صفحة جزء
[ ص: 48 ] أبو مسلم الخراساني

اسمه عبد الرحمن بن مسلم ، ويقال : عبد الرحمن بن عثمان بن يسار الخراساني ، الأمير ، صاحب الدعوة وهازم جيوش الدولة الأموية ، والقائم بإنشاء الدولة العباسية .

كان من أكبر الملوك في الإسلام . كان ذا شأن عجيب ونبأ غريب من رجل يذهب على حمار بإكاف من الشام حتى يدخل خراسان ، ثم يملك خراسان بعد تسعة أعوام ، ويعود بكتائب أمثال الجبال ، ويقلب دولة ، ويقيم دولة أخرى ! .

ذكره القاضي شمس الدين بن خلكان فقال : كان قصيرا ، أسمر ، جميلا ، حلوا ، نقي البشرة ، أحور العين ، عريض الجبهة ، حسن اللحية ، طويل الشعر ، طويل الظهر ، خافض الصوت ، فصيحا بالعربية وبالفارسية ، حلو المنطق ، وكان راوية للشعر ، عارفا بالأمور ، لم ير ضاحكا ، ولا مازحا إلا في وقته ، وكان لا يكاد يقطب في شيء من أحواله .

تأتيه الفتوحات العظام ، فلا يظهر عليه أثر السرور ، وتنزل به الفادحة الشديدة ، فلا يرى مكتئبا . وكان إذا غضب لم يستفزه الغضب . . . إلى أن قال : وكان لا يأتي النساء في العام إلا مرة -يشير إلى شرف نفسه ، وتشاغلها بأعباء الملك .

قيل : مولده في سنة مائة وأول ظهوره كان بمرو ، في شهر رمضان ، يوم [ ص: 49 ] الجمعة من سنة تسع وعشرين ومائة ، ومتولي خراسان إذ ذاك الأمير نصر بن سيار الليثي ، نائب مروان بن محمد ، الحمار ، خاتمة خلفاء بني مروان ، إلى أن قال : فكان ظهوره يومئذ في خمسين رجلا . وآل أمره إلى أن هرب منه نصر بن سيار قاصدا العراق فنزل به الموت بناحية ساوة ، وصفا إقليم خراسان لأبي مسلم ، صاحب الدعوة ، في ثمانية وعشرين شهرا .

قال : وكان أبوه من أهل رستاق فريذين من قرية تسمى : سنجرد ، وكانت هي وغيرها ملكا له . وكان يجلب في بعض الأوقات ، مواشي إلى الكوفة . ثم إنه قاطع على رستاق فريذين . يعني ضمنه فغرم . فنفذ إليه عامل البلد من يحضره ، فهرب بجاريته وهي حبلى ، فولدت له هذا . فطلع ذكيا ، واختلف إلى الكتاب ، وحصل ، ثم اتصل بعيسى بن معقل ، جد الأمير أبي دلف العجلي ، وبأخيه إدريس بن معقل ، فحبسهما أمير العراق على خراج انكسر ، فكان أبو مسلم يختلف إليهما إلى السجن ، ويتعهدهما .

وذلك بالكوفة ، في اعتقال الأمير خالد بن عبد الله القسري ، فقدم الكوفة جماعة من نقباء الإمام محمد بن علي بن عبد الله بن عباس ، والد المنصور والسفاح ، فدخلوا على الأخوين يسلمون عليهما ، فرأوا عندهما أبا مسلم ، فأعجبهم عقله وأدبه وكلامه ، ومال هو إليهم . ثم إنه عرف أمرهم ودعوتهم -يعني إلى بني العباس - ثم هرب الأخوان : عيسى وإدريس من السجن ، فلزم هو النقباء ، وسار صحبتهم إلى مكة ، فأحضروا إلى إبراهيم بن الإمام -وقد مات الإمام محمد- عشرين ألف دينار ، ومائتي ألف درهم ، وأهدوا له أبا مسلم ، فأعجب به . وقال إبراهيم لهم : هذا عضلة من العضل .

فأقام أبو مسلم يخدم الإمام إبراهيم ، ورجع النقباء إلى خراسان .

[ ص: 50 ] فقال : إني قد جربت هذا الأصبهاني ، وعرفت ظاهره وباطنه ، فوجدته حجر الأرض . ثم قلده الأمر ، وندبه إلى المضي إلى خراسان . فكان من أمره ما كان .

قال المأمون : أجل ملوك الأرض ثلاثة ، الذين قاموا بنقل الدول ، وهم : الإسكندر ، وأزدشير ، وأبو مسلم .

قال أبو القاسم بن عساكر : ذكر أبو الحسن محمد بن أحمد بن القواس في " تاريخه " : قدم أبو مسلم هو وحفص بن سلمة الخلال على إبراهيم بن محمد الإمام ، فأمرهما بالمصير إلى خراسان . وكان إبراهيم بالحميمة من أرض البلقاء ، إذ ذاك سمع أبو مسلم من عكرمة .

هكذا قال الحافظ أبو القاسم . وهذا غلط . لم يدركه .

قال : وسمع ثابتا البناني ، وأبا الزبير المكي ، ومحمد بن علي الإمام ، وابنه ، وإسماعيل السدي وعبد الرحمن بن حرملة .

روى عنه إبراهيم بن ميمون الصائغ ، وابن شبرمة الفقيه ، وعبد الله بن منيب ، وعبد الله بن المبارك وغيرهم .

قلت : ولا أدرك ابن المبارك الرواية عنه ، بل رآه .

قال أبو أحمد علي بن محمد بن حبيب المروزي : حدثنا أبو يوسف محمد بن عبدك ، حدثنا مصعب بن بشر ، سمعت أبي يقول : قام رجل إلى أبي مسلم وهو يخطب ، فقال : ما هذا السواد عليك ؟ فقال : حدثني أبو الزبير ، عن جابر بن عبد الله ، أن النبي -صلى الله عليه وسلم- دخل مكة يوم الفتح ، وعليه عمامة سوداء وهذه [ ص: 51 ] ثياب الهيبة ، وثياب الدولة . يا غلام ، اضرب عنقه ! .

وقال جماعة : حدثنا أبو حاتم أحمد بن حسن بن هارون الرازي ، أنبأنا محمد بن محمد بن أبي خراسان ، حدثني أحمد بن محمد المروزي ، حدثنا عبد الله بن مصعب ، حدثنا أبو حامد الداودي ، قال : دخل رجل وعلى رأس أبي مسلم عمامة سوداء . فقال : ما هذا ؟ قال : اسكت ، حدثني أبو الزبير عن جابر ، أن النبي -صلى الله عليه وسلم- دخل مكة يوم الفتح ، وعلى رأسه عمامة سوداء يا غلام ، اضرب عنقه ! .

ورويت القصة بإسناد ثالث مظلم .

قلت : كان أبو مسلم سفاكا للدماء ، يزيد على الحجاح في ذلك . وهو أول من سن للدولة لبس السواد .

قال محمد بن جرير في " تاريخه " : ذكر علي بن محمد -يعني المدائني- أن حمزة بن طلحة السلمي حدثه عن أبيه قال : كان بكير بن ماهان كاتبا لبعض عمال السند ، فقدم ، فاجتمعوا بالكوفة في دار ، فغمز بهم فأخذوا ، فحبس بكير ، وخلي عن الآخرين . وكان في الحبس أبو عاصم ، وعيسى العجلي ، ومعه أبو مسلم الخراساني فحدثه ، فدعاهم بكير ، فأجابوه إلى رأيه . فقال لعيسى العجلي : ما هذا الغلام ؟ قال : مملوك . قال : تبيعه ؟ قال : هو لك . قال : أحب أن تأخذ ثمنه . فأعطاه أربعمائة درهم .

ثم أخرجوا من السجن . وبعث به إلى إبراهيم بن محمد ، فدفعه إبراهيم إلى موسى السراج ، فسمع منه ، وحفظ ، ثم اختلف إلى خراسان .

[ ص: 52 ] وقال غيره : توجه سليمان بن كثير ، ومالك بن الهيثم ، ولاهز ، وقحطبة بن شبيب ، من بلاد خراسان للحج في سنة أربع وعشرين ومائة . فدخلوا الكوفة ، فأتوا عاصم بن يونس العجلي ، وهو في الحبس فبدأهم بالدعاء إلى ولد العباس ، ومعه عيسى بن معقل العجلي وأخوه ، حبسهما عيسى بن عمر أمير العراق فيمن حبس من عمال خالد القسري . هكذا في هذه الرواية . قال : ومعهما أبو مسلم يخدمهما ، فرأوا فيه العلامات . فقالوا : من أين هذا الفتى ؟ قال : غلام معنا من السراجين . وقد كان أبو مسلم إذا سمع عيسى وإدريس يتكلمان في هذا الرأي بكى . فلما رأوا ذلك ، دعوه إلى ما هم عليه -يعني من نصرة آل بيت النبي -صلى الله عليه وسلم- فأجاب .

قال أبو الحسن بن رزقويه : أنبأنا مظفر بن يحيى ، حدثنا أحمد بن محمد المرثدي ، حدثنا أبو إسحاق الطلحي ، حدثني أبو مسلم محمد بن المطلب بن فهم ، من ولد أبي مسلم صاحب الدعوة ، قال : كان اسم أبي مسلم : إبراهيم بن عثمان بن يسار ، من ولد بزرجمهر . وكان يكنى أبا إسحاق ، ولد بأصبهان ، ونشأ بالكوفة ، وكان أبوه أوصى إلى عيسى السراج ، فحمله إلى الكوفة وهو ابن سبع سنين . فقال له إبراهيم بن محمد بن علي لما عزم على توجيهه إلى خراسان : غير اسمك . فإنه لا يتم لنا الأمر إلا بتغيير اسمك ، على ما وجدته في الكتب . فقال : قد سميت نفسي : عبد الرحمن بن مسلم . ثم تكنى أبا مسلم . ومضى لشأنه ، وله ذؤابة فمضى على حمار . فقال له : خذ نفقة . قال : ثم مات عيسى السراج ، ومضى أبو مسلم لشأنه ، وله تسع عشرة سنة . وزوجه إبراهيم الإمام بابنة أبي النجم عمران الطائي ، وكانت بخراسان ، فبنى بها .

ابن دريد : حدثنا أبو حاتم ، عن أبي عبيدة ، قال : حدثني رجل من [ ص: 53 ] خراسان ، عن أبيه قال : كنت أطلب العلم ، فلا آتي موضعا إلا وجدت أبا مسلم قد سبقني إليه ، فألفته ، فدعاني إلى منزله ودعا بما حضر ، ثم لاعبته بالشطرنج وهو يلهو بهذين البيتين :

ذروني ، ذروني ما قررت فإنني متى ما أهج حربا تضيق بكم أرضي     وأبعث في سود الحديد إليكم
كتائب سود طالما انتظرت نهضي



قال رؤبة بن العجاج : كان أبو مسلم عالما بالشعر .

التالي السابق


الخدمات العلمية