صفحة جزء
ومنهم من يقول ائذن لي ولا تفتني ألا في الفتنة سقطوا وإن جهنم لمحيطة بالكافرين .

نزلت في بعض المنافقين استأذنوا النبيء - صلى الله عليه وسلم - في التخلف عن تبوك ولم يبدوا عذرا يمنعهم من الغزو ، ولكنهم صرحوا بأن الخروج إلى الغزو يفتنهم لمحبة أموالهم وأهليهم ، ففضح الله أمرهم بأنهم منافقون : لأن ضمير الجمع المجرور عائد إلى الذين لا يؤمنون بالله واليوم الآخر ، وقيل : قال جماعة منهم : ائذن لنا لأنا قاعدون أذنت لنا أم لم تأذن فأذن لنا لئلا نقع في المعصية . وهذا من أكبر الوقاحة لأن الإذن في هذه الحالة كلا إذن ، ولعلهم قالوا ذلك لعلمهم برفق النبيء - صلى الله عليه وسلم - وقيل : إن الجد بن قيس قال : يا رسول الله ، لقد علم الناس [ ص: 221 ] أني مستهتر بالنساء فإني إذا رأيت نساء بني الأصفر افتتنت بهن فأذن لي في التخلف ولا تفتني وأنا أعينك بمالي ، فأذن لهم . ولعل كل ذلك كان .

والإتيان بأداة الاستفتاح في جملة ألا في الفتنة سقطوا للتنبيه على ما بعدها من عجيب حالهم إذ عاملهم الله بنقيض مقصودهم فهم احترزوا عن فتنة فوقعوا في الفتنة . فالتعريف في الفتنة ليس تعريف العهد إذ لا معهود هنا ، ولكنه تعريف الجنس المؤذن بكمال المعرف في جنسه ، أي في الفتنة العظيمة سقطوا ، فأي وجه فرض في المراد من الفتنة حين قال قائلهم : ولا تفتني كان ما وقع فيه أشد مما تفصى منه ، فإن أراد فتنة الدين فهو واقع في أعظم الفتنة بالشرك والنفاق ، وإن أراد فتنة سوء السمعة بالتخلف فقد وقع في أعظم بافتضاح أمر نفاقهم ، وإن أراد فتنة النكد بفراق الأهل والمال فقد وقع في أعظم نكد بكونه ملعونا مبغوضا للناس . وتقدم بيان الفتنة قريبا .

والسقوط مستعمل مجازا في الكون فجأة على وجه الاستعارة : شبه ذلك الكون بالسقوط في عدم التهيؤ له وفي المفاجأة باعتبار أنهم حصلوا في الفتنة في حال أمنهم من الوقوع فيها ، فهم كالساقط في هوة على حين ظن أنه ماش في طريق سهل ومن كلام العرب " على الخبير سقطت " .

وتقديم المجرور على عامله ، للاهتمام به لأنه المقصود من الجملة .

وهذه الجملة تسير مسرى المثل .

وجملة وإن جهنم لمحيطة بالكافرين معترضة والواو اعتراضية ، أي وقعوا في الفتنة المفضية إلى الكفر . والكفر يستحق جهنم .

وإحاطة جهنم مراد منها عدم إفلاتهم منها ، فالإحاطة كناية عن عدم الإفلات . والمراد بالكافرين : جميع الكافرين فيشمل المتحدث عنهم لثبوت كفرهم بقوله : إنما يستأذنك الذين لا يؤمنون بالله واليوم الآخر

ووجه العدول عن الإتيان بضميرهم إلى الإتيان بالاسم الظاهر في قوله : ( لمحيطة بالكافرين ) إثبات إحاطة جهنم بهم بطريق شبيه بالاستدلال ; لأن شمول الاسم الكلي لبعض جزئياته أشهر أنواع الاستدلال .

التالي السابق


الخدمات العلمية