صفحة جزء
الحاكم

صاحب مصر ، الحاكم بأمر الله ، أبو علي منصور بن العزيز نزار بن المعز معد بن المنصور إسماعيل بن القائم محمد بن المهدي ، العبيدي المصري الرافضي ، بل الإسماعيلي الزنديق المدعي الربوبية .

مولده في سنة خمس وسبعين وثلاثمائة .

وأقاموه في الملك بعد أبيه ، وله إحدى عشرة سنة ، فحكى هو ، قال : ضمني أبي وقبلني وهو عريان ، وقال : امض فالعب ، فأنا في عافية . قال : ثم توفي ، فأتاني برجوان وأنا على جميزة في الدار ، [ ص: 174 ] فقال : انزل ويحك ، الله الله فينا . فنزلت ، فوضع العمامة بالجوهر على رأسي ، وقبل الأرض ، ثم قال : السلام عليك يا أمير المؤمنين ، وخرج بي إلى الناس ، فقبلوا الأرض ، وسلموا علي بالخلافة .

قلت : وكان شيطانا مريدا جبارا عنيدا ، كثير التلون ، سفاكا للدماء ، خبيث النحلة ، عظيم المكر جوادا ممدحا ، له شأن عجيب ، ونبأ غريب ، كان فرعون زمانه ، يخترع كل وقت أحكاما يلزم الرعية بها ، أمر بسب الصحابة -رضي الله عنهم- ، وبكتابة ذلك على أبواب المساجد والشوارع . وأمر عماله بالسب ، وبقتل الكلاب في سنة خمس وتسعين وثلاثمائة ، وأبطل الفقاع والملوخيا ، وحرم السمك الذي لا فلوس عليه ووقع ببائع لشيء من ذلك فقتلهم .

وفي سنة اثنتين وأربعمائة حرم بيع الرطب ، وجمع منه شيئا عظيما فأحرقه ، ومنع من بيع العنب ، وأباد الكروم . وأمر النصارى بتعليق صليب في رقابهم زنته رطل وربع بالدمشقي ، وألزم اليهود أن يعلقوا في أعناقهم قرمية في زنة الصليب إشارة إلى رأس العجل الذي عبدوه ، وأن تكون عمائمهم سودا ، وأن يدخلوا الحمام بالصليب وبالقرمية ، ثم أفرد لهم حمامات ، وأمر في العام بهدم كنيسة قمامة وبهدم كنائس مصر .

[ ص: 175 ] فأسلم عدة ، ثم إنه نهى عن تقبيل الأرض ، وعن الدعاء له في الخطب وفي الكتب ، وجعل بدله السلام عليه .

وقيل : إن ابن باديس أمير المغرب بعث ينقم عليه أمورا ، فأراد أن يستميله ، فأظهر التفقه ، وحمل في كمه الدفاتر ، وطلب إلى عنده فقيهين ، وأمرهما بتدريس فقه مالك في الجامع ، ثم تغير ، فقتلهما صبرا .

وأذن للنصارى الذين أكرههم في العود إلى الكفر .

وفي سنة 404 نفى المنجمين من بلاده .

ومنع النساء من الخروج من البيوت ، فأحسن وأبطل عمل الخفاف لهن جملة ، وما زلن ممنوعات من الخروج سبع سنين وسبعة أشهر .

ثم بعد مدة أمر بإنشاء ما هدم من الكنائس ، وبتنصر من أسلم .

وأنشأ الجامع بالقاهرة ، وكان العزيز ابتدأه .

وقد خرج عليه أبو ركوة الوليد بن هشام العثماني الأندلسي بأرض برقة ، والتف عليه البربر ، واستفحل أمره ، فجهز الحاكم لحربه جيشا ، [ ص: 176 ] فانتصر أبو ركوة وتملك وجرت خطوب ، ثم أسر وقتل من جنده نحو من سبعين ألفا ، وحمل إلى الحاكم في سنة 397 ، فذبحه صبرا .

وقد حبب في الآخر إلى الحاكم العزلة ، وبقي يركب وحده في الأسواق على حمار ، ويقيم الحسبة بنفسه ، وبين يديه عبد ضخم فاجر ، فمن وجب عليه تأديب ، أمر العبد أن يولج فيه ، والمفعول به يصيح .

وقيل : إنه أراد ادعاء الإلهية ، وشرع في ذلك ، فكلمه الكبراء ، وخوفوه من وثوب الناس ، فتوقف .

وفي سنة إحدى وأربعمائة ، أقام الدعوة قرواش بن مقلد بالموصل للحاكم ، فأعطى الخطيب نسخة بما يقوله : الحمد لله الذي انجلت بنوره غمرات الغصب ، وانقهرت بقدرته أركان النصب ، وأطلع بأمره شمس الحق من الغرب ، ومحا بعدله جور الظلمة ، فعاد الحق إلى نصابه ، الباين بذاته ، المنفرد بصفاته ، لم يشبه الصور فتحتويه الأمكنة ، ولم تره العيون فتصفه .

ثم صلى على النبي -صلى الله عليه وسلم- ، ثم على أمير المؤمنين ، وسيد الوصيين ، وعماد العلم ، وعلى أغصانه البواسق . اللهم وصل على الإمام المهدي بك ، والذي جاء بأمرك ، وصل على القائم بأمرك ، والمنصور بنصرك ، وعلى المعز لدينك ، المجاهد في سبيلك ، وصل على العزيز بك ، واجعل نوامي صلواتك على مولانا إمام الزمان ، وحصن [ ص: 177 ] الإيمان ، صاحب الدعوة العلوية عبدك ووليك أبي علي الحاكم بأمرك أمير المؤمنين .

وأقيمت الدعوة على يد قرواش بالكوفة وبالمدائن .

ثم استمال القادر بالله قرواشا ، ونفذ إليه تحفا بثلاثين ألف دينار ، فأعاد له الخطبة .

واستحوذت العرب على الشام ، وحاصروا القلاع .

وتم القحط الشديد بنيسابور ونواحيها ، حتى هلك مائة ألف أو يزيدون ، وأكلت الجيف ولحوم الآدميين .

وفي الأربعمائة وبعدها كانت الأندلس تغلي بالحروب والقتال على الملك .

وأنشأ دارا كبيرة ملأها قيودا وأغلالا ، وجعل لها سبعة أبواب ، وسماها جهنم ، فكان من سخط عليه أسكنه فيها .

ولما أمر بحريق مصر واستباحها بعث خادمه ليشاهد الحال ، فلما رجع قال : كيف رأيت ؟ قال : لو استباحها طاغية الروم ما زاد على ما رأيت . فضرب عنقه .

وفي سنة اثنتين وأربعمائة كتب ببغداد محضر يتضمن القدح في أنساب [ ص: 178 ] أصحاب مصر وعقائدهم وأنهم أدعياء ، وأن انتماءهم إلى الإمام علي باطل وزور ، وأن الناجم بمصر اليوم وسلفه كفار وفساق زنادقة ، وأنهم لمذهب الثنوية معتقدون ، عطلوا الحدود ، وأباحوا الفروج ، وسفكوا الدماء ، وسبوا الأنبياء ، وادعوا الربوبية ، فكتب خلق في المحضر منهم الشريف الرضي ، وأخوه المرتضى ، والقاضي أبو محمد بن الأكفاني ، والشيخ أبو حامد الإسفراييني ، وأبو محمد الكشفلي الفقيه ، والقدوري ، والصيمري ، وعدة .

وهرب من مصر ناظر الديوان الوزير أبو القاسم بن المغربي إذ قتل الحاكم أباه وعمه ، وصار إلبا عليه يسعى في زوال ملكه وحسن لمفرج الطائي أمير العرب الخروج على الحاكم ، ففعل وقتل قائد جيشه ، وعزموا على مبايعة صاحب مكة العلوي ، وكاد أن يتم ذلك ثم تلاشى .

وفي سنة ثلاث وأربعمائة أخذ الوفد العراقي ، وغورت المياه ، وهلك بضعة عشر ألف مسلم ، ثم أخذ من العرب ببعض الثأر ، وقتل عدة .

وبعث الملك محمود بن سبكتكين كتابا إلى الخليفة بأنه ورد إليه من الحاكم كتاب يدعوه فيه إلى بيعته ، وقد خرق الكتاب وبصق عليه .

وفي سنة أربع جعل الحاكم ولي عهده ابن عمه عبد الرحيم بن [ ص: 179 ] إلياس وصلحت سيرته ، وأعتق أكثر مماليكه .

وفي هذا القرب تمت ملحمة عظيمة بين ملك الترك طغان بالمسلمين ، وبين عساكر الصين ، فدامت الحرب أياما ، وقتل من كفار الصين نحو من مائة ألف .

وفي سنة خمس ظفر الحاكم بنساء على فساد ، فغرقهن ، وكانت الغاسلة لا تخرج إلى امرأة إلا مع عدلين .

ومر القاضي مالك بن سعيد الفارقي ، فنادته صبية من روزنة أقسمت عليك بالحاكم أن تقف . فوقف فبكت ، وقالت : لي أخ يموت ، فبالله إلا ما حملتني إليه لأراه . فرق ، وبعث معها عدلين ، فأتت بيتا ، فدخلت ، والبيت لعاشقها ، فجاء الزوج ، فسأل الجيران ، فحدثوه ، فجاء إلى القاضي ، وصاح وقال : لا أخ لها ، وما أفارقك [ حتى تردها إلي ] .

فحار القاضي ، وطلع بالرجل إلى الحاكم ، ونادى العفو فأمره أن يركب مع الشاهدين ، فوجدوا المرأة والشاب في إزار واحد على خمار فحملا على هيئتهما . فسألها الحاكم فأحالت على الشاب ، وقال : بل هجمت علي ، وزعمت أنها بلا زوج ، فلفت في بارية وأحرقت ، وضرب الشاب ألف سوط .

وولي دمشق للحاكم عدة أمراء ما كان يدع النائب يستقر حتى يعزله .

[ ص: 180 ] وفي سنة سبع وأربعمائة سقطت قبة الصخرة .

وفيها استولى ابن سبكتكين على خوارزم .

وفيها قتل الدرزي الزنديق لادعائه ربوبية الحاكم .

وفي سنة تسع افتتح محمود مدينتين من الهند ، وجرت له حروب وملاحم عجيبة .

وفي شوال سنة إحدى عشرة وأربعمائة عدم الحاكم ، وكان الخلق في ضنك من العيش معه ، صالحهم وطالحهم ، وكانوا يدسون إليه الرقاع المختومة بسبه والدعاء عليه ; لأنه كان يدور في القاهرة على دابة ، ويتزهد .

وعملوا هيئة امرأة من كاغد بخف وإزار في يدها قصة ، فأخذها فرأى فيها العظائم ، فهم بالمرأة فإذا هي تمثال ، فطلب العرفاء والأمراء ، فأمر بالمضي إلى مصر ونهبها وإحراقها ، فذهبوا لذلك ، فقاتل أهلها ، ودافعوا واستمرت النار والحرب بين الرعية والعبيد ثلاثا ، وهو يركب حماره ، ويشاهد الحريق والضجة فيتوجع للناس ، ويقول : لعن الله من أمر بهذا .

فلما كان ثالث يوم اجتمع الكبراء والمشايخ إليه ، ورفعوا المصاحف وبكوا ، فزحمهم جنده الأتراك ، وانضموا إليهم ، وقاتلوا معهم .

وقال هو : ما أذنت لهم ، وقد أذنت لكم في الإيقاع بهم . وبعث في السر إلى العبيد : استمروا . وقواهم بالأسلحة ، وفهم [ ص: 181 ] ذلك الناس ، فبعثوا إليه يقولون : نحن نقصد أيضا القاهرة ، فأمر العبيد بالكف بعد أن أحرق من مصر ثلثها ، ونهب وأسر النصف ، ثم اشترى الناس حرمهم من العبيد بعد أن فجروا بهن .

وكان قوم من جهلة الغوغاء إذا رأوا الحاكم ، يقولون : يا واحد ، يا أحد ، يا محيي يا مميت ، ثم أوحش أخته ست الملك بمراسلات قبيحة أنها تزني ، فغضبت ، وراسلت الأمير ابن دواس ، وكان خائفا من الحاكم ، ثم ذهبت إليه سرا ، فقبل قدمها ، فقالت : جئت في أمر أحرس نفسي ونفسك . قال : أنا مملوكك . قالت : أنت ونحن على خطر من هذا ، وقد هتك الناموس الذي قرره آباؤنا ، وزاد به جنونه ، وعمل ما لا يصبر عليه مسلم ، وأنا خائفة أن يقتل فنقتل ، وتنقضي هذه الدولة أقبح انقضاء .

قال : صدقت ، فما الرأي ؟ قالت : تحلف لي وأحلف لك على الكتمان ، فتعاقدا على قتله ، وإقامة ابنه ، وتكون أنت أتابكه فاختر عبدين تعتمد عليهما على سرك . فأحضر عبدين شهمين أمينين ، فحلفتهما ، وأعطتهما ألف دينار ، وإقطاعا . وقالت : اكمنا له في الجبل ; فإنه غدا يصعد ، وما معه سوى ركابي ومملوك ، ثم ينفرد عنهما فدونكماه .

وكان الحاكم ينظر في النجوم ، وعليه قطع حينئذ متى نجا منه عاش نيفا وثمانين سنة .

فأعلم أمه ، وأعطاها مفتاح خزانة فيها ثلاثمائة ألف دينار ، وقال : حوليها إلى قصرك ، فبكت ، وقالت : إذا كنت تتصور هذا فلا تركب الليلة . قال : نعم . وكان يعس في رجال ، ففعل ذلك ونام ، فانتبه في الثلث الأخير ، وقال : إن لم أركب وأتفرج خرجت نفسي . وكان مسودنا ، فركب وصعد في الجبل ، ومعه صبي ، فشد عليه العبدان [ ص: 182 ] فقطعا يديه ، وشقا جوفه ، وحملاه في عباءة له إلى ابن دواس ، وقتلا الصبي ، وأتى به ابن دواس إلى أخته فدفنته في مجلس سرا وطلبت الوزير واستكتمته ، وأن يطلب ولي العهد عبد الرحيم ليسرع ، وكان بدمشق ، وجهزت أميرا في الطريق ليقبض على عبد الرحيم ، ويدعه بتنيس ، وفقد الحاكم ، وماج الخلق ، وقصدوا الجبل ، فما وقفوا له على أثر . وقيل : بل وجدوا حماره معرقبا وجبته بالدماء ، وقيل : قالت أخته : إنه أعلمني أنه يغيب في الجبل أسبوعا ، ورتبت ركابية يمضون ويعودون ، فيقولون : فارقناه بمكان كذا وكذا ، ووعدنا إلى يوم كذا .

وأقبلت ست الملك تدعو الأمراء وتستحلفهم ، وتعطيهم الذهب ، ثم ألبست علي بن الحاكم أفخر الثياب ، وقالت لابن دواس : المعول في قيام دولته عليك ، فقبل الأرض ، وأبرزت الصبي ، ولقبته الظاهر لإعزاز دين الله ، وألبسته تاج جدها المعز ، وأقامت النياحة على الحاكم ثلاثة أيام ، وجعلت القواعد كما في النفس ، وبالغت في تعظيم ابن دواس ، ثم رتبت له في الدهليز مائة ، فهبروه ، وقتلت جماعة ممن اطلع على سرها ، فعظمت هيبتها ، وماتت بعد ثلاث سنين .

وذكرنا في ترجمته أنه خرج من القصر فطاف ليلته ، ثم أصبح ، فتوجه إلى شرقي حلوان معه ركابيان ، فرد أحدهما مع تسعة من العرب ، ثم أمر الآخر بالانصراف ، فزعم أنه فارقه عند المقصبة فكان آخر العهد [ ص: 183 ] به ، وخرج الناس على رسمهم يلتمسون رجوعه ، معهم الجنائب ، ففعلوا ذلك جمعة .

ثم خرج في ثاني ذي القعدة مظفر صاحب المظلة ونسيم وعدة ، فبلغوا دير القصير وأمعنوا في الدخول في الجبل ، فبصروا بحماره الأشهب المسمى بقمر ، وقد ضربت يداه ، فأثر فيهما الضرب ، وعليه سرجه ولجامه ، فتتبعوا أثر الحمار ، فإذا أثر راجل خلفه ، وراجل قدامه ، فقصوا الأثر إلى بركة بشرقي حلوان ، فنزل رجل إليها ، فيجد فيها ثيابه وهي سبع جباب ، فوجدت مزررة ، وفيها آثار السكاكين ، فما شكوا في قتله .

وثم اليوم طائفة من طغام الإسماعيلية الذين يحلفون بغيبة الحاكم ، ما يعتقدون إلا أنه باق ، وأنه سيظهر . نعوذ بالله من الجهل .

وحلوان قرية نزهة على خمسة أميال من مصر ، كان بها قصر الأمير عبد العزيز بن مروان ، فولد له هناك عمر بن عبد العزيز فيما يقال .

[ ص: 184 ] وقد قتل الحاكم جماعة من الأمراء بلا ذنب ، وذبح قاضيين له .

وأما عبد الرحيم بن إلياس العبيدي ، فإن الحاكم ولاه عهده ، ثم بعثه على نيابة دمشق سنة عشر وأربعمائة ، فأقبل على الملاهي والخمور ، واضطرب العسكر عليه ، ووقع الحرب بدمشق والنهب ، وصادر هو الرعية ، فلما مات الحاكم قبض الأمراء على ولي العهد ، وسجنوه واغتالوه . وقيل : بل نحر نفسه في الحبس .

وسيرة الحاكم ، وعسفه تحتمل كراريس .

التالي السابق


الخدمات العلمية