صفحة جزء
[ ص: 189 ] ثم توفي عمه أبو طالب وزوجته خديجة

يقال في قوله تعالى : ( وهم ينهون عنه وينأون عنه وإن يهلكون إلا أنفسهم وما يشعرون ( 26 ) ) [ الأنعام ] . أنها نزلت في أبي طالب ونزل فيه : ( إنك لا تهدي من أحببت ( 56 ) ) [ القصص ] .

قال سفيان الثوري ، عن حبيب بن أبي ثابت ، عمن سمع ابن عباس يقول في قوله تعالى : ( وهم ينهون عنه ( 26 ) ) قال : نزلت في أبي طالب ، كان ينهى المشركين أن يؤذوا رسول الله صلى الله عليه وسلم وينأى عنه .

ورواه حمزة الزيات ، عن حبيب ، فقال : عن سعيد بن جبير ، عن ابن عباس .

وقال معمر ، عن الزهري ، عن سعيد بن المسيب ، عن أبيه ، قال : لما حضرت أبا طالب الوفاة دخل عليه النبي صلى الله عليه وسلم فوجد عنده أبا جهل ، وعبد الله بن أبي أمية بن المغيرة ، فقال له النبي صلى الله عليه وسلم : " يا عم قل لا إله إلا الله أحاج لك بها عند الله " . فقالا : أي أبا طالب ، أترغب عن ملة عبد المطلب ! قال : فكان آخر كلمة أن قال : على ملة عبد المطلب ، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم " لأستغفرن لك ما لم أنه عنك " ، فنزلت : ( ما كان للنبي والذين آمنوا أن يستغفروا للمشركين ( 113 ) ) [ التوبة ] الآيتين ، ونزلت : ( إنك لا تهدي من أحببت ( 56 ) ) [ القصص ] . أخرجه مسلم .

وللبخاري مثله من حديث شعيب بن أبي حمزة .

[ ص: 190 ] وقد حكى عن أبي طالب ، واسمه عبد مناف ، ابنه علي ، وأبو رافع مولى النبي صلى الله عليه وسلم .

ابن عون ، عن عمرو بن سعيد ، أن أبا طالب ، قال : كنت بذي المجاز مع ابن أخي ، فعطشت ، فشكوت إليه ، فأهوى بعقبه إلى الأرض ، فنبع الماء فشربت .

وعن بعض التابعين ، قال : لم يكن أحد يسود في الجاهلية إلا بمال ، إلا أبو طالب وعتبة بن ربيعة .

قلت : ولأبي طالب شعر جيد مدون في السيرة وغيرها .

وفي " مسند أحمد " من حديث يحيى بن سلمة بن كهيل ، عن أبيه ، عن حبة العرني ، قال : رأيت عليا ضحك على المنبر حتى بدت نواجذه ، ثم ذكر قول أبي طالب : ظهر علينا أبو طالب وأنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم نصلي ببطن نخلة فقال : ماذا تصنعان يا ابن أخي ؟ فدعاه رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى الإسلام فقال : ما بالذي تصنعان من بأس ، ولكن والله لا تعلوني استي أبدا ، فضحكت تعجبا من قول أبي .

وروى معتمر بن سليمان ، عن أبيه أن قريشا أظهروا لبني عبد المطلب العداوة والشتم ، فجمع أبو طالب رهطه ، فقاموا بين أستار الكعبة يدعون الله على من ظلمهم ، وقال أبو طالب : إن أبى قومنا إلا البغي علينا فعجل نصرنا ، وحل بينهم ، وبين الذي يريدون من قتل ابن أخي ، ثم دخل بآله الشعب .

ابن إسحاق : حدثني العباس بن عبد الله بن معبد ، عن بعض أهله ، عن ابن عباس ، قال : لما أتى النبي صلى الله عليه وسلم أبا طالب قال : أي عم ، [ ص: 191 ] قل لا إله إلا الله أستحل لك بها الشفاعة . قال : يا ابن أخي ، والله لولا أن تكون سبة على أهل بيتك ، يرون أني قلتها جزعا من الموت ، لقلتها ، لا أقولها إلا لأسرك بها ، فلما ثقل أبو طالب رئي يحرك شفتيه ، فأصغى إليه أخوه العباس ثم رفع عنه فقال : يا رسول الله قد والله قالها ، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " لم أسمع " .

قلت : هذا لا يصح ، ولو كان سمعه العباس يقولها لما سأل النبي صلى الله عليه وسلم وقال : هل نفعت عمك بشيء ، ولما قال علي بعد موته : يا رسول الله إن عمك الشيخ الضال قد مات . صح أن عمرو بن دينار روى عن أبي سعيد بن رافع ، قال : سألت ابن عمر : ( إنك لا تهدي من أحببت ( 56 ) ) [ القصص ] نزلت في أبي طالب ؟ قال : نعم .

زيد بن الحباب ، قال : حدثنا حماد ، عن ثابت ، عن إسحاق بن عبد الله بن الحارث ، عن العباس ، أنه سأل النبي صلى الله عليه وسلم ما ترجو لأبي طالب ؟ قال : " كل الخير من ربي " .

أيوب ، عن ابن سيرين ، قال : لما احتضر أبو طالب دعا النبي صلى الله عليه وسلم فقال : يا ابن أخي إذا أنا مت فأت أخوالك من بني النجار ، فإنهم أمنع الناس لما في بيوتهم .

قال عروة بن الزبير : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : ما زالت قريش كاعة عني حتى مات عمي .

كاعة : جمع كائع ، وهو الجبان ، يقال : كع : إذا جبن وانقبض .

وقال يزيد بن كيسان : حدثني أبو حازم ، عن أبي هريرة ، قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم لعمه : " قل لا إله إلا الله أشهد لك بها يوم القيامة " فقال : لولا أن تعيرني قريش ، يقولون : إنما حمله عليه الجزع لأقررت بها عينك . فأنزل الله : ( إنك لا تهدي من أحببت ( 56 ) ) الآية : أخرجه [ ص: 192 ] مسلم .

وقال أبو عوانة ، عن عبد الملك بن عمير ، عن عبد الله بن الحارث بن نوفل ، عن العباس أنه قال : يا رسول الله هل نفعت أبا طالب بشيء ، فإنه كان يحوطك ويغضب لك ؟ قال : " نعم . هو في ضحضاح من النار ، ولولا أنا لكان في الدرك الأسفل من النار " . أخرجاه . وكذلك رواه السفيانان ، عن عبد الملك .

وقال الليث ، عن ابن الهاد ، عن عبد الله بن خباب ، عن أبي سعيد الخدري ، أنه سمع رسول الله صلى الله عليه وسلم : يقول : وذكر عنده عمه أبو طالب فقال : " لعله تنفعه شفاعتي يوم القيامة ، فجعل في ضحضاح من النار يبلغ كعبيه يغلي منه دماغه " . أخرجاه .

وقال حماد بن سلمة ، عن ثابت ، عن أبي عثمان ، عن ابن عباس ، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : أهون أهل النار عذابا أبو طالب منتعل بنعلين يغلي منهما دماغه . مسلم .

وقال الثوري وغيره ، عن أبي إسحاق ، عن ناجية بن كعب ، عن علي رضي الله عنه ، قال : لما مات أبو طالب أتيت النبي صلى الله عليه وسلم فقلت : إن عمك الشيخ الضال قد مات . قال : " اذهب فوار أباك ولا تحدثن شيئا حتى تأتيني " . فأتيته فأمرني فاغتسلت ، ثم دعا لي بدعوات ما يسرني أن لي بهن ما على الأرض من شيء . ورواه الطيالسي في " مسنده " . عن شعبة ، عن أبي إسحاق فزاد بعد اذهب فواره : فقلت : إنه مات مشركا .

[ ص: 193 ] قال : " اذهب فواره " ، وفي حديث تصريح السماع من ناجية قال : شهدت عليا يقول . وهذا حديث حسن متصل .

وقال عبد الله بن إدريس : حدثنا محمد بن إسحاق ، عمن حدثه ، عن عروة بن الزبير ، عن عبد الله بن جعفر ، قال : لما مات أبو طالب عرض لرسول الله صلى الله عليه وسلم سفيه من قريش ، فألقى عليه ترابا ، فرجع إلى بيته ، فأتت بنته تمسح عن وجهه التراب وتبكي فجعل يقول : " أي بنية لا تبكين ، فإن الله مانع أباك " ، ويقول ما بين ذلك : " ما نالت مني قريش شيئا أكرهه حتى مات أبو طالب . غريب مرسل .

وروي عن ابن جريج ، عن عطاء ، عن ابن عباس أن النبي صلى الله عليه وسلم عارض جنازة أبي طالب ، فقال : " وصلتك رحم يا عم وجزيت خيرا " . تفرد به إبراهيم بن عبد الرحمن الخوارزمي . وهو منكر الحديث يروي عنه عيسى غنجار ، والفضل السيناني .

وقال يونس بن بكير ، عن ابن إسحاق : حدثني العباس بن عبد الله بن معبد ، عن بعض أهله ، عن ابن عباس ، قال : لما أتى رسول الله صلى الله عليه وسلم أبا طالب في مرضه قال : " أي عم ، قل لا إله إلا الله أستحل لك بها الشفاعة يوم القيامة " . فقال : يا ابن أخي والله لولا أن تكون سبة عليك وعلى أهل بيتك من بعدي يرون أني قلتها جزعا حين نزل بي الموت لقلتها ، لا أقولها إلا لأسرك بها ، فلما ثقل أبو طالب رئي يحرك شفتيه ، فأصغى إليه العباس ليستمع قوله ، فرفع العباس عنه ، فقال : يا رسول [ ص: 194 ] الله ، قد والله قال الكلمة التي سألته ، فقال النبي صلى الله عليه وسلم : " لم أسمع .

إسناده ضعيف لأن فيه مجهولا ، وأيضا ، فكان العباس ذلك الوقت على جاهليته ، ولهذا إن صح الحديث لم يقبل النبي صلى الله عليه وسلم روايته وقال له : لم أسمع ، وقد تقدم أنه بعد إسلامه قال : يا رسول الله هل نفعت أبا طالب بشيء ، فإنه كان يحوطك ويغضب لك ، فلو كان العباس عنده علم من إسلام أخيه أبي طالب لما قال هذا ، ولما سكت عند قول النبي صلى الله عليه وسلم " هو في ضحضاح من النار " ، ولقال : إني سمعته يقول : لا إله إلا الله ، ولكن الرافضة قوم بهت .

وقال ابن إسحاق : ثم إن خديجة بنت خويلد رضي الله عنها وأبا طالب ماتا في عام واحد فتتابعت على رسول الله صلى الله عليه وسلم المصائب بهلاكهما .

وكانت خديجة وزيرة صدق على الإسلام ، كان يسكن إليها .

وذكر الواقدي أنهم خرجوا من الشعب قبل الهجرة بثلاث سنين ، وأنهما توفيا في ذلك العام ، وتوفيت خديجة قبل أبي طالب بخمسة وثلاثين يوما .

وذكر أبو عبد الله الحاكم أن موتها كان بعد موت أبي طالب بثلاثة أيام ، وكذا قال غيره .

وهي خديجة بنت خويلد بن أسد بن عبد العزى بن قصي الأسدية .

قال الزبير بن بكار : كانت تدعى في الجاهلية الطاهرة ، وأمها فاطمة بنت زائدة بن الأصم العامرية . وكانت خديجة تحت أبي هالة بن زرارة التميمي ، واختلف في اسم أبي هالة ، ثم خلف عليها بعده عتيق بن عائذ [ ص: 195 ] بن عبد الله بن عمر بن مخزوم ، ثم النبي صلى الله عليه وسلم .

وقال ابن إسحاق : بل تزوجها أبو هالة بعد عتيق . وكانت وزيرة صدق على الإسلام .

وعن عائشة ، قالت : توفيت خديجة قبل أن تفرض الصلاة ، وقيل : كان موتها في رمضان ، ودفنت بالحجون ، وقيل : إنها عاشت خمسا وستين سنة .

وقال الزبير : تزوجها النبي صلى الله عليه وسلم ولها أربعون سنة ، وأقامت معه أربعا وعشرين سنة .

قال مروان بن معاوية الفزاري ، عن وائل بن داود ، عن عبد الله البهي ، قال : قالت عائشة : كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا ذكر خديجة لم يكد يسأم من ثناء عليها ، واستغفار لها ، فذكرها يوما ، فاحتملتني الغيرة ، فقلت : لقد عوضك الله من كبيرة السن ، فرأيته غضب غضبا أسقطت في خلدي ، وقلت في نفسي : اللهم إنك إن أذهبت غضب رسولك عني لم أعد إلى ذكرها بسوء ، فلما رأى النبي صلى الله عليه وسلم ما لقيت قال : " كيف قلت ، والله لقد آمنت بي إذ كفر بي الناس ، وآوتني إذ رفضني الناس ، وصدقتني إذ كذبني الناس ، ورزقت منها الولد ، وحرمتموه مني " ، قالت : فغدا وراح علي بها شهرا .

وقال هشام بن عروة ، عن أبيه ، عن عائشة ، قالت : ما غرت على امرأة ما غرت على خديجة ، مما كنت أسمع من ذكر رسول الله صلى الله عليه وسلم لها ، وما تزوجني إلا بعد موتها بثلاث سنين ، ولقد أمره ربه أن يبشرها ببيت في الجنة من قصب لا صخب فيه ولا نصب . متفق عليه .

وقال الزهري : توفيت خديجة قبل أن تفرض الصلاة .

[ ص: 196 ] وقال ابن فضيل ، عن عمارة ، عن أبي زرعة ، سمع أبا هريرة يقول : أتى جبريل النبي صلى الله عليه وسلم فقال : هذه خديجة ، أتتك معها إناء فيه إدام طعام أو شراب ، فإذا هي أتتك فاقرأ عليها السلام من ربها ومني ، وبشرها ببيت في الجنة من قصب ، لا صخب فيه ولا نصب . متفق عليه .

وقال عبد الله بن جعفر : سمعت عليا رضي الله عنه يقول : سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول : خير نسائها خديجة بنت خويلد ، وخير نسائها مريم بنت عمران . أخرجه مسلم .

التالي السابق


الخدمات العلمية