صفحة جزء
[ ص: 258 ] ذكر أول من هاجر إلى المدينة عقيل وغيره ، عن الزهري ، عن عروة ، عن عائشة : قال النبي صلى الله عليه وسلم للمسلمين بمكة : قد أريت دار هجرتكم ، أريت سبخة ذات نخل بين لابتين . وهما الحرتان . فهاجر من هاجر قبل المدينة عند ذلك ، ورجع إلى المدينة بعض من كان هاجر إلى أرض الحبشة من المسلمين ، وتجهز أبو بكر مهاجرا ، فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم : على رسلك فإني أرجو أن يؤذن لي ، فقال أبو بكر : وترجو ذلك بأبي أنت وأمي ؟ قال : نعم . فحبس أبو بكر نفسه على رسول الله صلى الله عليه وسلم ليصحبه ، وعلف راحلتين عنده ورق السمر أربعة أشهر . أخرجه البخاري .

وقال البكائي ، عن ابن إسحاق ، قال : فلما أذن الله لنبيه في الحرب وبايعه هذا الحي من الأنصار على الإسلام والنصرة ، أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم قومه بالخروج إلى المدينة والهجرة إليها واللحوق بالأنصار ، فخرجوا أرسالا ، فكان أول من هاجر أبو سلمة بن عبد الأسد إلى المدينة ، هاجر إليها قبل العقبة الكبرى بسنة ، وقد كان قدم من الحبشة مكة ، فآذته قريش ، وبلغه أن جماعة من الأنصار قد أسلموا ، فهاجر إلى المدينة .

فعن أم سلمة ، قلت : لما أجمع أبو سلمة الخروج رحل لي بعيره ، ثم حملني وابني عليه ، ثم خرج بي يقودني . فلما رأته رجال بني المغيرة [ ص: 259 ] قاموا إليه ، فقالوا : هذه نفسك غلبتنا عليها ، هذه ، علام نتركك تسير بها في البلاد! فنزعوا خطام البعير من يده ، فأخذوني منه ، وغضب عند ذلك رهط أبي سلمة ، فقالوا : والله لا نترك ابننا عندها إذ نزعتموها من صاحبنا . فتجاذبوا ابني سلمة حتى خلعوا يده ، وانطلقوا به بنو عبد الأسد ، وحبسني بنو المغيرة عندهم ، فانطلق زوجي إذ فرقوا بيننا ، فكنت أخرج كل غداة فأجلس بالأبطح ، فلا أزال أبكي حتى أمسي ، سنة أو قريبا منها . حتى مر بي رجل من بني عمي فرحمني ، فقال لي : الحقي بزوجك . قالت : ورد بنو عبد الأسد إلي عند ذلك ابني . فارتحلت بعيري ، ثم وضعت سلمة في حجري ، وخرجت أريد زوجي بالمدينة ، وما معي أحد من خلق الله ، قلت : أتبلغ بمن لقيت حتى أقدم على زوجي ، حتى إذا كنت بالتنعيم لقيت عثمان بن طلحة العبدري ، فقال : إلى أين يا ابنة أبي أمية ؟ قلت : أريد زوجي بالمدينة . قال : أو ما معك أحد ؟ قالت : قلت : لا والله إلا الله وبني هذا . قال : والله ما لك من مترك . فأخذ بخطام البعير ، فانطلق معي يهوي بي ، فوالله ما صحبت رجلا من العرب ، أرى أنه أكرم منه ، كان أبدا إذا بلغ المنزل أناخ بي ، ثم استأخر عني حتى إذا نزلت استأخر ببعيري ، فحط عنه ، ثم قيده في الشجر ، ثم تنحى إلى الشجرة ، فاضطجع تحتها ، فإذا دنا الرواح قام إلى بعيري فرحله ، ثم استأخر عني وقال : اركبي ، فإذا ركبت واستويت على بعيري أتى فأخذ بخطامه ، فقادني حتى ينزل بي ، فلم يزل يصنع ذلك حتى أقدمني المدينة ، فلما نظر إلى قرية بني عمرو بن عوف بقباء ، قال : زوجك في هذه القرية ، ثم انصرف راجعا .

ثم كان أول من قدمها بعد أبي سلمة : عامر بن ربيعة حليف بني عدي بن كعب مع امرأته ، ثم عبد الله بن جحش حليف بني أمية ، مع [ ص: 260 ] امرأته وأخيه أبي أحمد ، وكان أبو أحمد ضرير البصر ، وكان يمشي بمكة بغير قائد ، وكان شاعرا ، وكانت عنده الفرعة بنت أبي سفيان بن حرب ، وكانت أمه أميمة بنت عبد المطلب ، فنزل هؤلاء بقباء على مبشر بن عبد المنذر .

وقال موسى بن عقبة ، عن ابن شهاب ، قال : فلما اشتدوا على رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه ، أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم أصحابه بالهجرة ، فخرجوا رسلا رسلا ، فخرج منهم قبل مخرج رسول الله صلى الله عليه وسلم : أبو سلمة وامرأته ، وعامر بن ربيعة ، وامرأته أم عبد الله بنت أبي حثمة ، ومصعب بن عمير ، وعثمان بن مظعون ، وأبو حذيفة بن عتبة بن ربيعة ، وعبد الله بن جحش ، وعثمان بن الشريد ، وعمار بن ياسر . ثم خرج عمر وعياش بن أبي ربيعة وجماعة ، فطلب أبو جهل والحارث بن هشام عياشا ، وهو أخوهم لأمهم ، فقدموا المدينة فذكروا له حزن أمه ، وأنها حلفت لا يظلها سقف ، وكان بها برا ، فرق لها وصدقهم ، فلما خرجا به أوثقاه وقدما به مكة ، فلم يزل بها إلى قبل الفتح .

قلت : وهو الذي كان يدعو له النبي صلى الله عليه وسلم في القنوت : اللهم أنج سلمة بن هشام ، وعياش بن أبي ربيعة . . الحديث .

قال ابن شهاب : وخرج عبد الرحمن بن عوف ، فنزل على سعد بن الربيع ، وخرج عثمان ، والزبير ، وطلحة بن عبيد الله ، وطائفة ، ومكث ناس من الصحابة بمكة ، حتى قدموا المدينة بعد مقدمه ، منهم : سعد بن أبي وقاص ، على اختلاف فيه .

وقال يونس ، عن ابن إسحاق : حدثني نافع ، عن ابن عمر ، عن أبيه عمر بن الخطاب ، قال : لما اجتمعنا للهجرة اتعدت أنا وعياش بن [ ص: 261 ] أبي ربيعة ، وهشام بن العاص بن وائل ، وقلنا : الميعاد بيننا التناضب من أضاة بني غفار ، فمن أصبح منكم لم يأتها فقد حبس . فأصبحت عندها أنا وعياش ، وحبس هشام وفتن فافتتن ، وقدمنا المدينة فكنا نقول : ما الله بقابل من هؤلاء توبة ، قوم عرفوا الله وآمنوا به وصدقوا رسوله ، ثم رجعوا عن ذلك لبلاء أصابهم في الدنيا فأنزلت : ( قل يا عبادي الذين أسرفوا على أنفسهم ( 53 ) ) [ الزمر ] ، فكتبتها بيدي كتابا ، ثم بعثت بها إلى هشام ، فقال هشام بن العاص : فلما قدمت علي خرجت بها إلى ذي طوى أصعد فيها النظر وأصوبه لأفهمها ، فقلت : اللهم فهمنيها ، فعرفت أنما أنزلت فينا لما كنا نقول في أنفسنا ، ويقال فينا ، فرجعت فجلست على بعيري ، فلحقت برسول الله صلى الله عليه وسلم ، قال : فقتل هشام بأجنادين .

وقال عبد العزيز الدراوردي ، عن عبيد الله ، عن نافع ، عن ابن عمر ، قال : قدمنا من مكة فنزلنا العصبة عمر بن الخطاب ، وأبو عبيدة ، وسالم مولى أبي حذيفة ، فكان يؤمهم سالم ، لأنه كان أكثرهم قرآنا .

وقال إسرائيل ، عن أبي إسحاق ، عن البراء ، قال : أول من قدم علينا مصعب بن عمير ، فقلنا له : ما فعل رسول الله صلى الله عليه وسلم ؟ قال : هو مكانه وأصحابه على أثري . ثم أتى بعده عمرو بن أم مكتوم الأعمى أخو بني فهر ، ثم عمار بن ياسر ، وسعد بن أبي وقاص ، وابن مسعود ، وبلال ، ثم أتانا عمر بن الخطاب في عشرين راكبا ، ثم أتانا رسول الله صلى الله عليه وسلم وأبو بكر معه ، فلم يقدم علينا رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى قرأت سورا من المفصل . أخرجه مسلم .

[ ص: 262 ] وقال ابن لهيعة ، عن أبي الأسود ، عن عروة ، قال : ومكث رسول الله صلى الله عليه وسلم بعد الحج بقية ذي الحجة ، والمحرم ، وصفر ، وإن مشركي قريش أجمعوا أمرهم ومكرهم ، على أن يأخذوا رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فإما أن يقتلوه أو يحبسوه أو يخرجوه ، فأخبره الله بمكرهم في قوله : ( وإذ يمكر بك الذين كفروا ( 30 ) ) [ الأنفال ] الآية ، فخرج رسول الله صلى الله عليه وسلم وأبو بكر تحت الليل قبل الغار بثور ، وعمد علي فرقد على فراش رسول الله صلى الله عليه وسلم يواري عنه العيون .

وكذا قال موسى بن عقبة ، وزاد : فباتت قريش يختلفون ويأتمرون أيهم يجثم على صاحب الفراش فيوثقه ، إلى أن أصبحوا ، فإذا هم بعلي رضي الله عنه ، فسألوه عن النبي صلى الله عليه وسلم فأخبرهم أنه لا علم له به ، فعلموا عند ذلك أنه قد خرج فارا منهم ، فركبوا في كل وجه يطلبونه .

وكذا قال ابن إسحاق ، وقال : لما أيقنت قريش أن محمدا قد بويع ، وأمر رسول الله صلى الله عليه وسلم من كان بمكة من أصحابه أن يلحقوا بإخوانهم بالمدينة ، توامروا فيما بينهم فقالوا : الآن ، فأجمعوا في أمر محمد فوالله لكأنه قد كر عليكم بالرجال ، فأثبتوه أو اقتلوه أو أخرجوه .

فاجتمعوا له في دار الندوة ليقتلوه ، فلما دخلوا الدار اعترضهم الشيطان في صورة رجل جميل في بت له فقال : أأدخل ؟ قالوا : من أنت قال : أنا رجل من أهل نجد ، سمع بالذي اجتمعتم له ، فأراد أن يحضره معكم ، فعسى أن لا يعدمكم منه نصح ورأي . قالوا : أجل فادخل . فلما دخل قال بعضهم لبعض : قد كان من الأمر ما قد علمتم ، فأجمعوا رأيا في هذا الرجل ، فقال قائل : أرى أن تحبسوه . فقال [ ص: 263 ] النجدي : ما ذا برأي ، والله لئن فعلتم ليخرجن رأيه وحديثه إلى من وراءه من أصحابه ، فأوشك أن ينتزعوه من أيديكم ، ثم يغلبوكم على ما في أيديكم من أمركم . فقال قائل منهم : بل نخرجه فننفيه ، فإذا غيب عنا وجهه وحديثه ما نبالي أين وقع . قال النجدي : ما ذا برأي ، أما رأيتم حلاوة منطقه ، وحسن حديثه ، وغلبته على من يلقاه ، ولئن فعلتم ذلك ليدخل على قبيلة من قبائل العرب فأصفقت معه على رأيه ، ثم سار بهم إليكم حتى يطأكم بهم . فقال أبو جهل : والله إن لي فيه لرأيا ، ما أراكم وقعتم عليه ، قالوا : وما هو ؟ قال : أرى أن تأخذوا من كل قبيلة من قريش غلاما جلدا نهدا نسيبا وسيطا ، ثم تعطوهم شفارا صارمة ، فيضربوه ضربة رجل واحد ، فإذا قتلتموه تفرق دمه في القبائل ، فلم تدر عبد مناف بعد ذلك ما تصنع ، ولم يقووا على حرب قومهم ، وإنما غايتهم عند ذلك أن يأخذوا العقل فتدونه لهم . قال النجدي : لله در هذا الفتى ، هذا الرأي وإلا فلا شيء ، فتفرقوا على ذلك واجتمعوا له ، وأتى رسول الله صلى الله عليه وسلم الخبر وأمر أن لا ينام على فراشه تلك الليلة ، فلم يبت موضعه ، بل بيت عليا في مضجعه . رواه سعيد بن يحيى بن سعيد الأموي ، عن أبيه .

حدثنا ابن إسحاق ، عن عبد الله بن أبي نجيح ، عن مجاهد ، عن ابن عباس . ( ح ) قال ابن إسحاق : وحدثني الكلبي عن باذان مولى أم هانئ ، عن ابن عباس ، فذكر معنى الحديث ، وزاد فيه : وأذن الله عند ذلك بالخروج ، وأنزل عليه بالمدينة ( الأنفال ) يذكر نعمته عليه [ ص: 264 ] وبلاءه عنده وإذ يمكر بك الذين كفروا ليثبتوك أو يقتلوك [ الأنفال ] . الآية .

التالي السابق


الخدمات العلمية