صفحة جزء
[ ص: 289 ]

حجة الوداع

قال جعفر بن محمد الصادق ، عن أبيه ، عن جابر ، قال : أذن رسول الله صلى الله عليه وسلم في الناس بالحج ، فاجتمع في المدينة بشر كثير . فخرج رسول الله صلى الله عليه وسلم لخمس بقين من ذي القعدة ، أو لأربع ، فلما كان بذي الحليفة ولدت أسماء بنت عميس محمد بن أبي بكر الصديق ، فأرسلت إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم : كيف أصنع ؟ فقال : " اغتسلي واستثفري بثوب " وصلى رسول الله صلى الله عليه وسلم في المسجد ، وركب القصواء حتى استوت به على البيداء ، فنظرت إلى مد بصري ، بين يدي رسول الله صلى الله عليه وسلم ، من راكب وماش ، وعن يمينه مثل ذلك ، وعن يساره مثل ذلك ، ومن خلفه مثل ذلك . فأهل رسول الله صلى الله عليه وسلم بالتوحيد ، وأهل الناس بهذا الذي يهلون به ، فلم يرد عليهم شيئا منه . ولزم رسول الله صلى الله عليه وسلم تلبيته . ولسنا ننوي إلا الحج ، لسنا نعرف العمرة ، حتى أتينا البيت معه استلم الركن فرمل ثلاثا ومشى أربعا ، ثم تقدم إلى مقام إبراهيم فقرأ : ( واتخذوا من مقام إبراهيم مصلى ( 125 ) ) [ البقرة ] فجعل المقام بينه وبين البيت .

قال جعفر : فكان أبي يقول : - لا أعلمه ذكره إلا عن رسول الله صلى الله عليه وسلم : كان يقرأ في الركعتين ( قل هو الله أحد ( 1 ) ) [ الإخلاص ] و : ( قل يا أيها الكافرون ( 1 ) ) [ الكافرون ] ثم رجع إلى البيت فاستلم الركن ، ثم خرج من الباب إلى الصفا ، حتى إذا دنا من الصفا قرأ : ( إن الصفا والمروة من شعائر الله ( 158 ) ) [ البقرة ] أبدأ بما بدأ الله به ، فبدأ بالصفا فرقي عليه ، حتى إذا رأى البيت فكبر وهلل وقال : لا إله إلا الله [ ص: 290 ] وحده ، لا شريك له ، له الملك وله الحمد ، يحيي ويميت ، وهو على كل شيء قدير . لا إله إلا الله وحده ، أنجز وعده ، ونصر عبده ، وهزم الأحزاب وحده . ثم دعا بين ذلك ، فقال مثل ذلك ثلاث مرات . ثم نزل إلى المروة ، حتى إذا انصبت قدماه رمل في بطن الوادي ، حتى إذا صعد مشى حتى أتى المروة ، فعلا عليها وفعل كما فعل على الصفا . فلما كان آخر الطواف على المروة ، قال : " إني لو استقبلت من أمري ما استدبرت لم أسق الهدي وجعلتها عمرة . فمن كان منكم ليس معه هدي فليحلل وليجعلها عمرة " فحل الناس كلهم وقصروا ، إلا النبي صلى الله عليه وسلم ومن كان معه الهدي .

فقام سراقة بن مالك بن جعشم ، فقال : يا رسول الله ألعامنا هذا أم للأبد ؟ قال فشبك أصابعه وقال : " دخلت العمرة في الحج هكذا ; مرتين ، لا ; بل لأبد الأبد " .

وقدم علي ، رضي الله عنه من اليمن ببدن إلى النبي صلى الله عليه وسلم ، فوجد فاطمة ممن حل ولبست ثيابا صبيغا واكتحلت ، فأنكر عليها . فقالت : أبي أمرني بهذا . فكان علي يقول بالعراق : فذهبت إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم محرشا بالذي صنعته ، مستفتيا رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فقال : " صدقت ، صدقت . ماذا قلت حين فرضت الحج ؟ " قال : قلت : اللهم إني أهل بما أهل به رسولك . قال : " فإن معي الهدي فلا تحلل " قال : فكان الهدي الذي جاء معه ، والهدي الذي أتى به النبي صلى الله عليه وسلم من المدينة مائة . ثم حل الناس وقصروا ، إلا رسول الله صلى الله عليه وسلم ، ومن معه هدي .

فلما كان يوم التروية وجهوا إلى منى ، أهلوا بالحج ، وركب رسول الله صلى الله عليه وسلم فصلى بمنى الظهر والعصر والمغرب والعشاء والصبح . ثم مكث قليلا حتى طلعت الشمس ، وأمر بقبة من شعر فضربت له [ ص: 291 ] بنمرة ، فسار رسول الله صلى الله عليه وسلم ولا تشك قريش إلا أنه واقف عند المشعر الحرام ، كما كانت قريش تصنع في الجاهلية ، فأجازه رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى أتى عرفة ، فوجد القبة فنزل بها ، حتى إذا زاغت الشمس أمر بالقصواء فرحلت له ، فركب حتى أتى بطن الوادي ، فخطب الناس فقال : " إن دماءكم وأموالكم عليكم حرام ، كحرمة يومكم هذا ، في شهركم هذا في بلدكم هذا ، ألا وإن كل شيء من أمر الجاهلية موضوع تحت قدمي ، ودماء الجاهلية موضوعة ، وأول دم أضعه من دمائنا دم ربيعة بن الحارث ; كان مسترضعا في بني سعد فقتلته هذيل . وربا الجاهلية موضوع كله . فاتقوا الله في النساء ، فإنكم أخذتموهن بأمانة الله ، واستحللتم فروجهن بكلمة الله ، وإن لكم عليهن أن لا يوطئن فرشكم من تكرهونه ، فإن فعلن ذلك فاضربوهن ضربا غير مبرح ، ولهن عليكم رزقهن وكسوتهن بالمعروف . وقد تركت فيكم ما لن تضلوا بعده إن اعتصمتم به ; كتاب الله تعالى . وأنتم مسئولون عني ، فما أنتم قائلون ؟ قالوا : نشهد أن قد بلغت وأديت ونصحت . فقال : بإصبعه السبابة ، يرفعها إلى السماء وينكبها إلى الناس : اللهم اشهد ; ثلاث مرات . ثم أذن بلال ، ثم أقام ، فصلى الظهر ، ثم أقام ، فصلى العصر ، ولم يصل بينهما شيئا . ثم ركب حتى أتى الموقف ، فجعل بطن ناقته إلى الصخرات ، وجعل حبل المشاة بين يديه ، واستقبل القبلة فلم يزل واقفا حتى غربت الشمس ، وذهبت الصفرة قليلا حين غاب القرص ، وأردف أسامة بن زيد خلفه فدفع وقد شنق للقصواء الزمام ، حتى إن [ ص: 292 ] رأسها ليصيب مورك رحله ، ويقول بيده : أيها الناس ، السكينة السكينة ، كلما أتى حبلا من‌ الحبال أرخى لها قليلا حتى تصعد . حتى أتى المزدلفة ، فصلى بها المغرب والعشاء بأذان وإقامتين ، ولم يصل بينهما شيئا . ثم اضطجع حتى طلع الفجر ، فصلى الفجر حتى تبين له الصبح بأذان وإقامة . ثم ركب القصواء حتى أتى المشعر الحرام فرقي عليه فحمد الله وكبره وهلله . فلم يزل واقفا حتى أسفر جدا ، ثم دفع قبل أن تطلع الشمس ، وأردف الفضل بن عباس ، وكان رجلا حسن الشعر وسيما . فلما دفع رسول الله صلى الله عليه وسلم مر الظعن يجرين ، فطفق الفضل ينظر إليهن ، فوضع رسول الله صلى الله عليه وسلم يده على وجه الفضل ، فصرف الفضل وجهه من الشق الآخر ، فحول رسول الله صلى الله عليه وسلم يده على وجه الفضل . حتى إذا أتى محسرا حرك قليلا ، ثم سلك الطريق الوسطى التي تخرجك على الجمرة الكبرى ، حتى أتى الجمرة التي عند المسجد ، فرمى بسبع حصيات ، يكبر مع كل حصاة منها مثل حصى الخذف رمى من بطن الوادي . ثم انصرف إلى المنحر ، فنحر ثلاثا وستين بدنة ، وأعطى عليا رضي الله عنه ، فنحر ما غبر وأشركه في هديه . ثم أمر من كل بدنة ببضعة فجعلت في قدر ، وطبخت ، فأكلا من لحمها وشربا من مرقها .

ثم أفاض رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى البيت ، فصلى بمكة الظهر ، فأتى على بني عبد المطلب يسقون من بئر زمزم ، فقال : " انزعوا بني عبد المطلب ، فلولا أن يغلبكم الناس على سقايتكم لنزعت معكم " فناولوه دلوا فشرب منه
. أخرجه مسلم ، دون قوله : يحيي ويميت .

وقال شعبة ، عن قتادة ، عن أبي حسان الأعرج ، عن ابن عباس : أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لما أتى ذا الحليفة أشعر بدنة من جانب سنامها الأيمن ، [ ص: 293 ] ثم سلت عنها الدم ، وأهل بالحج . أخرجه مسلم .

وقال أيمن بن نابل : حدثني قدامة بن عبد الله ، قال : رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم يرمي جمرة العقبة على ناقة حمراء ; وفي رواية ; صهباء ; لا ضرب ولا طرد ولا إليك إليك . حديث حسن .

وقال ثور بن يزيد ، عن راشد بن سعد ، عن عبد الله بن لحي ، عن عبد الله بن قرط ، قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " أفضل الأيام عند الله يوم النحر ، ثم يوم القر ، يستقر فيه الناس ، وهو الذي يلي يوم النحر " قدم إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم بدنات ، خمس أو ست ، فطفقن يزدلفن إليه بأيتهن يبدأ ، فلما وجبت جنوبها قال رسول الله صلى الله عليه وسلم كلمة خفية لم أفهمها ، فقلت للذي إلى جنبي : ما قال ؟ قال : قال : " من شاء اقتطع " حديث حسن .

وقال هشام ، عن ابن سيرين ، عن أنس ، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم رمى الجمرة ، ثم رجع إلى منزله بمنى ، فذبح ، ثم دعا بالحلاق فأخذ بشق رأسه الأيمن ، فحلقه ، فجعل يقسمه الشعرة والشعرتين ، ثم أخذ بشق رأسه الأيسر فحلقه ، ثم قال : هاهنا أبو طلحة ؟ فدفعه إلى أبي طلحة رواه مسلم .

وقال أبان العطار : حدثنا يحيى ، قال : حدثني أبو سلمة ، أن محمد بن عبد الله بن زيد حدثه ، أن أباه شهد المنحر عند رسول الله صلى الله عليه وسلم فقسم [ ص: 294 ] بين أصحابه ضحايا ، فلم يصبه ولا رفيقه . قال : فحلق رسول الله صلى الله عليه وسلم رأسه في ثوبه فأعطاه ، فقسم منه على رجال ، وقلم أظفاره فأعطى صاحبه ، فإنه لمخضوب عندنا بالحناء والكتم .

وقال علي بن الجعد : حدثنا الربيع بن صبيح ، عن يزيد الرقاشي ، عن أنس ، قال : حج رسول الله صلى الله عليه وسلم على رحل رث وقطيفة تساوي ، أو لا تساوي أربعة دراهم ، وقال : " اللهم حجة لا رياء فيها ولا سمعة " يزيد ضعيف .

وقال أبو عميس ، عن قيس بن مسلم ، عن طارق بن شهاب ، قال : جاء رجل من اليهود إلى عمر ؛ رضي الله عنه ، فقال : يا أمير المؤمنين ، آية في كتابكم تقرءونها لو علينا معشر اليهود نزلت لاتخذنا ذلك اليوم عيدا . قال : أي آية ؟ قال : ( اليوم أكملت لكم دينكم وأتممت عليكم نعمتي ورضيت لكم الإسلام دينا ( 3 ) ) [ المائدة ] فقال : إني لأعلم اليوم الذي نزلت فيه ، والمكان الذي نزلت فيه : نزلت على رسول الله صلى الله عليه وسلم بعرفات في يوم جمعة . متفق عليه .

وقال حماد بن سلمة ، عن عمار بن أبي عمار ، قال : كنت عند ابن عباس وعنده يهودي ، فقرأ : ( اليوم أكملت لكم دينكم ( 3 ) ) [ المائدة ] الآية . فقال اليهودي : لو أنزلت علينا لاتخذنا يومها عيدا . فقال ابن عباس : فإنها نزلت في يوم عيد ، يوم جمعة ، يوم عرفة . صحيح على شرط مسلم .

وقال ابن جريج ، عن أبي الزبير ، أخبره أنه سمع جابرا ، يقول : رأيت النبي صلى الله عليه وسلم يرمي الجمرة على راحلته يوم النحر ، ويقول : " خذوا [ ص: 295 ] مناسككم ، فإني لا أدري لعلي لا أحج بعد حجتي هذه " أخرجه مسلم .

وقال إسماعيل بن أبي أويس : حدثني أبي ، عن ثور بن يزيد ، عن عكرمة ، عن ابن عباس : أن رسول الله صلى الله عليه وسلم خطب الناس في حجة الوداع ، فقال : " إن الشيطان قد يئس أن يعبد بأرضكم ، ولكنه رضي أن يطاع فيما سوى ذلك مما تحاقرون من أعمالكم ، فاحذروه . أيها الناس : إني قد تركت فيكم ما إن اعتصمتم به لن تضلوا أبدا ; كتاب الله وسنة نبيه . إن كل مسلم أخو المسلم ، المسلمون إخوة ، ولا يحل لامرئ من مال أخيه إلا ما أعطاه عن طيب نفس ، ولا تظلموا ، ولا ترجعوا بعدي كفارا يضرب بعضكم رقاب بعض " .

وقال يونس بن بكير ، عن ابن إسحاق : حدثني يحيى بن عباد بن عبد الله بن الزبير ، عن أبيه ، قال : وكان ربيعة بن أمية بن خلف الجمحي هو الذي يصرخ يوم عرفة تحت لبة ناقة رسول الله صلى الله عليه وسلم . قال له : " اصرخ : أيها الناس " - وكان صيتا - " هل تدرون أي شهر هذا ؟ " فصرخ ، فقالوا : نعم ، الشهر الحرام . قال : " فإن الله حرم عليكم دماءكم وأموالكم إلى أن تلقوا ربكم كحرمة شهركم هذا " وذكر الحديث .

وقال الزهري ، من حديث الأوزاعي ، عنه ، عن أبي سلمة ، عن أبي هريرة : أن رسول الله صلى الله عليه وسلم حين أراد أن ينفر من منى قال : " إنا نازلون غدا إن شاء الله بالمحصب بخيف بني كنانة ، حيث تقاسموا على الكفر " وذلك أن قريشا تقاسموا على بني هاشم وعلى بني عبد المطلب أن لا يناكحوهم ولا يخالطوهم حتى يسلموا إليهم رسول الله صلى الله عليه وسلم . اتفقا [ ص: 296 ] عليه .

وقال أفلح بن حميد ، عن القاسم ، عن عائشة ، قالت : خرجنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم ليالي الحج . قالت : فلما تفرقنا من منى نزلنا المحص‍ب . وذكر الحديث . متفق عليه .

وقال أبو إسحاق السبيعي ، عن زيد بن أرقم : أن رسول الله صلى الله عليه وسلم غزا تسع عشرة غزوة ، وحج بعدما هاجر حجة الوداع ، لم يحج بعدها .

قال أبو إسحاق من قبله : وواحدة بمكة . اتفقا عليه .

ويروى عن ابن عباس أنه كان يكره أن يقال : حجة الوداع ، ويقول : حجة الإسلام .

وقال زيد بن الحباب : حدثنا سفيان ، عن جعفر بن محمد ، عن أبيه ، عن جابر : أن النبي صلى الله عليه وسلم حج ثلاث حجج قبل أن يهاجر ، وحجة بعدما هاجر معها عمرة ، وساق ستا وثلاثين بدنة ، وجاء علي بتمامها من اليمن ، فيها جمل لأبي جهل في أنفه برة من فضة ، فنحرها رسول الله صلى الله عليه وسلم .

تفرد به زيد ، وقيل إنه أخطأ ، وإنما يروى عن سفيان ، عن أبي إسحاق ، عن مجاهد ; مرسلا .

قال أبو بكر البيهقي : قوله : " وحجة معها عمرة " فإنما يقول ذلك أنس رضي الله عنه ومن ذهب من الصحابة إلى أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قرن . فأما من ذهب إلى أنه أفرد ، فإنه لا يكاد تصح عنده هذه اللفظة لما في إسناده من الاختلاف وغيره .

[ ص: 297 ] وقال وكيع ، عن سفيان ، عن ابن جريج ، عن مجاهد ، قال : حج‌ رسول الله صلى الله عليه وسلم ثلاث حجج ; حجتين وهو بمكة قبل الهجرة ، وحجة الوداع ، والله أعلم .

وفي آخر السنة : كان ظهور الأسود العنسي ، وسيأتي ذكره .

التالي السابق


الخدمات العلمية