صفحة جزء
( بنيان الكعبة )

قال ابن إسحاق : فلما بلغ صلى الله عليه وسلم خمسا وثلاثين سنة اجتمعت [ ص: 64 ] قريش لبنيان الكعبة ، وكانوا يهمون بذلك ليسقفوها ويهابون هدمها ، وإنما كانت رضما فوق القامة ، فأرادوا رفعها وتسقيفها . وكان البحر قد رمى بسفينة إلى جدة فتحطمت ، فأخذوا خشبها وأعدوه لتسقيفها ، وكان بمكة نجار قبطي ، فتهيأ لهم في أنفسهم بعض ما يصلحها ، وكانت حية تخرج من بئر الكعبة التي كانت يطرح فيها ما يهدى لها كل يوم ، فتشرف على جدار الكعبة ، فكانت مما يهابون ، وذلك أنه كان لا يدنو منها أحد إلا احزألت وكشت وفتحت فاها ، فكانوا يهابونها ، فبينا هي يوما تشرف على جدار الكعبة بعث الله إليها طائرا فاختطفها ، فذهب بها ، قال : فاستبشروا بذلك ، ثم هابوا هدمها . فقال الوليد بن المغيرة : أنا أبدؤكم في هدمها ، فأخذ المعول وهو يقول : اللهم لم ترع ، اللهم لا نريد إلا خيرا . ثم هدم من ناحية الركنين ، وهدموا حتى بلغوا أساس إبراهيم -عليه السلام فإذا حجارة خضر أخذ بعضها ببعض . ثم بنوا فلما بلغ البنيان موضع الركن ، يعني الحجر الأسود ، اختصموا فيمن يضعه ، وحرصت كل قبيلة على ذلك حتى تحاربوا ومكثوا أربع ليال . ثم إنهم اجتمعوا في المسجد وتناصفوا فزعموا أن أبا أمية بن المغيرة ، وكان أسن قريش ، قال : اجعلوا بينكم فيما تختلفون أول من يدخل من باب المسجد ، ففعلوا ، فكان أول من دخل عليهم رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فلما رأوه قالوا : هذا الأمين رضينا به ، فلما انتهى إليهم أخبروه الخبر فقال : " هاتوا لي ثوبا " فأتوا به ، فأخذ الركن بيده فوضعه في الثوب ، ثم قال : " لتأخذ كل قبيلة بناحية من الثوب ، ثم ارفعوه جميعا " ، ففعلوا ، حتى إذا بلغوا به موضعه وضعه هو صلى الله عليه وسلم بيده وبنى عليه .

وقال ابن وهب ، عن يونس ، عن الزهري ، قال : لما بلغ رسول الله [ ص: 65 ] صلى الله عليه وسلم الحلم أجمرت امرأة الكعبة فطارت شرارة من مجمرتها في ثياب الكعبة فاحترقت ، فهدموها حتى إذا بنوها فبلغوا موضع الركن اختصمت قريش في الركن أي القبائل تضعه ؟ قالوا : تعالوا نحكم أول من يطلع علينا . فطلع عليهم رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو غلام عليه وشاح نمرة ، فحكموه ، فأمر بالركن فوضع في ثوب ، ثم أخذ سيد كل قبيلة بناحية من الثوب ، ثم ارتقى هو فرفعوا إليه الركن ، فكان هو يضعه ، ثم طفق لا يزداد على السن إلا رضا حتى دعوه الأمين ، قبل أن ينزل عليه وحي ، وطفقوا لا ينحرون جزورا إلا التمسوه فيدعو لهم فيها .

ويروى عن عروة ومجاهد وغيرهما : أن البيت بني قبل المبعث بخمس عشرة سنة .

وقال داود بن عبد الرحمن العطار : حدثنا ابن خثيم ، عن أبي الطفيل ، قال : قلت له : يا خال ، حدثني عن شأن الكعبة قبل أن تبنيها قريش . قال : كان برضم يابس ليس بمدر تنزوه العناق ، وتوضع الكسوة على الجدر ثم تدلى ، ثم إن سفينة للروم أقبلت ، حتى إذا كانت بالشعيبة انكسرت ، فسمعت بها قريش فركبوا إليها وأخذوا خشبها ، ورومي يقال له بلقوم نجار بان ، فلما قدموا مكة ، قالوا : لو بنينا بيت ربنا عز وجل فاجتمعوا لذلك ونقلوا الحجارة من أجياد الضواحي ، فبينا رسول الله صلى الله عليه وسلم ينقل إذ انكشفت نمرته ، فنودي : يا محمد عورتك ، فذلك أول ما نودي ، والله أعلم . فما رئيت له عورة بعد .

وقال أبو الحوص ، عن سماك بن حرب : إن إبراهيم صلى الله عليه وسلم بنى البيت -وذكر الحديث- إلى أن قال : فمر عليه الدهر فانهدم ، فبنته العمالقة ، فمر عليه الدهر فانهدم ، فبنته جرهم ، فمر عليه الدهر فانهدم فبنته [ ص: 66 ] قريش . وذكر في الحديث وضع النبي صلى الله عليه وسلم الحجر الأسود مكانه .

وقال يونس ، عن ابن إسحاق : حدثني عبد الله بن أبي بكر بن حزم ، عن عمرة ، عن عائشة ، قالت : ما زلنا نسمع أن إسافا ونائلة رجل وامرأة من جرهم زنيا في الكعبة فمسخا حجرين .

وقال موسى بن عقبة : إنما حمل قريشا على بناء الكعبة أن السيل كان يأتي من فوقها من فوق الردم الذي صنعوه فأخربه ، فخافوا أن يدخلها الماء ، وكان رجل يقال له مليح سرق طيب الكعبة ، فأرادوا أن يشيدوا بناءها وأن يرفعوا بابها حتى لا يدخلها إلا من شاءوا ، فأعدوا لذلك نفقة وعمالا .

وقال زكريا بن إسحاق : حدثنا عمرو بن دينار أنه سمع جابرا يقول : إن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان ينقل الحجارة للكعبة مع قريش وعليه إزار ، فقال له عمه العباس : يا ابن أخي لو حللت إزارك فجعلته على منكبك دون الحجارة ، ففعل ذلك ، فسقط مغشيا عليه ، فما رؤي بعد ذلك اليوم عريانا . متفق عليه . وأخرجاه أيضا من حديث ابن جريج .

وقال معمر ، عن عبد الله بن عثمان بن خثيم ، عن أبي الطفيل ، قال : لما بني البيت كان الناس ينقلون الحجارة والنبي صلى الله عليه وسلم معهم ، فأخذ الثوب فوضعه على عاتقه فنودي : " لا تكشف عورتك " فألقى الحجر ولبس ثوبه . رواه أحمد في " مسنده "

وقال عبد الرحمن بن عبد الله الدشتكي : حدثنا عمرو بن أبي قيس ، [ ص: 67 ] عن سماك ، عن عكرمة ، عن ابن عباس ، عن أبيه ، قال : كنت أنا وابن أخي ننقل الحجارة على رقابنا وأزرنا تحت الحجارة ، فإذا غشينا الناس اتزرنا فبينا هو أمامي خر على وجهه منبطحا ، فجئت أسعى وألقيت حجري ، وهو ينظر إلى السماء ، فقلت : ما شأنك ؟ فقام وأخذ إزاره وقال : " نهيت أن أمشي عريانا " فكنت أكتمها الناس مخافة أن يقولوا مجنون . رواه قيس بن الربيع بنحوه ، عن سماك .

وقال حماد بن سلمة ، عن داود بن أبي هند ، عن سماك بن حرب ، عن خالد بن عرعرة ، عن علي رضي الله عنه ، قال : لما تشاجروا في الحجر أن يضعه أول من يدخل من هذا الباب ، فكان أول من دخل النبي صلى الله عليه وسلم فقالوا : قد جاء الأمين .

مسلم الزنجي ، عن ابن أبي نجيح ، عن أبيه ، قال : جلس رجال من قريش فتذاكروا بنيان الكعبة ، فقالوا : كانت مبنية برضم يابس ، وكان بابها بالأرض ، ولم يكن لها سقف ، وإنما تدلى الكسوة على الجدر ، وتربط من أعلى الجدر من بطنها ، وكان في بطن الكعبة عن يمين الداخل جب يكون فيه ما يهدى للكعبة منذ زمن جرهم ، وذلك أنه عدا على ذلك الجب قوم من جرهم فسرقوا ما به ، فبعث الله تلك الحية فحرست الكعبة وما فيها خمسمائة سنة إلى أن بنتها قريش ، وكان قرنا الكبش معلقين ، في بطنها مع معاليق من حلية . إلى أن قال : حتى بلغوا الأساس الذي رفع عليه إبراهيم وإسماعيل القواعد ، فرأوا حجارة كأنها الإبل الخلف لا يطيق الحجر منها ثلاثون رجلا يحرك الحجر منها ، فترتج جوانبها ، قد تشبك بعضها ببعض ، فأدخل الوليد بن المغيرة عتلة بين إصبعين حجرين فانفلقت منه فلقة ، فأخذها رجل فنزت من يده [ ص: 68 ] حتى عادت في مكانها ، وطارت من تحتها برقة كادت أن تخطف أبصارهم ، ورجفت مكة بأسرها ، فأمسكوا . إلى أن قال : وقلت النفقة عن عمارة البيت ، فأجمعوا على أن يقصروا عن القواعد ويحجروا ما يقدرون ويتركون بقيته في الحجر ، ففعلوا ذلك وتركوا ستة أذرع وشبرا ، ورفعوا بابها وكسوها بالحجارة حتى لا يدخلها السيل ولا يدخلها إلا من أرادوا ، وبنوها بساف من حجارة وساف من خشب ، حتى انتهوا إلى موضع الركن فتنافسوا في وضعه . إلى أن قال : فرفعوها بمدماك حجارة ومدماك خشب ، حتى بلغوا السقف ، فقال لهم باقوم النجار الرومي : أتحبون أن تجعلوا سقفها مكنسا أو مسطحا ؟ قالوا : بل مسطحا . وجعلوا فيه ست دعائم في صفين ، وجعلوا ارتفاعها من ظاهرها ثمانية عشر ذراعا ، وقد كانت قبل تسعة أذرع ، وجعلوا درجة من خشب في بطنها يصعد منها إلى ظهرها ، وزوقوا سقفها وحيطانها من بطنها ودعائمها ، وصوروا فيها الأنبياء والملائكة والشجر ، وصوروا إبراهيم يستقسم بالأزلام ، وصوروا عيسى وأمه ، وكانوا أخرجوا ما في جب الكعبة من حلية ومال وقرني الكبش ، وجعلوه عند أبي طلحة العبدري ، وأخرجوا منها هبل ، فنصب عند المقام حتى فرغوا فأعادوا جميع ذلك ، ثم ستروها بحبرات يمانية .

وفي الحديث عن أبي نجيح ، عن أبيه ، عن حويطب بن عبد العزى وغيره : فلما كان يوم الفتح دخل رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى البيت ، فأمر بثوب فبل بماء وأمر بطمس تلك الصور ، ووضع كفيه على صورة عيسى وأمه وقال : " امحوا الجميع إلا ما تحت يدي " رواه الأزرقي . ابن جريج ، قال : سأل سليمان بن موسى الشامي عطاء بن أبي [ ص: 69 ] رباح ، وأنا أسمع : أدركت في البيت تمثال مريم وعيسى ؟ قال : نعم أدركت تمثال مريم مزوقا في حجرها عيسى قاعد ، وكان في البيت ستة أعمدة سواري ، وكان تمثال عيسى ومريم في العمود الذي يلي الباب ، فقلت لعطاء : متى هلك ؟ قال : في الحريق زمن ابن الزبير ، قلت : أعلى عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم تعني كان ؟ قال : لا أدري ، وإني لأظنه قد كان على عهده .

قال داود بن عبد الرحمن ، عن ابن جريج : ثم عاودت عطاء بعد حين فقال : تمثال عيسى وأمه في الوسطى من السواري .

قال الأزرقي : حدثنا داود العطار ، عم عمرو بن دينار ، قال : أدركت في الكعبة قبل أن تهدم تمثال عيسى وأمه ، قال داود : فأخبرني بعض الحجبة عن مسافع بن شيبة : أن النبي صلى الله عليه وسلم قال : " يا شيبة امح كل صورة إلا ما تحت يدي " قال : فرفع يده عن عيسى ابن مريم وأمه .

قال الأزرقي ، عن سعيد بن سالم : حدثني يزيد بن عياض بن جعدبة ، عن ابن شهاب : أن النبي صلى الله عليه وسلم دخل الكعبة وفيها صور الملائكة ، فرأى صورة إبراهيم فقال : " قاتلهم الله جعلوه شيخا يستقسم بالأزلام ، ثم رأى صورة مريم فوضع يده عليها فقال : امحوا ما فيها إلا صورة مريم " . ثم ساقه الأزرقي بإسناد آخر بنحوه ، وهو مرسل ، لكن قول عطاء وعمرو ثابت ، وهذا أمر لم نسمع به إلى اليوم .

أخبرنا سليمان بن حمزة ، قال : أخبرنا محمد بن عبد الواحد ، قال : أخبرنا محمد بن أحمد ، أن فاطمة بنت عبد الله أخبرتهم ، قالت : أخبرنا ابن بريدة ، قال : أخبرنا الطبراني ، قال : حدثنا إسحاق بن إبراهيم ، عن [ ص: 70 ] عبد الرزاق ، عن معمر ، عن ابن خثيم ، عن أبي الطفيل ، قال : كانت الكعبة في الجاهلية مبنية بالرضم ، ليس فيها مدر ، وكانت قدر ما نقتحمها ، وكانت غير مسقوفة ، إنما توضع ثيابها عليها ، ثم تسدل عليها سدلا ، وكان الركن الأسود موضوعا على سورها باديا ، وكانت ذات ركنين كهيئة الحلقة ، فأقبلت سفينة من أرض الروم فانكسرت بقرب جدة ، فخرجت قريش ليأخذوا خشبها ، فوجدوا رجلا روميا عندها ، فأخذوا الخشب ، وكانت السفينة تريد الحبشة ، وكان الرومي الذي في السفينة نجارا ، فقدموا به وبالخشب ، فقالت قريش : نبني بهذا الذي في السفينة بيت ربنا ، فلما أرادوا هدمه إذا هم بحية على سور البيت ، مثل قطعة الجائز سوداء الظهر ، بيضاء البطن ، فجعلت كلما دنا أحد إلى البيت ليهدم أو يأخذ من حجارته ، سعت إليه فاتحة فاها ، فاجتمعت قريش عند المقام فعجوا إلى الله وقالوا : ربنا لم ترع ، أردنا تشريف بيتك وتزيينه ، فإن كنت ترضى بذلك ، وإلا فما بدا لك فافعل . فسمعوا خوارا في السماء ، فإذا هم بطائر أسود الظهر ، أبيض البطن ، والرجلين ، أعظم من النسر ، فغرز مخلابه في رأس الحية ، حتى انطلق بها يجرها ، ذنبها أعظم من كذا وكذا ساقطا ، فانطلق بها نحو أجياد ، فهدمتها قريش ، وجعلوا يبنونها بحجارة الوادي ، تحملها قريش على رقابها ، فرفعوها في السماء عشرين ذراعا ، فبينا النبي صلى الله عليه وسلم يحمل حجارة من أجياد ، وعليه نمرة ، فضاقت عليه النمرة ، فذهب يضعها على عاتقه ، فبرزت عورته من صغر النمرة ، فنودي : يا محمد ، خمر عورتك ، فلم ير عريانا بعد ذلك . وكان بين بنيان الكعبة ، وبين ما أنزل عليه خمس سنين . هذا حديث صحيح .

[ ص: 71 ] وقد روى نحوه داود العطار ، عن ابن خثيم .

ورواه محمد بن كثير المصيصي ، عن عبد الله بن واقد ، عن عبد الله بن عثمان بن خثيم ، عن نافع بن سرجس ، قال : سألت أبا الطفيل ، فذكر نحوه .

وقال عبد الصمد بن النعمان : حدثنا ثابت بن يزيد ، قال : حدثنا هلال بن خباب ، عن مجاهد ، عن مولاه ، أنه حدثه أنه كان فيمن يبني الكعبة في الجاهلية ، قال : ولي حجر أنا نحته بيدي أعبده من دون الله ، فأجيء باللبن الخاثر الذي أنفسه على نفسي فأصبه عليه ، فيجيء الكلب فيلحسه ، ثم يشغر فيبول ، فبنينا حتى بلغنا الحجر ، وما يرى الحجر منا أحد ، فإذا هو وسط حجارتنا ، مثل رأس الرجل ، يكاد يتراءى منه وجه الرجل ، فقال بطن من قريش : نحن نضعه ، وقال آخرون : بل نحن نضعه . فقالوا : اجعلوا بينكم حكما . قالوا : أول رجل يطلع من الفج ، فجاء النبي صلى الله عليه وسلم فقالوا : أتاكم الأمين ، فقالوا له ، فوضعه في ثوب ، ثم دعا بطونهم ، فأخذوا بنواحيه معه ، فوضعه هو . اسم مولى مجاهد : السائب بن عبد الله .

وقال إسرائيل ، عن أبي يحيى القتات ، عن مجاهد ، عن عبد الله بن عمرو ، قال : كان البيت قبل الأرض بألفي سنة ( وإذا الأرض مدت ( 3 ) ) [ الانشقاق ] : قال : من تحته مدا . وروي نحوه عن منصور ، عن مجاهد .

التالي السابق


الخدمات العلمية