صفحة جزء
[ ص: 146 ] الهجرة الأولى إلى الحبشة ثم الثانية

قال يعقوب الفسوي في " تاريخه " : حدثني العباس بن عبد العظيم ، قال : حدثني بشار بن موسى الخفاف ، قال : حدثنا الحسن بن زياد البرجمي إمام مسجد محمد بن واسع ، قال : حدثنا قتادة ، قال : أول من هاجر إلى الله بأهله عثمان بن عفان . قال : سمعت النضر بن أنس يقول : سمعت أبا حمزة يعني أنس بن مالك ، يقول : خرج عثمان برقية بنت رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى الحبشة ، فأبطأ خبرهم ، فقدمت امرأة من قريش ، فقالت : يا محمد قد رأيت ختنك ومعه امرأته ، فقال : " على أي حال رأيتهما " . قالت : رأيته حمل امرأته على حمار من هذه الدبابة ، وهو يسوقها ، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : صحبهما الله ، إن عثمان أول من هاجر بأهله بعد لوط .

ورواه يحيى بن أبي طالب ، عن بشار .

عن عبد الله بن إدريس ، قال : حدثنا ابن إسحاق : قال : حدثني الزهري ، عن أبي بكر بن عبد الرحمن ، وعروة ، وعبد الله بن أبي بكر ، وصلت الحديث عن أبي بكر ، عن أم سلمة ، قالت : لما أمرنا بالخروج إلى الحبشة ، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم حين رأى ما يصيبنا من البلاء : " الحقوا بأرض الحبشة فإن بها ملكا لا يظلم عنده أحد ، فأقيموا ببلاده حتى [ ص: 147 ] يجعل الله مخرجا مما أنتم فيه " . فقدمنا عليه فاطمأننا في بلاده . . الحديث .

قال البغوي في تاسع " المخلصيات " : وروى ابن عون ، عن عمير بن إسحاق ، عن عمرو بن العاص بعض هذا الحديث .

وقال البكائي : قال ابن إسحاق : فلما رأى رسول الله صلى الله عليه وسلم ما يصيب أصحابه من البلاء ، وما هو فيه من العافية بمكانه من الله ، ومن عمه ، وأنه لا يقدر أن يمنعهم من البلاء ، قال لهم : لو خرجتم إلى أرض الحبشة ، فإن بها ملكا لا يظلم عنده أحد وهي أرض صدق ، حتى يجعل الله لكم فرجا مما أنتم فيه " . فخرج عند ذلك المسلمون مخافة الفتنة ، وفرارا بدينهم إلى الله . فخرج عثمان بزوجته ، وأبو حذيفة ولد عتبة بن ربيعة بن عبد شمس بزوجته سهلة بنت سهيل بن عمرو فولدت له بالحبشة محمدا ، والزبير بن العوام ، ومصعب بن عمير العبدري ، وعبد الرحمن بن عوف ، وأبو سلمة بن عبد الأسد المخزومي ، وزوجته أم سلمة أم المؤمنين ، وعثمان بن مظعون الجمحي ، وعامر بن ربيعة حليف آل الخطاب ، وامرأته ليلى بنت أبي حثمة العدوية ، وأبو سبرة بن أبي رهم بن عبد العزى العامري ، وسهيل بن بيضاء ، وهو سهيل بن وهب الحارثي ، فكانوا أول من هاجر إلى الحبشة .

قال : ثم خرج جعفر بن أبي طالب ، وتتابع المسلمون إلى الحبشة . ثم سمى ابن إسحاق جماعتهم ، وقال : فكان جميع من لحق بأرض الحبشة ، أو ولد بها ، ثلاثة وثمانين رجلا ، فعبدوا الله وحمدوا جوار النجاشي ، فقال عبد الله بن الحارث بن قيس السهمي :

[ ص: 148 ]

يا راكبا بلغن عني مغلغلة من كان يرجو بلاغ الله والدين     كل امرئ من عباد الله مضطهد
ببطن مكة مقهور ومفتون     أنا وجدنا بلاد الله واسعة
تنجي من الذل والمخزاة والهون     فلا تقيموا على ذل الحياة وخز
ي في الممات وعيب غير مأمون     إنا تبعنا نبي الله ، واطرحوا
قول النبي وعالوا في الموازين     فاجعل عذابك في القوم الذين بغوا
وعائذ بك أن يعلوا فيطغوني

وقال عثمان بن مظعون يعاتب أمية بن خلف ابن عمه ، وكان يؤذيه :


أتيم بن عوف والذي جاء بغضة     ومن دونه الشرمان والبرك أكتع
أأخرجتني من بطن مكة أيمنا     وأسكنتني في سرح بيضاء تقذع
تريش نبالا لا يواتيك ريشها     وتبري نبالا ريشها لك أجمع
وحاربت أقواما كراما أعزة     وأهلكت أقواما بهم كنت تفزع
ستعلم إن نابتك يوما ملمة     وأسلمك الأرياش ما كنت تصنع

وقال موسى بن عقبة : ثم إن قريشا ائتمروا واشتد مكرهم ، وهموا بقتل رسول الله صلى الله عليه وسلم أو إخراجه ، فعرضوا على قومه أن يعطوهم ديته ويقتلوه ، فأبوا حمية . ولما دخل رسول الله صلى الله عليه وسلم شعب بني عبد المطلب ، أمر أصحابه بالخروج إلى الحبشة فخرجوا مرتين ، رجع الذين خرجوا في المرة الأولى حين أنزلت سورة " النجم " ، وكان المشركون يقولون : لو كان محمد يذكر آلهتنا بخير قررناه وأصحابه ، ولكنه لا يذكر من حالفه من اليهود والنصارى بمثل ما يذكر به آلهتنا من الشتم ، والشر . وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم يتمنى هداهم ، فأنزلت : ( أفرأيتم اللات والعزى ( 19 ) ) ( ومناة الثالثة الأخرى ( 20 ) ) [ النجم ] ، فألقى الشيطان عندها كلمات " وإنهن [ ص: 149 ] الغرانيق العلا ، وإن شفاعتهن ترتجى " فوقعت في قلب كل مشرك بمكة ، وذلت بها ألسنتهم وتباشروا بها . وقالوا : إن محمدا قد رجع إلى ديننا . فلما بلغ آخر النجم سجد صلى الله عليه وسلم وسجد كل من حضر من مسلم أو مشرك ، غير أن الوليد بن المغيرة كان شيخا كبيرا رفع ملء كفيه ترابا فسجد عليه ، فعجب الفريقان كلاهما من جماعتهم في السجود ، بسجود رسول الله صلى الله عليه وسلم ، عجب المسلمون بسجود المشركين معهم ، ولم يكن المسلمون سمعوا ما ألقى الشيطان ، وأما المشركون فاطمأنوا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه ، لما ألقي في أمنية رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وحدثهم الشيطان أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قد قرأها في السجدة ، فسجدوا تعظيما لآلهتهم . وفشت تلك الكلمة في الناس ، وأظهرها الشيطان ، حتى بلغت أرض الحبشة ومن بها من المسلمين ، عثمان بن مظعون وأصحابه ، وحدثوا أن أهل مكة قد أسلموا كلهم وصلوا ، وأن المسلمين قد أمنوا بمكة ، فأقبلوا سراعا ، وقد نسخ الله ما ألقى الشيطان ، وأنزلت ( وما أرسلنا من قبلك من رسول ولا نبي إلا إذا تمنى ألقى الشيطان في أمنيته ( 52 ) ) [ الحج ] الآيات . فلما بين الله قضاءه وبرأه من سجع الشيطان انقلب المشركون [ ص: 150 ] بضلالتهم وعداوتهم . وكان عثمان بن مظعون وأصحابه ، فيمن رجع ، فلم يستطيعوا أن يدخلوا مكة إلا بجوار ، فأجار الوليد بن المغيرة عثمان بن مظعون ، فلما رأى عثمان ما يلقى أصحابه من البلاء ، وعذب طائفة منهم بالسياط والنار ، وعثمان معافى لا يعرض له ، استحب البلاء ، فقال للوليد : يا عم قد أجرتني ، وأحب أن تخرجني إلى عشيرتك فتبرأ مني . فقال : يا ابن أخي لعل أحدا آذاك أو شتمك ؟ قال : لا والله ما اعترض لي أحد ولا آذاني . فلما أبى إلا أن يتبرأ منه أخرجه إلى المسجد ، وقريش فيه ، كأحفل ما كانوا ولبيد بن ربيعة الشاعر ينشدهم ، فأخذ الوليد بيد عثمان وقال : إن هذا قد حملني على أن أتبرأ من جواره ، وإني أشهدكم أني بريء منه ، إلا أن يشاء . فقال عثمان : صدق ، أنا والله أكرهته على ذلك ، وهو مني بريء . ثم جلس مع القوم فنالوا منه .

قال موسى : وخرج جعفر بن أبي طالب [ وأصحابه ] فرارا بدينهم إلى الحبشة ، فبعثت قريش عمرو بن العاص ، وعمارة بن الوليد بن المغيرة ، وأمروهما أن يسرعا ففعلا ، وأهدوا للنجاشي فرسا وجبة ديباجا ، وأهدوا لعظماء الحبشة هدايا ، فقبل النجاشي هديتهم ، وأجلس عمرا على سريره ، فقال : إن بأرضك رجالا منا سفهاء ليسوا على دينك ولا ديننا ، فادفعهم إلينا . فقال : حتى أكلمهم وأعلم على أي شيء هم . فقال عمرو : هم أصحاب الرجل الذي خرج فينا ، وإنهم لا يشهدون أن عيسى ابن الله ، ولا يسجدون لك إذا دخلوا . فأرسل النجاشي إلى جعفر وأصحابه ، فلم يسجد له جعفر ولا أصحابه وحيوه بالسلام ، فقال عمرو : ألم نخبرك خبر القوم . فقال النجاشي : حدثوني أيها الرهط ، ما لكم لا تحيوني كما يحييني من أتاني من قومكم ، وأخبروني ما تقولون في عيسى وما دينكم ؟ أنصارى أنتم ؟ قالوا : لا . قال : أفيهود أنتم ؟ [ ص: 151 ] قالوا : لا . قال : فعلى دين قومكم ؟ قالوا : لا . قال : فما دينكم ؟ قالوا : الإسلام . قال : وما الإسلام ؟ قالوا : نعبد الله وحده ولا نشرك به شيئا . قال : من جاءكم بهذا ؟ قالوا : جاءنا به رجل منا قد عرفنا وجهه ونسبه ، بعثه الله كما بعث الرسل إلى من كان قبلنا ، فأمرنا بالبر والصدقة والوفاء والأمانة ، ونهانا أن نعبد الأوثان ، وأمرنا أن نعبد الله ، فصدقناه ، وعرفنا كلام الله ، فعادانا قومنا وعادوه وكذبوه ، وأرادونا على عبادة الأصنام ، ففررنا إليك بديننا ودمائنا من قومنا . فقال النجاشي : والله إن خرج هذا الأمر إلا من المشكاة التي خرج منها أمر عيسى . قال : وأما التحية فإن رسولنا أخبرنا أن تحية أهل الجنة السلام ، فحييناك بها ، وأما عيسى فهو عبد الله ورسوله وكلمته ألقاها إلى مريم ، وروح منه وابن العذراء البتول . فخفض النجاشي يده إلى الأرض ، وأخذ عودا فقال : والله ما زاد ابن مريم على هذا وزن هذا العود . فقال عظماء الحبشة : والله لئن سمعت هذا الحبشة لتخلعنك . فقال : والله لا أقول في عيسى غير هذا أبدا ، وما أطاع الله الناس في حين رد إلي ملكي ، فأنا أطيع الناس في دين الله! معاذ الله من ذلك . وكان أبو النجاشي ملك الحبشة ، فمات والنجاشي صبي ، فأوصى إلى أخيه أن إليك ملك قومك حتى يبلغ ابني ، فإذا بلغ فله الملك . فرغب أخوه في الملك ، فباع النجاشي لتاجر ، وبادر بإخراجه إلى السفينة ، فأخذ الله عمه قعصا فمات ، فجاءت الحبشة بالتاج ، وأخذوا النجاشي فملكوه ، وزعموا أن التاجر قال : ما لي بد من غلامي أو مالي . قال النجاشي : صدق ، ادفعوا إليه ماله . قال : فقال النجاشي حين كلمه جعفر : ردوا إلى هذا هديته - يعني عمرا - وقال لو رشوني على هذا دبر ذهب - والدبر بلغته الجبل - ما قبلته ، وقال لجعفر وأصحابه : امكثوا آمنين ، وأمر لهم بما يصلحهم من [ ص: 152 ] الرزق . وألقى الله العداوة بين عمرو وعمارة بن الوليد في مسيرهما ، فمكر به عمرو وقال : إنك رجل جميل ، فاذهب إلى امرأة النجاشي فتحدث عندها إذا خرج زوجها ، فإن ذلك عون لنا في حاجتنا . فراسلها عمارة حتى دخل عليها ، فلما دخل عليها انطلق عمرو إلى النجاشي ، فقال : إن صاحبي هذا صاحب نساء ، وإنه يريد أهلك فاعلم علم ذلك . فبعث النجاشي ، فإذا عمارة عند امرأته ، فأمر به فنفخ في إحليله شحوة ثم ألقي في جزيرة من البحر ، فجن ، وصار مع الوحش ، ورجع عمرو خائب السعي .

وقال البكائي : قال ابن إسحاق : حدثني الزهري ، عن أبي بكر بن عبد الرحمن ، عن أم سلمة ، قالت : لما نزلنا أرض الحبشة ، جاورنا بها خير جار النجاشي ، أمنا على ديننا ، وعبدنا الله تعالى ، لا نؤذى ، ولا نسمع ما نكره ، فلما بلغ ذلك قريشا ائتمروا أن يبعثوا إلى النجاشي رجلين جلدين ، وأن يهدوا للنجاشي ، فبعثوا بالهدايا مع عبد الله بن أبي ربيعة ، وعمرو بن العاص . وذكر القصة بطولها ، وستأتي إن شاء الله ، رواها جماعة ، عن ابن إسحاق .

وذكر الواقدي أن الهجرة الثانية كانت سنة خمس من المبعث .

وقال حديج بن معاوية ، عن أبي إسحاق ، عن عبد الله بن عتبة ، عن ابن مسعود ، قال : بعثنا رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى النجاشي ، ونحن ثمانون رجلا ، ومعنا جعفر ، وعثمان بن مظعون ، وبعثت قريش عمارة ، وعمرو بن العاص ، وبعثوا معهما بهدية إلى النجاشي ، فلما دخلا عليه سجدا [ ص: 153 ] له ، وبعثا إليه بالهدية ، وقالا : إن ناسا من قومنا رغبوا عن ديننا ، وقد نزلوا أرضك . فبعث إليهم ، فقال لنا جعفر : أنا خطيبكم اليوم . قال : فاتبعوه حتى دخلوا على النجاشي ، فلم يسجدوا له ، فقال : وما لكم لم تسجدوا للملك ؟ فقال : إن الله قد بعث إلينا نبيه ، فأمرنا أن لا نسجد إلا لله . فقال النجاشي : وما ذاك ؟ قال عمرو : إنهم يخالفونك في عيسى . قال : فما تقولون في عيسى وأمه ؟ قال : نقول كما قال الله ، هو روح الله وكلمته ألقاها إلى العذراء البتول ، التي لم يمسها بشر ، ولم يفرضها ولد . فتناول النجاشي عودا ، فقال : يا معشر القسيسين والرهبان ، ما تزيدون على ما يقول هؤلاء ما يزن هذا ، فمرحبا بكم وبمن جئتم من عنده ، وأنا أشهد أنه نبي ، ولوددت أني عنده فأحمل نعليه أو قال أخدمه فانزلوا حيث شئتم من أرضي . فجاء ابن مسعود فشهد بدرا . رواه أبو داود الطيالسي في " مسنده " عن خديج .

وقال عبيد الله بن موسى : أخبرنا إسرائيل ، عن أبي إسحاق ، عن أبي بردة ، عن أبيه ، قال : أمرنا رسول الله صلى الله عليه وسلم أن ننطلق مع جعفر إلى الحبشة . وساق كحديث حديج .

ويظهر لي أن إسرائيل وهم فيه ، ودخل عليه حديث في حديث ، وإلا أين كان أبو موسى الأشعري ذلك الوقت .

رجعنا إلى تمام الحديث الذي سقناه عن أم سلمة قالت : فلم يبق بطريق من بطارقة النجاشي إلا دفعا إليه هدية ، قبل أن يكلما النجاشي ، وأخبرا ذلك البطريق بقصدهما ، ليشير على الملك بدفع المسلمين إليهم ، ثم قربا هدايا النجاشي فقبلها ، ثم كلماه فقالا : أيها الملك إنه قدم إلى بلادك منا غلمان سفهاء ، فارقوا دين قومهم ، ولم يدخلوا في [ ص: 154 ] دينك ، جاءوا بدين ابتدعوه ، لا نعرفه نحن ، ولا أنت ، فقد بعثنا إليك فيهم أشراف قومهم من أقاربهم لتردهم عليهم ، فهم أعلى بهم عينا ، وأعلم بما عابوا عليهم . قالت : ولم يكن أبغض إلى عبد الله بن أبي ربيعة وعمرو بن العاص من أن يسمع كلامهم النجاشي ، فقالت بطارقته حوله : صدقا أيها الملك ، قومهم أعلى بهم عينا ، وأعلم بما عابوا عليهم من دينهم ، فأسلمهم إليهما . فغضب ثم قال : لاها الله إذن لا أسلمهم إليهما ، ولا يكاد قوم جاوروني ، ونزلوا بلادي ، واختاروني على من سواي ، حتى أدعوهم فأسألهم عما تقولان . فأرسل إلى الصحابة فدعاهم ، فلما جاءوا وقد دعا النجاشي أساقفته فنشروا مصاحفهم ، سألهم فقال : ما دينكم ؟ فكان الذي كلمه جعفر ، فقال : أيها الملك ، كنا قوما أهل جاهلية نعبد الأصنام ، ونأكل الميتة ، ونأتي الفواحش ، ونقطع الأرحام ، ونسيء الجوار ، ويأكل القوي منا الضعيف ، فكنا على ذلك ، حتى بعث الله إلينا رسولا منا نعرف نسبه ، وصدقه ، وأمانته ، وعفافه ، فدعانا إلى الله لنوحده ونعبده ونخلع ما كان يعبد آباؤنا من الحجارة ، وأمرنا بالصدق والأمانة وصلة الرحم - وعدد عليه أمور الإسلام - فصدقناه واتبعناه ، فعدا علينا قومنا فعذبونا ، وفتنونا عن ديننا ، وضيقوا علينا ، فخرجنا إلى بلادك واخترناك على من سواك ، ورجونا أن لا نظلم عندك أيها الملك . قالت : فقال : وهل معك مما جاء به عن الله من شيء ؟ قال جعفر : نعم ، وقرأ عليه صدرا من ( كهيعص ( 1 ) ) [ مريم ] فبكى والله النجاشي ، حتى أخضل لحيته ، وبكت أساقفته ، حتى أخضلوا مصاحفهم ، ثم قال النجاشي : إن هذا ، والذي جاء به موسى ليخرج من مشكاة واحدة ، انطلقا ، فلا والله لا أسلمهم إليكما ولا يكاد . قالت : فلما خرجا من عنده قال عمرو : والله لآتينهم غدا بما أستأصل به خضراءهم . فقال له ابن أبي ربيعة ، وكان [ ص: 155 ] أتقى الرجلين فينا : لا تفعل ، فإن لهم أرحاما . قال : والله لأخبرنه أنهم يزعمون أن عيسى عبد . ثم غدا عليه ، فقال له ذلك ، فطلبنا ، قالت : ولم ينزل بنا مثلها ، فاجتمع القوم ، ثم قال بعضهم لبعض : ما تقولون في عيسى ابن مريم إذا سألكم عنه ؟ قالوا : نقول ، والله ، ما قال الله ، كائنا في ذلك ما كان ، فلما دخلوا عليه قال لهم : ما تقولون في عيسى ابن مريم ؟ فقال له جعفر بن أبي طالب : نقول : هو عبد الله ورسوله ، وروحه ، وكلمته ، ألقاها إلى مريم العذراء البتول . فأخذ النجاشي عودا ثم قال : ما عدا عيسى ما قلت هذا العود . فتناخرت بطارقته حوله ، فقال : وإن نخرتم ، والله ، اذهبوا فأنتم سيوم بأرضي والسيوم : الآمنون من سبكم غرم ، ما أحب أن لي دبرا من ذهب ، وأني آذيت رجلا منكم ، ردوا هداياهما فلا حاجة لي فيها ، فوالله ما أخذ الله مني الرشوة حين رد علي ملكي ، فآخذ الرشوة فيه ، وما أطاع الناس في فأطيعهم فيه . قالت : فخرجا من عنده مقبوحين مردودا عليهما ما جاءا به . قالت : فإنا على ذلك ، إذ نزل به رجل من الحبشة ينازعه في ملكه ، فوالله ما علمنا حزنا قط كان أشد علينا من حزن حزناه عند ذلك ، تخوفا ما كان النجاشي يعرف منه . فسار إليه النجاشي ، وكان بينهما عرض النيل ، فقال أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم : من رجل يخرج حتى يحضر الوقعة ، ثم يأتينا بالخبر ؟ فقال الزبير : أنا ، فنفخوا له قربة ، فجعلها في صدره ، ثم سبح عليها حتى خرج إلى ناحية النيل التي بها يلتقي القوم ، ثم انطلق حتى حضرهم ، ودعونا الله تعالى للنجاشي ، فإنا لعلى ذلك ، إذ طلع الزبير يسعى فلمع بثوبه ، وهو يقول : ألا أبشروا ، فقد ظهر النجاشي ، وقد أهلك الله عدوه ، ومكن له في بلاده .

[ ص: 156 ] قال الزهري : فحدثت عروة بن الزبير هذا الحديث فقال : هل تدري ما قوله : ما أخذ الله مني الرشوة إلى آخره ؟ قلت : لا . قال : فإن عائشة أم المؤمنين حدثتني أن أباه كان ملك قومه ، ولم يكن له ولد إلا النجاشي ، وكان للنجاشي عم من صلبه اثنا عشر رجلا ، فقالت الحبشة : لو أنا قتلنا هذا وملكنا أخاه ، فإنه لا ولد غير هذا الغلام ، ولأخيه اثنا عشر ولدا ، فتوارثوا ملكه من بعده بقيت الحبشة بعده دهرا ، فعدوا على أبي النجاشي فقتلوه ، وملكوا أخاه . فمكثوا حينا ، ونشأ النجاشي مع عمه ، فكان لبيبا حازما فغلب على أمر عمه ، ونزل منه بكل منزلة ، فلما رأت الحبشة مكانه منه قالت بينها : والله لقد غلب هذا على عمه ، وإنا لنتخوف أن يملكه علينا ، وإن ملك ليقتلنا بأبيه ، فكلموا الملك ، فقال : ويلكم ، قتلت أباه بالأمس ، وأقتله اليوم! ، بل أخرجه من بلادكم . قالت : فخرجوا به فباعوه لتاجر بستمائة درهم ، فقذفه في سفينة وانطلق به ، حتى إذا كان آخر النهار ، هاجت سحابة ، فخرج عمه يستمطر تحتها ، فأصابته صاعقة فقتلته ، ففزعت الحبشة إلى ولده ، فإذا هو محمق ليس في ولده خير ، فمرج الأمر ، فقالوا : تعلموا ، والله إن ملككم الذي لا يقيم أمركم غيره للذي بعتموه غدوة . فخرجوا في طلبه فأدركوه ، وأخذوه من التاجر ، ثم جاءوا به فعقدوا عليه التاج ، وأقعدوه على سرير ملكه ، فجاء التاجر فقال : مالي . قالوا : لا نعطيك شيئا ، فكلمه ، فأمرهم فقال : أعطوه دراهمه أو عبده . قالوا : بل نعطيه دراهمه ، فكان ذلك أول ما خبر من عدله ، رضي الله عنه .

وروى يزيد بن رومان ، عن عروة ، قال : إنما كان يكلم النجاشي عثمان بن عفان رضي الله عنه .

[ ص: 157 ] أخبرنا إبراهيم بن حمد ، وجماعة ، قالوا : أخبرنا ابن ملاعب ، قال : حدثنا الأرموي ، قال : أخبرنا جابر بن ياسين ، قال : أخبرنا المخلص ، قال : حدثنا البغوي قال : حدثنا عبد الله بن عمر بن أبان ، قال : حدثنا أسد بن عمرو البجلي ، عن مجالد ، عن الشعبي ، عن عبد الله بن جعفر ، عن أبيه ، قال : بعثت قريش عمرا وعمارة بهدية إلى النجاشي ليؤذوا المهاجرين ، وذكر الحديث ، فقال النجاشي : أعبيد هم لكم ؟ قالوا : لا . قال : فلكم عليهم دين ؟ قالوا : لا . قال : فخلوهم . فقال عمرو : إنهم يقولون في عيسى غير ما تقول . فأرسل إلينا ، وكانت الدعوة الثانية أشد علينا ، فقال : ما يقول صاحبكم في عيسى ؟ قال : يقول : هو روح الله وكلمته ألقاها إلى عذراء بتول . فقال : ادعوا لي فلانا القس ، وفلانا الراهب ، فأتاه أناس منهم ، فقال : ما تقولون في عيسى ؟ قالوا : أنت أعلمنا . قال : وأخذ شيئا من الأرض ، فقال : ما عدا عيسى ما قال هؤلاء مثل هذا . ثم قال : أيؤذيكم أحد ؟ قالوا : نعم . فنادى : من آذى أحدا منهم فأغرموه أربعة دراهم ، ثم قال : أيكفيكم ؟ قلنا : لا . فأضعفها ، قال : فلما ظهر النبي صلى الله عليه وسلم وهاجر أخبرناه ، قال فزودنا وحملنا ، ثم قال : أخبر صاحبك بما صنعت إليكم ، وأنا أشهد أن لا إله إلا الله وأنه رسول الله ، وقل له يستغفر لي . فأتينا المدينة ، فتلقاني النبي صلى الله عليه وسلم فاعتنقني وقال : " ما أدري أنا بقدوم جعفر أفرح أم بفتح خيبر ، وقال : اللهم اغفر للنجاشي " ثلاث مرات ، وقال المسلمون : آمين .

التالي السابق


الخدمات العلمية