صفحة جزء
[ ص: 179 ] ذكر شعب أبي طالب والصحيفة قال موسى بن عقبة ، عن الزهري ، قال : ثم إنهم اشتدوا على المسلمين كأشد ما كانوا ، حتى بلغ المسلمين الجهد ، واشتد عليهم البلاء ، واجتمعت قريش في مكرها أن يقتلوا رسول الله صلى الله عليه وسلم علانية . فلما رأى أبو طالب عملهم جمع بني أبيه وأمرهم أن يدخلوا رسول الله صلى الله عليه وسلم شعبهم ويمنعوه ممن أراد قتله ، فاجتمعوا على ذلك مسلمهم وكافرهم ، فمنهم من فعله حمية ، ومنهم من فعله إيمانا ، فلما عرفت قريش أن القوم قد منعوه أجمعوا أمرهم أن لا يجالسوهم ولا يبايعوهم ، حتى يسلموا رسول الله صلى الله عليه وسلم للقتل ، وكتبوا في مكرهم صحيفة وعهودا ومواثيق ، لا يقبلوا من بني هاشم أبدا صلحا ، ولا تأخذهم بهم رأفة حتى يسلموه للقتل .

فلبث بنو هاشم في شعبهم ، يعني ثلاث سنين ، واشتد عليهم البلاء ، وقطعوا عنهم الأسواق ، وكان أبو طالب إذا نام الناس أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم فاضطجع على فراشه ، حتى يرى ذلك من أراد مكرا به واغتياله ، فإذا نام الناس أمر أحد بنيه أو إخوته فاضطجع على فراش رسول الله صلى الله عليه وسلم . ويأتي رسول الله صلى الله عليه وسلم فراش ذلك فينام عليه . فلما كان رأس ثلاث سنين ، تلاوم رجال من بني عبد مناف ، ومن بني قصي ، ورجال أمهاتهم [ ص: 180 ] من نساء بني هاشم ، ورأوا أنهم قد قطعوا الرحم واستخفوا بالحق ، واجتمع أمرهم من ليلتهم على نقض ما تعاهدوا عليه من الغدر والبراءة منه .

وبعث الله على صحيفتهم الأرضة ، فلحست كل ما كان فيها من عهد وميثاق ، ويقال : كانت معلقة في سقف البيت ، فلم تترك اسما لله إلا لحسته ، وبقي ما كان فيها من شرك أو ظلم ، فأطلع الله رسوله على ذلك ، فأخبر به أبا طالب ، فقال أبو طالب : لا والثواقب ما كذبني . فانطلق يمشي بعصابة من بني عبد المطلب ، حتى أتى المسجد وهو حافل من قريش ، فأنكروا ذلك ، فقال أبو طالب : قد حدثت أمور بينكم لم نذكرها لكم ، فأتوا بصحيفتكم التي تعاهدتم عليها ، فلعله أن يكون بيننا وبينكم صلح . فأتوا بها وقالوا : قد آن لكم أن تقبلوا وترجعوا إلى أمر يجمع قومكم ، فإنما قطع بيننا وبينكم رجل واحد ، جعلتموه خطرا للهلكة . قال أبو طالب : إنما أتيتكم لأعطيكم أمرا لكم فيه نصف ، إن ابن أخي قد أخبرني ولم يكذبني ، أن الله بريء من هذه الصحيفة ، ومحا كل اسم هو له فيها ، وترك فيها غدركم وقطيعتكم ، فإن كان كما قال : فأفيقوا ، فوالله لا نسلمه أبدا حتى نموت من عند آخرنا ، وإن كان الذي قال باطلا ، دفعناه إليكم ، فرضوا وفتحوا الصحيفة ، فلما رأتها قريش كالذي قال أبو طالب ، قالوا : والله إن كان هذا قط إلا سحرا من صاحبكم ، فارتكسوا وعادوا لكفرهم ، فقال بنو عبد المطلب : إن أولى بالكذب والسحر غيرنا ، فكيف ترون ، وإنا نعلم أن الذي اجتمعتم عليه من قطيعتنا أقرب إلى الجبت والسحر من أمرنا ، ولولا أنكم اجتمعتم على السحر لم تفسد الصحيفة ، وهي في أيديكم ، أفنحن السحرة أم أنتم ؟ فقال أبو البختري ، ومطعم بن عدي ، وزهير بن أبي أمية بن المغيرة ، وزمعة بن الأسود ، وهشام بن عمرو وكانت الصحيفة عنده ، [ ص: 181 ] وهو من بني عامر بن لؤي في رجال من أشرافهم : نحن براء مما في هذه الصحيفة . فقال أبو جهل : هذا أمر قضي بليل .

وذكر نحو هذه القصة ابن لهيعة ، عن أبي الأسود ، عن عروة .

وذكر ابن إسحاق نحوا من هذا ، وقال : حدثني حسين بن عبد الله أن أبا لهب يعني حين فارق قومه من الشعب لقي هندا بنت عتبة بن ربيعة ، فقال لها : هل نصرت اللات والعزى وفارقت من فارقها ؟ قالت : نعم فجزاك الله خيرا أبا عتبة .

وأقام بنو هاشم سنتين أو ثلاثا حتى جهدوا ، لا يصل إليهم شيء إلا سرا مستخفى به . وقد كان أبو جهل فيما يذكرون لقي حكيم بن حزام بن خويلد ، ومعه غلام يحمل قمحا ، يريد به عمته خديجة رضي الله عنها ، وهي في الشعب فتعلق به ، وقال : أتذهب بالطعام إلى بني هاشم ، والله لا تبرح أنت وطعامك حتى أفضحك بمكة . فجاءه أبو البختري بن هشام ، فقال : ما لك وله! قال : يحمل الطعام إلى بني هاشم ! قال : طعام كان لعمته عنده أفتمنعه أن يأتيها بطعامها ، خل سبيل الرجل . فأبى أبو جهل حتى نال أحدهما من صاحبه ، فأخذ له أبو البختري لحي بعير ، فضربه فشجه ووطئه وطئا شديدا ، وحمزة يرى ذلك ، يكرهون أن يبلغ ذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه ، فيشمتوا بهم ، قال : ورسول الله صلى الله عليه وسلم على ذلك يدعو قومه ليلا ونهارا ، سرا وجهرا .

وقال موسى بن عقبة : فلما أفسد الله الصحيفة ، خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم ورهطه ، فعاشوا وخالطوا الناس .

التالي السابق


الخدمات العلمية