صفحة جزء
ولما جاءهم كتاب من عند الله مصدق لما معهم وكانوا من قبل يستفتحون على الذين كفروا . فلما جاءهم ما عرفوا كفروا به فلعنة الله على الكافرين

معطوف على قوله وقالوا قلوبنا غلف لقصد الزيادة في الإنحاء عليهم بالتوبيخ فإنهم لو أعرضوا عن الدعوة المحمدية إعراضا مجردا عن الأدلة لكان في إعراضهم معذرة ما ولكنهم أعرضوا وكفروا بالكتاب الذي جاء مصدقا لما معهم والذي كانوا من قبل يستفتحون به على المشركين . فقوله من عند الله متعلق " بجاءهم " وليس صفة لأنه ليس أمرا مشاهدا معلوما حتى يوصف به . وقوله مصدق لما معهم وصف شأن لقصد زيادة التسجيل عليهم بالمذمة في هذا الكفر والقول في تفسيره قد مضى عند قوله تعالى وآمنوا بما أنزلت مصدقا لما معكم والاستفتاح ظاهره طلب الفتح أي النصر قال تعالى إن تستفتحوا فقد جاءكم الفتح وقد فسروه بأن اليهود كانوا إذا قاتلوا المشركين أي من أهل المدينة استنصروا عليهم بسؤال الله أن يبعث إليهم الرسول الموعود به في التوراة .

وجوز أن يكون يستفتحون بمعنى يفتحون أي يعلمون ويخبرون كما يقال فتح على القارئ أي علمه الآية التي ينساها فالسين والتاء لمجرد التأكيد مثل زيادتهما في استعصم واستصرخ واستعجب . والمراد كانوا يخبرون المشركين بأن رسولا سيبعث فيؤيد المؤمنين ويعاقب المشركين . وقوله فلما جاءهم ما عرفوا أي ما كانوا يستفتحون به أي لما جاء الكتاب الذي عرفوه كفروا به وقد عدل عن أن يقال فلما جاءهم الكتاب ليكون اللفظ أشمل فيشمل الكتاب والرسول الذي جاء به [ ص: 602 ] فإنه لا يجيء كتاب إلا مع رسول . ووقع التعبير بما الموصولة دون من لأجل هذا الشمول ولأن الإبهام يناسبه الموصول الذي هو أعم فإن الحق أن ما تجيء لما هو أعم من العاقل .

والمراد بما عرفوا القرآن أي أنهم عرفوه بالصفة المتحققة في الخارج وإن جهلوا انطباقها على القرآن لضلالهم لأن الظاهر أن بني إسرائيل لم يكن أكثرهم يعتقد صدق القرآن وصدق الرسول ، وبعضهم كان يعتقد ذلك ولكنه يتناسى ويتغافل حسدا قال تعالى حسدا من عند أنفسهم من بعد ما تبين لهم الحق ويصير معنى الآية ولما جاءهم كتاب من عند الله مصدق لما معهم وعرفوا أنه الذي كانوا يستفتحون به على المشركين .

وجملة وكانوا من قبل يستفتحون في موضع الحال وفائدتها هنا استحضار حالتهم العجيبة وهي أنهم كذبوا بالكتاب والرسول في حال ترقبهم لمجيئه وانتظار النصر به وهذا منتهى الخذلان والبهتان .

وقوله فلما جاءهم ما عرفوا بالفاء عطف على جملة كانوا يستفتحون و ( لما ) الثانية تتنازع مع ( لما ) الأولى الجواب وهو قوله كفروا به ؛ فكان موقع جملة " وكانوا . . . إلخ " بالنسبة إلى كون الكتاب مصدقا موقع الحال لأن الاستنصار به أو التبشير به يناسب اعتقاد كونه مصدقا لما معهم وموقعها بالنسبة إلى كون الكتاب والرسول معروفين لهم بالأمارات والدلائل موقع المنشئ من المتفرع عنه مع أن مفاد جملة ولما جاءهم كتاب من عند الله إلخ وجملة فلما جاءهم ما عرفوا إلخ واحد . وإعادة ( لما ) في الجملة الثانية دون أن يقول وكانوا من قبل يستفتحون على الذين كفروا فلما جاءهم ما عرفوا إلخ قصد إظهار اتحاد مفاد الجملتين المفتتحتين بلما وزيادة الربط بين المعنيين ؛ حيث انفصل بالجملة الحالية فحصل بذلك نظم عجيب وإيجاز بديع وطريقة تكرير العامل مع كون المعمول واحدا طريقة عربية فصحى ، قال تعالى لا تحسبن الذين يفرحون بما أتوا ويحبون أن يحمدوا بما لم يفعلوا فلا تحسبنهم بمفازة من العذاب وقال أيعدكم أنكم إذا متم وكنتم ترابا وعظاما أنكم مخرجون فأعاد أنكم قبل خبر الأولى . وقد عدلنا في هذا البيان عن طريقة الزجاج وطريقة المبرد وطريقة الفراء المذكورات في حاشية الخفاجي وعبد الحكيم وصغناه من محاسن تلك الطرائق كلها لما في كل طريقة منها من مخالفة للظاهر .

وقوله فلعنة الله على الكافرين جملة دعاء عليهم وعلى أمثالهم . والدعاء من الله تعالى [ ص: 603 ] تقدير وقضاء لأنه تعالى لا يعجزه شيء وليس غيره مطلوبا بالأدعية وهذا كقوله وقالت اليهود يد الله مغلولة غلت أيديهم وقوله قاتلهم الله أنى يؤفكون وسيأتي بيانه عند قوله تعالى عليهم دائرة السوء في سورة براءة . والفاء للسببية والمراد التسبب الذكري بمعنى أن ما قبلها وهو المعطوف عليه يسبب أن ينطق المتكلم بما بعدها كقول قيس بن الخطيم :


وكنت امرءا لا أسمع الدهر سبة أسب بها إلا كشفت غطاءها     فإني في الحرب الضروس موكل
بإقدام نفس ما أريد بقاءها

فعطف قوله " فإني " على قوله " كشفت غطاءها " لأن هذا الحكم يوجب بيان أنه في الحرب مقدام . واللام في الكافرين للاستغراق بقرينة مقام الدعاء يشمل المتحدث عنهم لأنهم من جملة أفراد هذا العموم بل هم أول أفراده سبقا للذهن لأن سبب ورود العام قطعي الدخول ابتداء في العموم . وهذه طريقة عربية فصيحة في إسناد الحكم إلى العموم والمراد ابتداء بعض أفراده لأن دخول المراد حينئذ يكون بطريقة برهانية كما تدخل النتيجة في القياس قال بشامة بن حزن النهشلي :


إنا محيوك يا سلمى فحيينا     وإن سقيت كرام الناس فاسقينا

أراد الكناية عن كرمهم بأنهم يسقون حين يسقى كرام الناس .

التالي السابق


الخدمات العلمية