صفحة جزء
المستنجد بالله

الخليفة أبو المظفر يوسف بن المقتفي لأمر الله محمد بن المستظهر بن المقتدي العباسي .

عقد له أبوه بولاية العهد في سنة سبع وأربعين ، وعمره يومئذ تسع وعشرون سنة .

فلما احتضر المقتفي رام طائفة عزل المستنجد ، وبعثت حظية المقتفي أم علي إلى الأمراء تعدهم وتمنيهم ليبايعوا ابنها علي بن المقتفي ، قالوا : [ ص: 413 ] كيف هذا مع وجود ولي العهد يوسف ؟ قالت : أنا أكفيكموه ، وهيأت جواري بسكاكين ليثبن عليه ، فرأى خويدم ليوسف الحركة ، ورأى بيد علي وأمه سيفين ، فبادر مذعورا إلى سيده ، وبعثت هي إلى يوسف : أن احضر موت أمير المؤمنين . فطلب أستاذ الدار ، ولبس درعا ، وشهر سيفه ، وأخذ معه جماعة من الحواشي ، والفراشين ، فلما مر بالجواري ضرب جارية بالسيف جرحها ، وتهارب الجواري ، وأخذ أخاه وأمه ، فحبسهما ، وأباد الجواري تغريقا وقتلا ، وتمكن . وأمه كرجية ، اسمها طاوس .

قال الدبيثي : كان يقول الشعر ، ونقش خاتمه : من أحب نفسه عمل لها .

قال ابن النجار : حكى ابن صفية أن المقتفي رأى ابنه يوسف في الحر ، فقال : أيش في فمك ؟ قال : خاتم يزدن عليه أسماء الاثني عشر ، وذلك يسكن العطش . قال : ويلك ، يريد يزدن أن يصيرك رافضيا ، سيد الاثني عشر الحسين رضي الله عنه ، ومات عطشان .

وللمستنجد :

عيرتني بالشيب وهو وقار ليتها عيرت بما هو عار     إن تكن شابت الذوائب مني
فالليالي تزينها الأقمار

نبأني جماعة عن ابن الجوزي ، حدثني الوزير ابن هبيرة ، حدثني المستنجد قال : رأيت رسول الله -صلى الله عليه وسلم- في النوم منذ خمس عشرة سنة ، فقال [ ص: 414 ] لي : يبقى أبوك في الخلافة خمسا وعشرين سنة . فكان كما قال ، فرأيته قبل موت أبي بأربعة أشهر ، فدخل بي من باب كبير ، ثم ارتفعنا إلى رأس جبل ، وصلى بي ركعتين ، وألبسني قميصا ، ثم قال لي : قل : اللهم اهدني فيمن هديت .

ثم قال ابن الجوزي أقر المستنجد أرباب الولايات ، وأزال المكوس والضرائب .

ونقل صاحب " الروضتين " أنه كان موصوفا بالعدل والرفق ، وأطلق المكوس بحيث إنه لم يترك بالعراق مكسا ، وكان شديدا على المفسدين ، سجن عوانيا كان يسعى بالناس مدة ، فبذل رجل فيه عشرة آلاف دينار ، قال المستنجد : فأنا أبذل عشرة آلاف دينار لتأتيني بآخر مثله أحبسه .

قال ابن الأثير في " كامله " كان المستنجد أسمر ، تام القامة ، طويل اللحية ، اشتد مرضه ، وكان قد خافه أستاذ الدار عضد الدولة بن رئيس الرؤساء وقايماز المقتفوي كبير الأمراء ، فواضعا الطبيب على أذيته ، فوصف له الحمام ، فامتنع لضعفه ، ثم أدخل الحمام ، وأغلق عليه ، فتلف ، هكذا سمعت غير واحد ممن يعلم الحال . قال : وقيل : إن الخليفة كتب إلى وزيره مع ابن صفية الطبيب يأمره بالقبض على قايماز وعضد الدولة وصلبهما ، فأرى ابن صفية الخط لعضد الدولة ، فاجتمع بقايماز ويزدن ، [ ص: 415 ] فاتفقوا على قتله ، فدخل إليه يزدن وآخر ، فحملاه إلى الحمام وهو يستغيث ، وأغلقاه عليه .

قلت : أول من بايع المستنجد عمه أبو طالب ، ثم أخوه أبو جعفر ، ثم ابن هبيرة ، وقاضي القضاة الدامغاني .

وفي سنة 55 قبض الأمراء بهمذان على سليمان شاه ، وملكوا أرسلان شاه ، ومات بمصر الفائز بالله ، وبايعوا العاضد .

وفي سنة 56 قتل بمصر الصالح وزيرها ، واستولى شاور ، وسافر للصيد المستنجد مرات ، والتقى صاحب أذربيجان والكرج ، فنصر الله ، وتملك نيسابور المؤيد أيبه ، واستناب مملوكه ينكز على بسطام ودامغان ، وتمكن ، وهزم الجيوش ، وهو من تحت أمر السلطان رسلان .

وفيها كسرت الفرنج نور الدين تحت حصن الأكراد ، ونجا هو بالجهد ، ونزل على بحيرة حمص ، وحلف لا يستظل بسقف حتى يأخذ بالثأر ، ثم التقاهم في سنة 59 فطحنهم ، وأسر ملوكهم ، وقتل منهم عشرة آلاف بحارم ثم جهز جيوشه مع أسد الدين منجد الشاور وانتصر ، وقتل ضده ضرغاما ، ثم استنجد بالفرنج ، فأقبلوا ، وضايقوا أسد الدين ببلبيس ، وافتتح نور الدين حارم وبانياس ، وضاع من يده خاتم بفص ياقوت يسمى الجبل ، ثم وجدوه .

وفيها أقبل صاحب قسطنطينية بجيشه محاربا لملك الروم قلج رسلان ، فنصر الله ، وأخذ المسلمون منهم حصونا .

[ ص: 416 ] وفي سنة 60 ولدت ببغداد بنت أبي العز الأهوازي أربع بنات جملة .

وفيها هاجت فتنة صماء بسبب العقائد بأصبهان ، ودام القتال بين العلماء أياما ، وقتل خلق كثير . قاله ابن الأثير .

وفي سنة 561 عملت الرافضة مأتم عاشوراء ، وبالغوا ، وسبوا الصحابة ، وخرجت الكرج ، وبدعوا في الإسلام ، وغزا نور الدين مرات .

وفي سنة 62 كان مسير شيركوه إلى مصر ثاني مرة في ألفين ، وحاصر مصر شهرين ، استنجد شاور بالفرنج ، فدخلوا من دمياط ، وحاربهم شيركوه ، وانتصر ، وقتلت ألوف من الفرنج ، وسار شيركوه ، واستولى على الصعيد ، وافتتح ولد أخيه صلاح الدين الإسكندرية ، ثم نازلته الفرنج ، وحاصروه بها أشهرا حتى رد شيركوه ، فهربت الفرنج عنها ، واستقر بمصر للفرنج شحنة وقطيعة مائة ألف دينار في العام ، وقدم شيركوه ، وأعطاه نور الدين حمص .

وفي سنة 564 غزو شيركوه مصر ثالث مرة ، وملكت الفرنج بلبيس ، ونازلوا القاهرة ، فذل لهم شاور ، وطلب الصلح على قطيعة ألف ألف دينار في العام ، فأجابه الطاغية مري إلى ذلك ، فعجل له مائة ألف دينار ، واستنجد بنور الدين ، وسود كتابه ، وجعل في طيه ذوائب النساء ، وواصل كتبه يحثه ، وكان في حلب ، فجهز عسكره ، واستخدم أسد الدين حتى قيل : كان في سبعين ألفا من بين فارس وراجل ، فتقهقر الفرنج لقدومه وذلوا ، ودخل القاهرة في ربيع الآخر ، وجلس في دست المملكة ، وخلع عليه العاضد خلع السلطنة ، وكتب له التقليد وعلامة العاضد بخطه : هذا عهد لم يعهد [ ص: 417 ] مثله لوزير ، فتقلد أمانة رآك أمير المؤمنين لها أهلا ، والحجة عليك عند الله بما أوضحه لك من مراشد سبله ، فخذ كتاب أمير المؤمنين بقوة ، واسحب ذيل الفخار بأن اعتزت بك بنوة النبوة ، واتخذ للفوز سبيلا ، ولا تنقضوا الأيمان بعد توكيدها وقد جعلتم الله عليكم كفيلا .

وقام شاور لضيافة الجيش ، فطلبوا منه النفقة ، فماطل ، ثم شد عليه أمراء ، فقبضوا عليه ، وذبح ، وحمل رأسه إلى العاضد ، ومات شيركوه بعد الولاية بشهرين .

قال العماد : أحرق شاور مصر ، وخاف عليها من الفرنج ، ودامت النار تعمل فيها أربعة وخمسين يوما .

وقلد العاضد منصب شيركوه لابن أخيه صلاح الدين ، فغضب عرب مصر وسودانها ، وتألبوا ، وأقبلوا في خمسين ألفا ، فكان المصاف بين القصرين يومين ، وراح كثير منهم تحت السيف ، وكانت الزلزلة العظمى بصقلية أهلكت أمما .

وفي سنة خمس وستين جاءت زلازل عظام بالشام ، ودكت القلاع ، وأفنت خلقا ، وحاصرت الفرنج دمياط خمسين يوما ، فعجزوا ، ورحلوا ، وأخذ نور الدين سنجار ، وتوجه إلى الموصل ، ورتب أمورها ، وبنى بها الجامع الأكبر ، وسار فحاصر الكرك ، ونصب عليها منجنيقين ، وجد في حصارها ، فأقبلت نجدة الفرنج ، فقصدهم نور الدين ، وحصدهم ، وتمكن بمصر صلاح الدين وذهب إليه أبوه ، فكان يوما مشهودا ، ركب العاضد بنفسه لتلقيه . قال صلاح الدين : ما رأيت أكرم من العاضد ، بعث [ ص: 418 ] إلى مدة مقام الفرنج على حصار دمياط ألف ألف دينار مصرية سوى الثياب وغيرها .

وقيل : إن المستنجد كان فيه عدل ورفق ، بطل مكوسا كثيرة .

قال ابن النجار : كان موصوفا بالفهم الثاقب ، والرأي الصائب ، والذكاء الغالب ، والفضل الباهر ، له نظم ونثر ، ومعرفة بالأسطرلاب ، توفي في ثامن ربيع الآخر سنة ست وستين وخمسمائة وقام بعده ابنه المستضيء .

قلت : الإمام إذا كان له عقل جيد ودين متين ، صلح به أمر الممالك فإن ضعف عقله ، وحسنت ديانته ، حمله الدين على مشاورة أهل الحزم ، فتسددت أموره ومشت الأحوال ، وإن قل دينه ، ونبل رأيه ، تعبت به البلاد والعباد .

وقد يحمله نبل رأيه على إصلاح ملكه ورعيته للدنيا لا للتقوى ، فإن نقص رأيه ، وقل دينه وعقله ، كثر الفساد ، وضاعت الرعية ، وتعبوا به ، إلا أن يكون فيه شجاعة وله سطوة وهيبة في النفوس ، فينجبر الحال .

فإن كان جبانا ، قليل الدين ، عديم الرأي ، كثير العسف ، فقد تعرض لبلاء عاجل ، وربما عزل وسجن إن لم يقتل ، وذهبت عنه الدنيا ، وأحاطت به خطاياه ، وندم - والله - حيث لا يغني الندم ، ونحن آيسون اليوم من وجود إمام راشد من سائر الوجوه .

فإن يسر الله للأمة بإمام فيه كثرة محاسن وفيه مساوئ قليلة ، فمن لنا به ، اللهم فأصلح الراعي والرعية ، وارحم عبادك ، ووفقهم ، وأيد سلطانهم ، وأعنه بتوفيقك .

التالي السابق


الخدمات العلمية