صفحة جزء
[ ص: 394 ] باب زهده صلى الله عليه وسلم

وبذلك يوزن الزهد وبه يحد

قال الله تعالى : ( ولا تمدن عينيك إلى ما متعنا به أزواجا منهم زهرة الحياة الدنيا لنفتنهم فيه ورزق ربك خير وأبقى ( 131 ) ) [ طه ] .

قال بقية بن الوليد ، عن الزبيدي ، عن الزهري ، عن محمد بن عبد الله بن عباس قال : كان ابن عباس يحدث أن الله تعالى أرسل إلى نبيه صلى الله عليه وسلم ملكا من الملائكة معه جبريل عليه السلام ، فقال الملك : إن الله يخيرك بين أن تكون عبدا نبيا ، وبين أن تكون ملكا نبيا . فالتفت النبي صلى الله عليه وسلم إلى جبريل كالمستشير له ، فأشار جبريل إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم أن تواضع ، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " بل أكون عبدا نبيا " . قال : فما أكل بعد تلك الكلمة طعاما متكئا حتى لقي ربه تعالى .

وقال عكرمة بن عمار ، عن أبي زميل قال : حدثني ابن عباس ، أن عمر رضي الله عنهم قال : دخلت على رسول الله صلى الله عليه وسلم في خزانته ، فإذا هو مضطجع على حصير ، فأدنى عليه إزاره وجلس ، وإذا الحصير قد أثر بجنبه ، فقلبت عيني في خزانة رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فإذا ليس فيها شيء من الدنيا غير قبضتين - أو قال قبضة من شعير ، وقبضة من قرظ ، نحو الصاعين ، وإذا أفيق معلق أو أفيقان ، قال : فابتدرت عيناي ، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " ما يبكيك يا ابن الخطاب " ؟ قلت : يا رسول الله ، وما لي لا أبكي وأنت صفوة الله عز وجل ورسوله وخيرته ، وهذه خزانتك ! وكسرى ، وقيصر في الثمار والأنهار ، وأنت هكذا . فقال : " يا ابن [ ص: 395 ] الخطاب أما ترضى أن تكون لنا الآخرة ولهم الدنيا " ؟ قلت : بلى يا رسول الله ، قال : " فاحمد الله عز وجل " . أخرجه مسلم .

وقال معمر ، عن الزهري ، عن عبيد الله بن عبد الله بن أبي ثور ، عن ابن عباس ، عن عمر في هذه القصة ، قال : فما رأيت في البيت شيئا يرد البصر إلا أهب ثلاثة ، فقلت : ادع الله يا رسول الله أن يوسع على أمتك ، فقد وسع على فارس والروم ، وهم لا يعبدون الله ، فاستوى جالسا وقال : " أفي شك أنت يا ابن الخطاب ؟ أولئك قوم عجلت لهم طيباتهم في الحياة الدنيا " . فقلت : أستغفر الله ، وكان أقسم أن لا يدخل على نسائه شهرا من شدة موجدته عليهن حتى عاتبه الله تعالى . اتفقا عليه من حديث الزهري .

قرأت على إسماعيل بن عبد الرحمن المعدل ، سنة أربع وتسعين ، أخبركم العلامة أبو محمد بن قدامة ، أن شهدة بنت أبي نصر أخبرتهم ، قالت : أخبرنا أبو غالب الباقلاني قال : أخبرنا أبو علي بن شاذان قال : أخبرنا أبو سهل بن زياد قال : حدثنا إسماعيل بن إسحاق قال : حدثنا مسلم بن إبراهيم قال : حدثنا مبارك بن فضالة ، عن الحسن ، عن أنس قال : دخلت على النبي صلى الله عليه وسلم وهو على سرير مرمول بشريط ، وتحت رأسه مرفقة حشوها ليف ، فدخل عليه ناس من أصحابه ، فيهم عمر رضي الله عنه ، فاعوج النبي صلى الله عليه وسلم اعوجاجة ، فرأى عمر أثر الشريط في جنب النبي صلى الله عليه وسلم فبكى ، فقال له النبي صلى الله عليه وسلم : " ما يبكيك " ؟ قال : كسرى وقيصر يعيثان فيما يعيثان فيه ، وأنت على هذا السرير! فقال : " أما ترضى أن تكون لهم الدنيا ولنا الآخرة " ؟ قال : بلى ، [ ص: 396 ] فقال : " فهو والله كذلك " . إسناده حسن .

وقال المسعودي ، عن عمرو بن مرة ، عن إبراهيم ، عن علقمة ، عن عبد الله قال : اضطجع النبي صلى الله عليه وسلم على حصير ، فأثر بجلده ، فجعلت أمسحه عنه وأقول : بأبي وأمي ألا آذنتنا فنبسط لك ؟ قال : " ما لي وللدنيا ، إنما أنا والدنيا كراكب استظل تحت شجرة ، ثم راح وتركها " . هذا حديث حسن قريب من الصحة .

وقال يونس ، عن الزهري ، عن عبيد الله ، عن أبي هريرة ، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : " لو أن لي مثل أحد ذهبا ما يسرني أن تأتي علي ثلاث ليال ، وعندي منه شيء ، إلا شيء أرصده لديني " . أخرجه البخاري .

وقال الأعمش ، عن عمارة بن القعقاع ، عن أبي زرعة ، عن أبي هريرة قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " اللهم اجعل رزق آل محمد قوتا " . أخرجه مسلم ، والبخاري من وجه آخر .

وقال إبراهيم النخعي ، عن الأسود ، عن عائشة ، قالت : ما شبع رسول الله صلى الله عليه وسلم ثلاثة أيام تباعا من خبز بر حتى توفي . أخرجه مسلم .

وقال الثوري : حدثنا عبد الرحمن بن عابس بن ربيعة ، عن أبيه ، أن عائشة قالت : كنا نخرج الكراع بعد خمس عشرة فنأكله . فقلت : ولم تفعلون ؟ فضحكت وقالت : ما شبع آل محمد صلى الله عليه وسلم من خبز مأدوم حتى لحق بالله . أخرجه البخاري .

وقال هشام بن عروة ، عن أبيه ، عن عائشة : كنا يمر بنا الهلال [ ص: 397 ] والهلال والهلال ، ما نوقد بنار لطعام ، إلا أنه التمر والماء ، إلا أن حولنا أهل دور من الأنصار ، فيبعثون بغزيرة الشاة إلى النبي صلى الله عليه وسلم ، فكان للنبي صلى الله عليه وسلم من ذلك اللبن . متفق عليه .

وقال همام : حدثنا قتادة : كنا نأتي أنس بن مالك ، وخبازه قائم ، فقال : كلوا ، فما أعلم رسول الله صلى الله عليه وسلم رأى رغيفا مرققا ، حتى لحق بالله ، ولا رأى شاة سميطا بعينه قط . أخرجه البخاري .

وقال هشام الدستوائي ، عن يونس ، عن قتادة ، عن أنس قال : ما أكل النبي صلى الله عليه وسلم على خوان ، ولا في سكرجة ، ولا خبز له مرقق . فقلت لأنس : على ما كانوا يأكلون ؟ قال : على السفر . أخرجه البخاري .

وقال شعبة ، عن أبي إسحاق : سمعت عبد الرحمن بن يزيد يحدث ، عن الأسود ، عن عائشة ، قالت : ما شبع رسول الله صلى الله عليه وسلم من خبز شعير يومين متتابعين ، حتى قبض . أخرجه مسلم .

وقال هشام بن أبي عبد الله ، عن قتادة ، عن أنس ، أنه مشى إلى النبي صلى الله عليه وسلم بخبز شعير ، وإهالة سنخة . ولقد رهن درعه عند يهودي ، فأخذ لأهله شعيرا ، ولقد سمعته ذات يوم يقول : ما أمسى عند آل محمد صاع تمر ولا صاع حب ، وإنهم يومئذ تسعة أبيات . أخرجه البخاري .

وقال هشام بن عروة ، عن أبيه ، عن عائشة : كان فراش رسول الله صلى الله عليه وسلم من أدم حشوه ليف . متفق عليه .

[ ص: 398 ] أخبرنا الخضر بن عبد الله بن عمر ، وأحمد بن عبد السلام ، وأحمد بن أبي الخير ، كتابة ، أن عبد المنعم بن عبد الوهاب بن كليب أجاز لهم ، قال : أخبرنا علي بن بنان قال : أخبرنا محمد بن محمد قال : أخبرنا أبو علي الصفار سنة تسع وثلاثين وثلاث مائة ، قال : حدثنا الحسن بن عرفة قال : حدثنا عباد بن عباد المهلبي ، عن مجالد ، عن الشعبي ، عن مسروق ، عن عائشة ، قالت : دخلت علي امرأة من الأنصار ، فرأت فراش رسول الله صلى الله عليه وسلم عباءة مثنية ، فانطلقت فبعثت إلي بفراش حشوه الصوف ، فدخل علي رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال : " ما هذا يا عائشة " ؟ قلت : فلانة رأت فراشك ، فبعثت إلي بهذا . فقال : " رديه يا عائشة " . قالت : فلم أرده وأعجبني أن يكون في بيتي ، حتى قال ذلك ثلاث مرار ، قالت : فقال : رديه فوالله لو شئت لأجرى الله معي جبال الذهب والفضة .

أخرجه الإمام أحمد في " الزهد " ، عن إسماعيل بن محمد ، عن عباد بن عباد وهو ثقة عن مجالد ، وليس بالقوي .

وأخرجه محمد بن سعد الكاتب ، عن سعيد بن سليمان الواسطي ، عن عباد بن عباد .

وقال زائدة : حدثنا عبد الملك بن عمير ، عن ربعي بن حراش ، عن أم سلمة ، قالت : دخل علي رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو ساهم الوجه ، فحسبت ذلك من وجع ، فقلت : يا رسول الله ما لي أراك ساهم الوجه ؟ قال : من أجل الدنانير السبعة التي أتتنا أمس ، وأمسينا ولم ننفقهن ، فكن في خمل الفراش . هذا حديث صحيح الإسناد .

[ ص: 399 ] وقال بكر بن مضر ، عن موسى بن جبير ، عن أبي أمامة بن سهل قال : دخلت على عائشة أنا وعروة ، فقالت : لو رأيتما رسول الله صلى الله عليه وسلم في مرض له ، وكانت عندي ستة دنانير أو سبعة ، فأمرني أن أفرقها ، فشغلني وجعه حتى عافاه الله ، ثم سألني عنها ، ثم دعا بها فوضعها في كفه فقال : ما ظن نبي الله لو لقي الله وهذه عنده .

وقال جعفر بن سليمان ، عن ثابت ، عن أنس ، أن النبي صلى الله عليه وسلم كان لا يدخر شيئا لغد .

وقال بكار بن محمد السيريني : حدثنا ابن عون ، عن ابن سيرين ، عن أبي هريرة ، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم دخل على بلال ، فوجد عنده صبرا من تمر ، فقال : " ما هذا يا بلال " ؟ قال : تمرا أدخره . قال : " ويحك يا بلال ، أو ما تخاف أن يكون لك بخار في النار ، أنفق بلال ولا تخش من ذي العرش إقلالا " . بكار ضعيف .

وقال معاوية بن سلام ، عن زيد ، أنه سمع أبا سلام قال : حدثني عبد الله أبو عامر الهوزني قال : لقيت بلالا مؤذن رسول الله صلى الله عليه وسلم بحلب ، فقلت : حدثني كيف كانت نفقة النبي صلى الله عليه وسلم . فقال : ما كان له شيء من ذلك ، إلا أنا الذي كنت ألي ذلك منه ، منذ بعثه الله إلى أن توفي ، فكان إذا أتاه الإنسان المسلم ، فرآه عاريا يأمرني فأنطلق ، فأستقرض ، فأشتري البردة والشيء ، فأكسوه ، وأطعمه ، حتى اعترضني رجل من المشركين فقال : يا بلال إن عندي سعة فلا تستقرض من أحد إلا مني ، ففعلت ، فلما كان ذات يوم ، توضأت ، ثم قمت لأؤذن بالصلاة ، فإذا المشرك في عصابة من التجار ، فلما رآني قال : يا حبشي ! قلت : يا لبيه ، فتهجمني ، وقال قولا غليظا ، فقال : أتدري كم بينك وبين الشهر ؟ قلت : قريب . قال : إنما بينك وبينه أربع ليال ، فآخذك بالذي لي عليك ، فإني لم أعطك الذي أعطيتك من كرامتك ، ولا من كرامة صاحبك ، ولكن [ ص: 400 ] أعطيتك لتجب لي عبدا ، فأردك ترعى الغنم ، كما كنت قبل ذلك . فأخذ في نفسي ما يأخذ في أنفس الناس ، فانطلقت ثم أذنت بالصلاة ، حتى إذا صليت العتمة رجع النبي صلى الله عليه وسلم إلى أهله ، فاستأذنت عليه ، فأذن لي ، فقلت : يا رسول الله ، بأبي أنت وأمي ، إن المشرك قال لي كذا وكذا ، وليس عندك ما تقضي عني ، ولا عندي ، وهو فاضحي ، فأذن لي أن أتي بعض هؤلاء الأحياء الذين قد أسلموا ، حتى يرزق الله رسوله ما يقضي عني . فخرجت ، حتى أتيت منزلي ، فجعلت سيفي ، وجرابي ، ورمحي ، ونعلي عند رأسي ، واستقبلت بوجهي الأفق ، فكلما نمت انتبهت ، فإذا رأيت علي ليلا نمت ، حتى انشق عمود الصبح الأول ، فأردت أن أنطلق ، فإذا إنسان يسعى ، يدعو : يا بلال أجب رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فانطلقت حتى أتيته ، فإذا أربع ركائب عليهن أحمالهن ، فأتيت النبي صلى الله عليه وسلم فاستأذنت ، فقال لي النبي صلى الله عليه وسلم : " أبشر ، فقد جاءك الله بقضائك " . فحمدت الله ، قال : " ألم تمر على الركائب المناخات الأربع ؟ " قلت : بلى . قال : " فإن لك رقابهن وما عليهن " . فإذا عليهن كسوة ، وطعام أهداهن له عظيم فدك ، فحططت عنهن ، ثم عقلتهن ، ثم عمدت إلى تأذين صلاة الصبح ، حتى إذا صلى رسول الله صلى الله عليه وسلم خرجت إلى البقيع ، فجعلت إصبعي في أذني ، فناديت وقلت : من كان يطلب رسول الله صلى الله عليه وسلم دينا فليحضر ، فما زلت أبيع وأقضي حتى لم يبق على رسول الله صلى الله عليه وسلم دين في الأرض ، حتى فضل عندي أوقيتان ، أو أوقية ونصف ، ثم انطلقت إلى المسجد ، وقد ذهب عامة النهار ، فإذا رسول الله صلى الله عليه وسلم قاعد في المسجد وحده ، فسلمت عليه ، فقال لي : " ما فعل ما قبلك " ؟ قلت : قد قضى الله كل شيء كان على رسول الله صلى الله عليه وسلم فلم يبق شيء . فقال : " فضل شيء " ؟ قلت : نعم ديناران . قال : " انظر أن تريحني منهما ، فلست بداخل على أحد من أهلي حتى تريحني منهما " . فلم يأتنا أحد ، فبات [ ص: 401 ] في المسجد حتى أصبح ، وظل في المسجد اليوم الثاني ، حتى كان في آخر النهار جاء راكبان ، فانطلقت بهما ، فكسوتهما ، وأطعمتهما ، حتى إذا صلى العتمة دعاني ، فقال : " ما فعل الذي قبلك " ؟ قلت : قد أراحك الله منه . فكبر وحمد الله شفقا من أن يدركه الموت ، وعنده ذلك ، ثم اتبعته ، حتى جاء أزواجه ، فسلم على امرأة امرأة ، حتى أتى مبيته . أخرجه أبو داود ، عن أبي توبة الحلبي ، عن معاوية .

وقال أبو الوليد الطيالسي : حدثنا أبو هاشم الزعفراني قال : حدثنا محمد بن عبد الله ، أن أنس بن مالك حدثه ، أن فاطمة رضي الله عنها جاءت بكسرة خبز إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال : " ما هذه " ؟ قالت : قرص خبزته ، فلم تطب نفسي حتى أتيتك بهذه الكسرة . فقال : " أما إنه أول طعام دخل فم أبيك منذ ثلاثة أيام " .

وقال أبو عاصم ، عن زينب بنت أبي طليق ، قالت حدثني حبان بن جزء - أو بحر - عن أبي هريرة ، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يشد صلبه بالحجر من الغرث .

وقال أبو غسان النهدي : حدثنا إسرائيل ، عن مجالد ، عن الشعبي ، عن مسروق قال : بينما عائشة تحدثني ذات يوم إذ بكت ، فقلت : ما يبكيك ؟ قالت : ما ملأت بطني من طعام فشئت أن أبكي إلا بكيت أذكر رسول الله صلى الله عليه وسلم وما كان فيه من الجهد .

وقال خالد بن خداش : حدثنا ابن وهب قال : حدثني جرير بن حازم ، عن يونس ، عن الحسن قال : خطب رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال : " والله ما أمسى في آل محمد صاع من طعام ، وإنها لتسعة أبيات " ، والله ما قالها [ ص: 402 ] استقلالا لرزق الله ، ولكن أراد أن تتأسى به أمته . روى الأربعة " ابن سعد " عن هؤلاء .

وقال أبان ، عن قتادة ، عن أنس ، أن يهوديا دعا النبي صلى الله عليه وسلم إلى خبز شعير ، وإهالة سنخة فأجابه .

وقال أنس : أهدي للنبي صلى الله عليه وسلم تمر ، فرأيته يأكل منه مقعيا من الجوع .

وقالت أسماء بنت يزيد : توفي النبي صلى الله عليه وسلم ، ودرعه مرهونة عند يهودي على شعير .

التالي السابق


الخدمات العلمية