم؟ فسجد لله وحمده ، وبكى ، وقال : أنقذني الله بك ، ما عزاني أحد بأنفع من تعزيتك ما أكلت شيئا منذ ثلاث ، فأقم عندي لنأكل ونتحدث . فأقمت عنده يومين .

قال التنوخي اجتمعت بأبي علي -ولد ابن الجصاص - فسألته عما يحكى عن أبيه من أن الإمام قرأ : ولا الضالين فقال : إي لعمري . بدلا من آمين .

وأنه أراد أن يقبل رأس الوزير ، فقال : إن فيه دهنا . فقال : أقبله ولو كان فيه خرا .

وأنه وصف مصحفا عتيقا فقال : كسروي؟ فقال غالبه كذب ، وما كانت فيه سلامة تخرجه إلى هذا ، كان من أدهى الناس ، ولكن كان يفعل بحضرة الوزير ، وكان يحب أن يصور نفسه ببله ليأمنه الوزراء لكثرة خلوته بالخلفاء . فأنا أحدثك بحديث : حدثني أبي أن ابن الفرات لما وزر ، قصدني قصدا قبيحا كان في نفسه علي ، وبالغ ، وكان عندي ذلك الوقت سبعة آلاف ألف دينار ، عينا وجوهرا ، ففكرت ، فوقع لي الرأي في السحر ، فمضيت إلى داره ، فدققت ، فقال البوابون : ما ذا وقت وصول إليه؟

فقلت : عرفوا الحجاب أني جئت لمهم ، فعرفوهم ، فخرج إلي حاجب فقال : إلى ساعة . فقلت : الأمر أهم من ذلك ، فنبه الوزير ، ودخلت وحول سريره خمسون نفسا حفظة وهو مرتاع ، فرفعني [ ص: 473 ] وقال : ما الأمر؟ قلت : خير ، هو أمر يخصني ، فسكن ، وصرف من حوله ، فقلت : إنك قصدتني وشرعت يا هذا تؤذيني وتتفرغ لي ، وتعمل في هلاكي ، ولعمري لقد أسأت في خدمتك ، وقد جهدت في استصلاحك ، فلم يغن ، وليس شيء أضعف من الهر ، وإذا عاث في دكان الفامي فظفر به ولزه ، وثب وخمش ، فإن صلحت لي وإلا -والله- لأقصدن الخليفة ، وأحمل إليه ألفي ألف دينار ، وأقول : سلم ابن الفرات إلى فلان وأعطه الوزارة ، فيفعل ويعذبك ويأخذ منك في قدرها ، ويعظم قدري بعزلي وزيرا وإقامتي وزيرا .

فقال : يا عدو الله ، وتستحل هذا؟ قلت : أنت أحوجتني ، وإلا فاحلف لي الساعة على إنصافي ، فقال : وتحلف أنت كذلك : وعلي حسن الطاعة والمؤازرة . قلت : نعم ، فقال : لعنك الله يا إبليس ، لقد سحرتني . وأخذ دواة ، وعملنا نسخة اليمين ، وحلفته أولا ، ثم قال : يا أبا عبد الله ، لقد عظمت في نفسي ، ما كان المقتدر عنده فرق بين كفاءتي وبين أصغر كتابي مع الذهب ، فاكتم ما جرى . فقلت : سبحان الله! ثم قال : تعال غدا ، فسترى ما أعاملك به . فعدت إلى داري . وما طلع الفجر . فقال ابنه : أفهذا فعل من يحكى عنه تلك الحكايات؟ قلت : لا .

قلت : لعل بهذه الحركة أضمر له الوزير الشر ، فنسأل الله السلامة . توفي ابن الجصاص في شوال سنة خمس عشرة وثلاثمائة وقد أسن .

التالي السابق


الخدمات العلمية