صفحة جزء
ابن خفيف

الشيخ الإمام العارف الفقيه القدوة ، ذو الفنون أبو عبد الله محمد بن خفيف بن اسفكشار الضبي الفارسي الشيرازي ، شيخ الصوفية .

ولد قبل السبعين ومائتين وستين .

وحدث عن حماد بن مدرك وهو آخر أصحابه ، وعن محمد بن جعفر التمار ، والحسين المحاملي ، وجماعة .

وتفقه على أبي العباس بن سريج .

حدث عنه : أبو الفضل الخزاعي ، والحسن بن حفص الأندلسي ، وإبراهيم بن الخضر الشياح ، والقاضي أبو بكر بن الباقلاني ، ومحمد بن عبد الله بن باكويه .

قال السلمي : أقام بشيراز ، وأمه نيسابورية ، وهو اليوم شيخ المشايخ ، وتاريخ الزمان ، لم يبق للقوم أقدم منه ، ولا أتم حالا ، صحب [ ص: 343 ] رويم بن أحمد ، وابن عطاء ، ولقي الحلاج ، وهو من أعلم المشايخ بعلوم الظاهر ، متمسك بالكتاب والسنة ، فقيه شافعي .

أخبرنا أحمد بن إسحاق من لفظه ، أخبرنا عمر بن كرم ، أخبرنا عبد الأول بن عيسى ، أخبرنا عبد الوهاب بن أحمد ، أخبرنا محمد بن باكويه ، حدثنا محمد بن خفيف الضبي ، قال : قرئ على حماد بن مدرك ، وأنا أسمع ، حدثنا عمرو بن مرزوق ، حدثنا شعبة ، عن أبي عمران الجوني ، عن عبد الله بن الصامت ، عن أبي ذر قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : إذا صنعت قدرا فأكثر من مرقها ، وانظر أهل بيت من جيرانك فأصبهم بمعروف .

قال أبو عبد الرحمن السلمي : قال أحمد بن يحيى الشيرازي : ما أرى التصوف إلا يختم بأبي عبد الله بن خفيف ، وكان أبو عبد الله من أولاد الأمراء فتزهد حتى قال : كنت أجمع الخرق من المزابل ، وأغسلها ، وأصلح منه ما ألبسه ، وبقيت أربعين شهرا أفطر كل ليلة على كف باقلاء ، فافتصدت فخرج شبه ماء اللحم ، فغشي علي فتحير الفصاد ، وقال : ما رأيت جسدا بلا دم إلا هذا .

قال ابن باكويه : سمعت أبا أحمد الكبير : سمعت ابن خفيف يقول : نهبت في البادية ، وجعت حتى سقطت لي ثمانية أسنان ، وانتثر شعري ، ثم [ ص: 344 ] وقعت إلى فيد ، وأقمت بها حتى تماثلت ، وحججت ، ثم مضيت إلى بيت المقدس ، ودخلت الشام ، فنمت إلى جانب دكان صباغ ، وبات معي في المسجد رجل به قيام ، فكان يخرج ويدخل فلما أصبحنا صاح الناس ، وقالوا : نقب دكان الصباغ وسرقت ، فدخلوا المسجد ورأونا ، فقال المبطون : لا أدري ، غير أن هذا كان طول الليل يدخل ويخرج ، وما خرجت إلا مرة تطهرت ، فجروني وضربوني ، وقالوا : تكلم ، فاعتقدت التسليم ، فاغتاظوا من سكوتي ، فحملوني إلى دكان الصباغ ، وكان أثر رجل اللص في الرماد ، فقالوا : ضع رجلك فيه ، فكان على قدر رجلي ، فزادهم غيظا .

وجاء الأمير ، ونصبت القدر ، وفيها الزيت يغلي ، وأحضرت السكين ومن يقطع ، فرجعت إلى نفسي وإذا هي ساكنة ، فقلت : إن أرادوا قطع يدي سألتهم أن يعفوا عن يميني لأكتب بها ، وبقي الأمير يهددني ويصول ، فنظرت إليه فعرفته ، كان مملوكا لأبي ، فكلمني بالعربية وكلمته بالفارسية ، فنظر إلي وقال : أبو الحسين ، - وبها كنت أكنى في صباي - ، فضحكت ، فأخذ يلطم برأسه ووجهه ، واشتغل الناس به ، فإذا بضجة ، وأن اللصوص قد أخذوا ، فذهبت والناس ورائي وأنا ملطخ بالدماء ، جائع لي أيام لم آكل ، فرأتني عجوز فقيرة ، فقالت : ادخل ، فدخلت ، ولم يرني الناس ، وغسلت وجهي ويدي ، فإذا الأمير قد أقبل يطلبني ، فدخل ومعه جماعة . وجر من منطقته سكينا ، وحلف بالله إن أمسكني أحد لأقتلن نفسي ، وضرب بيده رأسه ووجهه مائة صفعة حتى منعته أنا ، ثم اعتذر وجهد بي أن أقبل شيئا فأبيت وهربت ليومي ، فحدثت بعض المشايخ ، فقال : هذا عقوبة انفرادك . فما دخلت بلدا فيه فقراء إلا قصدتهم .

قال ابن باكويه : سمعت ابن خفيف ، - وقد سأله قاسم الإصطخري عن [ ص: 345 ] الأشعري - ، فقال : كنت مرة بالبصرة جالسا مع عمرو بن علويه على ساجة في سفينة نتذاكر في شيء ، فإذا بأبي الحسن الأشعري قد عبر وسلم علينا . وجلس ، فقال : عبرت عليكم أمس في الجامع ، فرأيتكم تتكلمون في شيء عرفت الألفاظ ولم أعرف المغزى ! فأحب أن تعيدوها علي ، قلت : وفي أي شيء كنا ؟ قال : في سؤال إبراهيم عليه السلام رب أرني كيف تحيي الموتى وسؤال موسى عليه السلام رب أرني أنظر إليك فقلت : نعم . قلنا : إن سؤال إبراهيم هو سؤال موسى ، إلا أن سؤال إبراهيم سؤال متمكن ، وسؤال موسى سؤال صاحب غلبة وهيجان ، فكان تصريحا ، وسؤال إبراهيم كان تعريضا ، وذلك أنه قال : أرني كيف تحيي الموتى فأراه كيفية المحيى ، ولم يره كيفية الإحياء ، لأن الإحياء صفته تعالى ، والمحيى قدرته ، فأجابه إشارة كما سأله إشارة ، إلا أنه قال في الآخر : واعلم أن الله عزيز فالعزيز : المنيع . فقال أبو الحسن : هذا كلام صحيح ، ثم إني مشيت مع أبي الحسن ، وسمعت مناظرته ، وتعجبت من حسن مناظرته حين أجابهم .

قال أبو العباس الفسوي : صنف شيخنا ابن خفيف من الكتب ما لم يصنفه أحد ، وانتفع به جماعة صاروا أئمة يقتدى بهم ، وعمر حتى عم نفعه البلدان .

قال أبو الفتح عبد الرحيم خادم ابن خفيف : سمعت الشيخ يقول : سألنا يوما أبو العباس ابن سريج بشيراز ونحن نحضر مجلسه للفقه ، فقال : أمحبة الله فرض أو لا ؟ فقلنا : فرض . قال : ما الدليل ؟ فما فينا من أجاب [ ص: 346 ] بشيء ، فسألناه ، فقال : قوله تعالى : قل إن كان آباؤكم وأبناؤكم إلى قوله : أحب إليكم من الله ورسوله الآية . قال : فتوعدهم الله على تفضيل محبتهم لغيره على محبته ، والوعيد لا يقع إلا على فرض لازم .

قال ابن باكويه : سمعت ابن خفيف يقول : كنت في بدايتي ربما أقرأ في ركعة واحدة عشرة آلاف قل هو الله أحد وربما كنت أقرأ في ركعة القرآن كله .

وروي عن ابن خفيف ، أنه كان به وجع الخاصرة ، فكان إذا أصابه أقعده عن الحركة ، فكان إذا نودي بالصلاة يحمل على ظهر رجل ، فقيل له : لو خففت على نفسك ؟ ! قال : إذا سمعتم حي على الصلاة ولم تروني في الصف فاطلبوني في المقبرة .

قال ابن باكويه : سمعت ابن خفيف يقول : ما وجبت علي زكاة الفطر أربعين سنة .

قال ابن باكويه : نظر أبو عبد الله بن خفيف يوما إلى ابن مكتوم وجماعة يكتبون شيئا ، فقال : ما هذا ؟ قالوا : نكتب كذا وكذا ، قال : اشتغلوا بتعلم شيء ، ولا يغرنكم كلام الصوفية ، فإني كنت أخبئ محبرتي في جيب مرقعي ، والورق في حجزة سراويلي ، وأذهب في الخفية إلى أهل العلم ، فإذا علموا بي خاصموني ، وقالوا : لا يفلح ، ثم احتاجوا إلي .

قلت : قد كان هذا الشيخ قد جمع بين العلم والعمل ، وعلو السند ، [ ص: 347 ] والتمسك بالسنن ، ومتع بطول العمر في الطاعة . يقال : إنه عاش مائة سنة وأربع سنين ، وانتقل إلى الله تعالى في ليلة الثالث من شهر رمضان سنة إحدى وسبعين وثلاثمائة والأصح أنه عاش خمسا وتسعين سنة ، وازدحم الخلق على سريره ، وكان أمرا عجيبا . وقيل : إنهم صلوا عليه نحوا من مائة مرة .

وفيها مات بجرجان الإمام أبو بكر الإسماعيلي ، والصالح أبو بكر أحمد بن محمد بن أحمد بن جميع الغساني الصيداوي والد صاحب " المعجم " ، وأبو عبد الله أحمد بن محمد بن سلمة المصري الخياش ، والحافظ أبو محمد الحسن بن أحمد بن صالح السبيعي بحلب ، والقاضي إبراهيم بن أحمد الميمذي ، الراوي عن محمد بن حيان المازني ، لكنه تالف ، وبشر بن محمد المزني الهروي ، ومقرئ الوقت أبو العباس الحسن بن سعيد بن جعفر العباداني المطوعي عن مائة عام ، والحسن بن علي الباد ، الشاهد له عن أبي شعيب الحراني .

ومفتي المغرب أبو سعيد ، وأبو نصر خلف بن عمر القيرواني المالكي ، وأبو الحسين عبد الله بن إبراهيم بن بيان الزبيبي البزاز عن ثلاث وتسعين سنة ، وشيخ المالكية بالقيروان أبو محمد عبد الله بن إسحاق بن التبان ، ورئيس الحنبلية أبو الحسن التميمي عبد العزيز بن الحارث ، والعلامة أبو زيد المروزي الزاهد ، والمحدث أبو بكر محمد بن إسحاق البغدادي الصفار ، وأبو بكر محمد بن خلف بن جيان - بجيم - البغدادي الخلال أحد الثقات ، وشاعر الأندلس أبو بكر يحيى بن هذيل المالكي .

التالي السابق


الخدمات العلمية