صفحة جزء
وإما تخافن من قوم خيانة فانبذ إليهم على سواء إن الله لا يحب الخائنين

عطف حكم عام لمعاملة جميع الأقوام الخائنين بعد الحكم الخاص بقوم معينين الذين تلوح منهم بوارق الغدر والخيانة ، بحيث يبدو من أعمالهم ما فيه مخيلة بعدم وفائهم ، فأمره الله أن يرد إليهم عهدهم ، إذ لا فائدة فيه إذ هم ينتفعون من مسالمة المؤمنين لهم ، ولا ينتفع المؤمنون من مسالمتهم عند الحاجة .

والخوف توقع ضر من شيء ، وهو الخوف الحق المحمود . وأما تخيل الضر بدون أمارة فليس من الخوف وإنما هو الهوس والتوهم . وخوف الخيانة ظهور بوارقها وبلوغ إضمارهم إياها بما يتصل بالمسلمين من أخبار أولئك وما يأتي به تجسس أحوالهم كقوله تعالى : فإن خفتم ألا يقيما حدود الله فلا جناح عليهما فيما افتدت به وقوله : فإن خفتم ألا تعدلوا فواحدة

وقد تقدم عند قوله تعالى : فإن خفتم ألا يقيما حدود الله في سورة البقرة .

و " قوم " نكرة في سياق الشرط فتفيد العموم ، أي كل قوم تخاف منهم خيانة . والخيانة : ضد الأمانة ، وهي ، هنا : نقض العهد ; لأن الوفاء من الأمانة .

وقد تقدم معنى الخيانة عند قوله تعالى : يا أيها الذين آمنوا لا تخونوا الله والرسول في هذه السورة .

[ ص: 52 ] والنبذ : الطرح وإلقاء الشيء . وقد مضى عند قوله تعالى : أوكلما عاهدوا عهدا نبذه فريق منهم في سورة البقرة .

وإنما رتب نبذ العهد على خوف الخيانة ، دون وقوعها : لأن شئون المعاملات السياسية والحربية تجري على حسب الظنون ومخائل الأحوال ولا ينتظر تحقق وقوع الأمر المظنون لأنه إذا تريث ولاة الأمور في ذلك يكونون قد عرضوا الأمة للخطر ، أو للتورط في غفلة وضياع مصلحة ، ولا تدار سياسة الأمة بما يدار به القضاء في الحقوق ; لأن الحقوق إذا فاتت كانت بليتها على واحد ، وأمكن تدارك فائتها . ومصالح الأمة إذا فاتت تمكن منها عدوها ، فلذلك علق نبذ العهد بتوقع خيانة المعاهدين من الأعداء ، ومن أمثال العرب : خذ اللص قبل أن يأخذك ، أي وقد علمت أنه لص .

و " على سواء " صفة لمصدر محذوف ، أي نبذا على سواء ، أو حال من الضمير في " انبذ " أي حالة كونك على سواء .

و " على " فيه للاستعلاء المجازي فهي تؤذن بأن مدخولها مما شأنه أن يعتلى عليه . و " سواء " وصف بمعنى مستو ، كما تقدم في قوله تعالى : سواء عليهم أأنذرتهم في سورة البقرة . وإنما يصلح للاستواء مع معنى " على " الطريق ، فعلم أن " سواء " وصف لموصوف محذوف يدل عليه وصفه ، كما في قوله - تعالى : على ذات ألواح ، أي سفينة ذات ألواح . وقول النابغة :

كما لقيت ذات الصفا من حليفها

أي : الحية ذات الصفا .

ووصف النبذ أو النابذ بأنه على سواء ، تمثيل بحال الماشي على طريق جادة لا التواء فيها ، فلا مخاتلة لصاحبها كقوله تعالى : فقل آذنتكم على سواء وهذا كما يقال في ضده : هو يتبع بنيات الطريق ، أي يراوغ ويخاتل .

والمعنى : فانبذ إليهم نبذا واضحا علنا مكشوفا .

[ ص: 53 ] ومفعول " انبذ " محذوف بقرينة ما تقدم من قوله : ثم ينقضون عهدهم وقوله : وإما تخافن من قوم خيانة أي انبذ عهدهم .

وعدي " انبذ " بـ ( إلى ) لتضمينه معنى اردد إليهم عهدهم ، وقد فهم من ذلك ألا يستمر على عهدهم لئلا يقع في كيدهم وأنه لا يخونهم لأن أمره بنبذ عهده معهم يستلزم أنه لا يخونهم .

وجملة إن الله لا يحب الخائنين تذييل لما اقتضته جملة وإما تخافن من قوم خيانة إلخ تصريحا واستلزاما . والمعنى لأن الله لا يحبهم لأنهم متصفون بالخيانة فلا تستمر على عهدهم فتكون معاهدا لمن لا يحبهم الله ; ولأن الله لا يحب أن تكون أنت من الخائنين كما قال تعالى : ولا تجادل عن الذين يختانون أنفسهم إن الله لا يحب من كان خوانا أثيما في سورة النساء . وذكر القرطبي عن النحاس أنه قال هذا من معجز ما جاء في القرآن مما لا يوجد في الكلام مثله على اختصاره وكثرة معانيه .

قلت : وموقع " إن " فيه موقع التعليل للأمر برد عهدهم ونبذه إليهم فهي مغنية غناء فاء التفريع كما قال عبد القاهر ، وتقدم في غير موضع وهذا من نكت الإعجاز .

التالي السابق


الخدمات العلمية