صفحة جزء
طارق

مولى موسى بن نصير ، وكان أميرا على طنجة بأقصى المغرب ، فبلغه اختلاف الفرنج واقتتالهم ، وكاتبه صاحب الجزيرة الخضراء ليمده على عدوه ، فبادر طارق وعدى في جنده ، وهزم الفرنج ، وافتتح قرطبة وقتل صاحبها لذريق ، وكتب بالنصر إلى مولاه ، فحسده على الانفراد بهذا الفتح العظيم ، وتوعده وأمره أن لا يتجاوز مكانه ، وأسرع موسى بجيوشه ، فتلقاه طارق وقال : إنما أنا مولاك ، وهذا الفتح لك . فأقام موسى بن نصير بالأندلس سنتين يغزو ويغنم ، وقبض على طارق ، وأساء إليه ، ثم استخلف على الأندلس ولده عبد العزيز بن موسى ، وكان جنده عامتهم من البربر ، فيهم شجاعة مفرطة وإقدام . [ ص: 501 ]

وله فتوحات عظيمة جدا بالمغرب ، كما كان لقتيبة بن مسلم بالشرق - في هذا الوقت - فتوحات لم يسمع بمثلها .

وفي هذه المدة وبعدها كانت غزوة القسطنطينية في البر والبحر ، ودام الحصار نحوا من سنة ، وكان علم الجهاد في أطراف البلاد منشورا ، والدين منصورا ، والدولة عظيمة ، والكلمة واحدة .

قال سعيد بن عبد العزيز : أخبرني رجل أن سليمان هم بالإقامة ببيت المقدس ، وقدم عليه موسى بن نصير وأخوه مسلمة ، فجاءه الخبر أن الروم طلعوا من ساحل حمص ، وسبوا جماعة فيهم امرأة لها ذكر ، فغضب سليمان وقال : ما هو إلا هذا ، نغزوهم ويغزونا ، والله لأغزونهم غزوة أفتح فيها القسطنطينية أو أموت .

ثم التفت إلى مسلمة وإلى موسى بن نصير ، فقال : أشيرا علي . فقال موسى : يا أمير المؤمنين ، إن أردت ذلك ، فسر سيرة الصحابة فيما فتحوه ، كلما فتحوا مدينة اتخذوها دارا وحازوها للإسلام ، فابدأ بالدروب وافتح حصونها حتى تبلغ القسطنطينية ، فإنهم سيعطون بأيديهم . فقال لمسلمة : ما تقول أنت ؟ قال : هذا الرأي إن طال عمر إليه ، أو كان الذي يأتي على رأيك ، وبريد ذلك ، خمس عشرة سنة ، ولكني أرى أن تغزي المسلمين برا وبحرا القسطنطينية ، فيحاصرونها ; فإنهم ما دام عليهم البلاء أعطوا الجزية ، أو أخذت عنوة ، فمتى وقع ذلك ، كان ما دونها من الحصون بيدك . قال : هذا الرأي . فأغزى أهل الشام ، والجزيرة في البر في نحو من عشرين ومائة ألف ، وأغزى أهل مصر والمغرب في البحر في ألف مركب ، عليهم عمر بن هبيرة ، وعلى الكل مسلمة بن عبد الملك .

قال الوليد بن مسلم : فأخبرني غير واحد أن سليمان أخرج لهم العطاء ، وبين لهم غزوتهم وطولها ، ثم قدم دمشق وصلى الجمعة ، ثم عاد [ ص: 502 ] إلى المنبر ، وأخبرهم بيمينه من حصاره القسطنطينية ، فانفروا على بركة الله ، وعليكم بتقوى الله ، ثم الصبر الصبر . وسار حتى نزل بدابق وسار مسلمة وأخذ معه أليون الرومي المرعشي ليدله على الطريق والعوار ، وأخذ ميثاقه على المناصحة إلى أن عبروا الخليج ، وحاصروا قسطنطينة إلى أن برح بهم الحصار ، وعرض أهلها الفدية ، فأبى مسلمة إلا أن يفتحها عنوة ، قالوا : فابعث إلينا أليون ; فإنه منا ويفهم كلامنا . فبعثه ، فغدر وقال : إن ملكتموني أمنتم . فملكوه ، فخرج وقال : قد أجابوني أن يفتحوها ، لكن لا يفتحونها حتى تتنحى عنهم ، قال : أخشى غدرك . فحلف له أن يدفع إليه كل ما فيها من سبي ومال ، فانتقل مسلمة ودخل أليون - لعنه الله - فلبس التاج ، وأمر بنقل العلوفات من خارج فملئوا الأهراء وجاء الصريخ إلى مسلمة ، فكر بالجيش ، فأدرك شيئا من العلوفات ، فغلقوا الأبواب دونه ، فبعث إلى أليون يناشده عهده ، فأرسل إليه أليون يقول : ملك الروم لا يباع بالوفاء .

ونزل مسلمة بفنائها ثلاثين شهرا حتى أكل الناس في المعسكر الميتة والعذرة من الجوع ، هذا وفي وسط المعسكر عرمة حنطة مثل الجبل يغبطون بها الروم .

قال محمد بن زياد الألهاني : غزونا القسطنطينية ، فجعنا حتى هلك ناس كثير ، فإن كان الرجل يخرج إلى قضاء الحاجة والآخر ينظر إليه ، فإذا قام ، أقبل ذاك على رجيعه فأكله ، وإن كان الرجل ليذهب إلى الحاجة ، فيؤخذ ويذبح ويؤكل ، وإن الأهراء من الطعام كالتلال لا نصل إليها نكايد بها أهل القسطنطينية .

فلما استخلف عمر بن عبد العزيز ، أذن لهم في الترحل عنها .

التالي السابق


الخدمات العلمية