صفحة جزء
الطرطوشي

الإمام العلامة ، القدوة الزاهد ، شيخ المالكية أبو بكر محمد بن الوليد بن خلف بن سليمان بن أيوب الفهري الأندلسي الطرطوشي الفقيه ، عالم الإسكندرية ، وطرطوشة : هي آخر حد المسلمين من شمالي الأندلس ، ثم استولى العدو عليها من دهر وكان أبو بكر يعرف في وقته بابن أبي رندقه .

لازم القاضي أبا الوليد الباجي بسرقسطة ، وأخذ عنه مسائل الخلاف ، ثم حج ، ودخل العراق .

وسمع بالبصرة " سنن أبي داود " من أبي علي التستري وسمع [ ص: 491 ] ببغداد من قاضيها أبي عبد الله الدامغاني ، ورزق الله التميمي ، وأبي عبد الله الحميدي ، وعدة .

وتفقه أيضا عند أبي بكر الشاشي ، ونزل بيت المقدس مدة ، وتحول إلى الثغر وتخرج به أئمة .

قال ابن بشكوال : كان إماما عالما ، زاهدا ورعا ، دينا متواضعا ، متقشفا متقللا من الدنيا ، راضيا باليسير ، أخبرنا عنه القاضي أبو بكر بن العربي ، ووصفه بالعلم ، والفضل ، والزهد ، والإقبال على ما يعنيه ، قال لي : إذا عرض لك أمر دنيا وأمر آخرة ، فبادر بأمر الآخرة ، يحصل لك أمر الدنيا والأخرى .

[ ص: 492 ] وقال إبراهيم بن مهدي بن قلينا : كان شيخنا أبو بكر زهده وعبادته أكثر من علمه ، وحكى بعض العلماء أن أبا بكر الطرطوشي أنجب عليه نحو من مائتي فقيه مفتي ، وكان يأتي إلى الفقهاء وهم نيام ، فيضع في أفواههم الدنانير ، فيهبون ، فيرونها في أفواههم .

قال القاضي شمس الدين ابن خلكان : دخل الطرطوشي على الأفضل ابن أمير الجيوش بمصر ، فبسط تحته مئزره ، وكان إلى جانب الأفضل نصراني ، فوعظ الأفضل حتى أبكاه ثم أنشده :

يا ذا الذي طاعته قربة وحقه مفترض واجب     إن الذي شرفت من أجله
يزعم هذا أنه كاذب

وأشار إلى ذلك النصراني ، فأقام الأفضل النصراني من موضعه .

وقد صنف أبو بكر كتاب " سراج الملوك " للمأمون بن البطائحي [ ص: 493 ] الذي وزر بمصر بعد الأفضل ، وله مؤلف في طريقة الخلاف ، وكان المأمون قد نوه باسمه ، وبالغ في إكرامه .

قيل : كان مولده في سنة إحدى وخمسين وأربعمائة .

ودخل بغداد في حياة أبي نصر الزينبي ، وأظنه سمع منه ، وقال : رأيت بها آية في سنة ثمان وسبعين بعد العصر ، فسمعنا دويا عظيما ، وأقبل ظلام ، فإذا ريح لم أر مثلها ، سوداء ثخينة ، يبين لك جسمها ، فاسود النهار ، وذهبت آثاره ، وذهب أثر الشمس ، وبقينا كأننا في أشد ظلمة ، لا يبصر أحد يده ، وماج الناس ، ولم نشك أنها القيامة ، أو خسف ، أو عذاب قد نزل ، وبقي الأمر كذلك قدر ما ينضج الخبز ، ورجع السواد حمرة كلهب النار ، أو جمرا يتوقد ، فلم نشك حينئذ أنها نار أرسلها الله على العباد ، وأيسنا من النجاة ، ثم مكثت أقل من مكث الظلام ، وتجلت بحمد الله عن سلامة ، ونهب الناس بعضهم بعضا في الأسواق ، وخطفوا العمائم والمتاع ، ثم طلعت الشمس ، وبقيت ساعة إلى الغروب .

قلت : حدث عنه أبو طاهر السلفي ، والفقيه سلار بن المقدم ، وجوهر بن لؤلؤ المقرئ ، والفقيه صالح ابن بنت معافى المالكي ، وعبد الله بن عطاف الأزدي ، ويوسف بن محمد القروي الفرضي ، وعلي بن مهدي بن قلينا ، وأبو طالب أحمد المسلم اللخمي ، وظافر بن عطية ، وأبو الطاهر إسماعيل بن عوف ، وأبو محمد عبد الله بن عبد الرحمن العثماني ، وعبد المجيد بن دليل ، وآخرون .

[ ص: 494 ] وبالإجازة أبو طاهر الخشوعي وغيره ، وله مؤلف في تحريم الغناء ، وكتاب في الزهد ، وتعليقة في الخلاف ، ومؤلف في البدع والحوادث ، وبر الوالدين ، والرد على اليهود ، والعمد في الأصول ، وأشياء .

أنبأنا ابن علان عن الخشوعي عن الطرطوشي أنه كتب هذه الرسالة جوابا عن سائل سأله من الأندلس عن حقيقة أمر مؤلف " الإحياء " ، فكتب إلى عبد الله بن مظفر : سلام عليك ، فإني رأيت أبا حامد ، وكلمته ، فوجدته امرءا وافر الفهم والعقل ، وممارسة للعلوم ، وكان ذلك معظم زمانه ، ثم خالف عن طريق العلماء ، ودخل في غمار العمال ، ثم تصوف ، فهجر العلوم وأهلها ، ودخل في علوم الخواطر ، وأرباب القلوب ، ووساوس الشيطان ، ثم سابها ، وجعل يطعن على الفقهاء بمذاهب الفلاسفة ، ورموز الحلاج ، وجعل ينتحي عن الفقهاء والمتكلمين ، ولقد كاد أن ينسلخ من الدين .

قال الحافظ أبو محمد : إن محمد بن الوليد هذا ذكر في غير هذه [ ص: 495 ] الرسالة كتاب " الإحياء " . قال : وهو - لعمرو الله - أشبه بإماتة علوم الدين ، ثم رجعنا إلى تمام الرسالة .

قال : فلما عمل كتابه " الإحياء " ، عمد فتكلم في علوم الأحوال ، ومرامز الصوفية ، وكان غير أنيس بها ، ولا خبير بمعرفتها ، فسقط على أم رأسه ، فلا في علماء المسلمين قر ، ولا في أحوال الزاهدين استقر ، ثم شحن كتابه بالكذب على رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فلا أعلم كتابا على وجه بسيط الأرض أكثر كذبا على الرسول منه ، ثم شبكه بمذاهب الفلاسفة ، ورموز الحلاج ، ومعاني رسائل إخوان الصفا ، وهم يرون النبوة اكتسابا ، فليس النبي عندهم أكثر من شخص فاضل ، تخلق بمحاسن الأخلاق ، وجانب سفسافها ، وساس نفسه حتى لا تغلبه شهوة ، ثم ساق الخلق بتلك الأخلاق ، وأنكروا أن يكون الله يبعث إلى الخلق رسولا ، وزعموا أن المعجزات حيل ومخاريق ، ولقد شرف الله الإسلام ، وأوضح حججه ، وقطع العذر بالأدلة ، وما مثل من نصر الإسلام بمذاهب الفلاسفة ، والآراء المنطقية ، إلا كمن يغسل الثوب بالبول ، ثم يسوق الكلام سوقا يرعد فيه ويبرق ، ويمني ويشوق ، حتى إذا تشوفت له النفوس ، قال : هذا من علم المعاملة ، وما وراءه من علم المكاشفة لا يجوز تسطيره في الكتب ، ويقول : هذا من سر الصدر الذي نهينا عن إفشائه . وهذا فعل الباطنية وأهل الدغل والدخل في الدين يستقل الموجود ويعلق النفوس بالمفقود ، وهو تشويش لعقائد القلوب ، وتوهين لما عليه كلمة الجماعة ، فلئن كان الرجل يعتقد ما سطره ، لم يبعد تكفيره ، وإن كان لا يعتقده ، فما أقرب تضليله .

وأما ما ذكرت من إحراق الكتاب ، فلعمري إذا انتشر بين من لا [ ص: 496 ] معرفة له بسمومه القاتلة ، خيف عليهم أن يعتقدوا إذا صحة ما فيه ، فكان تحريقه في معنى ما حرقته الصحابة من صحف المصاحف التي تخالف المصحف العثماني ، وذكر تمام الرسالة .

قال ابن المفضل : توفي بالإسكندرية في جمادى الأولى سنة عشرين وخمسمائة رحمه الله .

وفيها مات أبو الوليد أحمد بن عبد الله بن طريف القرطبي ، وأبو الفتوح أحمد بن محمد بن محمد الغزالي الواعظ أخو الإمام أبي حامد ، والأمير قسيم الدولة آقسنقر البرسقي الذي استولى على الموصل وعلى حلب ، وأبو بحر سفيان بن العاص الأسدي بقرطبة ، وصاعد بن سيار الهروي الحافظ وأبو محمد بن عتاب القرطبي ، وقاضي الجماعة أبو الوليد بن رشد ، ومحمد بن بركات السعيدي راوي صحيح البخاري .

التالي السابق


الخدمات العلمية