صفحة جزء
[ ص: 5 ] إنما السبيل على الذين يستأذنونك وهم أغنياء رضوا بأن يكونوا مع الخوالف وطبع الله على قلوبهم فهم لا يعلمون

لما نفت الآيتان السابقتان أن يكون سبيل على المؤمنين الضعفاء والمرضى والذين لا يجدون ما ينفقون والذين لم يجدوا حمولة ، حصرت هذه الآية السبيل في كونه على الذين يستأذنون في التخلف وهم أغنياء ، وهو انتقال بالتخلص إلى العودة إلى أحوال المنافقين كما دل عليه قوله بعد يعتذرون إليكم إذا رجعتم إليهم ، فالقصر إضافي بالنسبة للأصناف الذين نفي أن يكون عليهم سبيل .

وفي هذا الحصر تأكيد للنفي السابق ، أي لا سبيل عقاب إلا على الذين يستأذنونك وهم أغنياء . والمراد بهم المنافقون بالمدينة الذين يكرهون الجهاد إذ لا يؤمنون بما وعد الله عليه من الخيرات وهم أولو الطول المذكورون في قوله : وإذا أنزلت سورة أن آمنوا بالله الآية .

والسبيل : حقيقته الطريق . ومر في قوله : ما على المحسنين من سبيل ، وقوله : إنما السبيل على الذين يستأذنونك وهم أغنياء مستعار لمعنى السلطان والمؤاخذة بالتبعة ، شبه السلطان والمؤاخذة بالطريق لأن السلطة يتوصل بها من هي له إلى تنفيذ المؤاخذة في الغير . ولذلك عدي بحرف ( على ) المفيد لمعنى الاستعلاء ، وهو استعلاء مجازي بمعنى التمكن من التصرف في مدخول ( على ) . فكان هذا التركيب استعارة مكنية رمز إليها بما هو من ملائمات المشبه به وهو حرف ( على ) . وفيه استعارة تبعية .

والتعريف باللام في قوله : ( إنما السبيل ) تعريف العهد ، والمعهود هو السبيل المنفي في قوله - تعالى : ما على المحسنين من سبيل على قاعدة النكرة [ ص: 6 ] إذا أعيدت معرفة ، أي إنما السبيل المنفي عن المحسنين مثبت للذين يستأذنوك وهم أغنياء . ونظير هذا قوله - تعالى : إنما السبيل على الذين يظلمون الناس ويبغون في الأرض بغير الحق أولئك لهم عذاب أليم في سورة الشورى . فدل ذلك على أن المراد بالسبيل العذاب .

والمعنى ليست التبعة والمؤاخذة إلا على الذين يستأذنونك وهم أغنياء ، الذين أرادوا أن يتخلفوا عن غزوة تبوك ولا عذر لهم يخولهم التخلف . وقد سبقت آية فما جعل الله لكم عليهم سبيلا من سورة النساء ، وأحيل هنالك تفسيرها على ما ذكرناه في هذه الآية .

وجملة رضوا بأن يكونوا مع الخوالف مستأنفة لجواب سؤال ينشأ عن علة استيذانهم في التخلف وهم أغنياء ، أي بعثهم على ذلك رضاهم بأن يكونوا مع الخوالف من النساء . وقد تقدم القول في نظيره آنفا .

وأسند الطبع على قلوبهم إلى الله في هذه الآية بخلاف ما في الآية السابقة وطبع على قلوبهم لعله للإشارة إلى أنه طبع غير الطبع الذي جبلوا عليه بل هو طبع على طبع أنشأه الله في قلوبهم لغضبه عليهم فحرمهم النجاة من الطبع الأصلي وزادهم عماية ، ولأجل هذا المعنى فرع عليه فهم لا يعلمون لنفي أصل العلم عنهم ، أي يكادون أن يساووا العجماوات .

التالي السابق


الخدمات العلمية