صفحة جزء
[ ص: 5 ]

وما من دابة في الأرض إلا على الله رزقها ويعلم مستقرها ومستودعها كل في كتاب مبين

عطف على جملة : يعلم ما يسرون وما يعلنون . والتقدير : وما من دابة إلا يعلم مستقرها ومستودعها ، وإنما نظم الكلام على هذا الأسلوب تفننا لإفادة التنصيص على العموم بالنفي المؤكد بـ من ، ولإدماج تعميم رزق الله كل دابة في الأرض في أثناء إفادة عموم علمه بأحوال كل دابة ، فلأجل ذلك أخر الفعل المعطوف لأن في التذكير بأن الله رازق الدواب التي لا حيلة لها في الاكتساب استدلالا على أنه عليم بأحوالها ، فإن كونه رازقا للدواب قضية من الأصول الموضوعة المقبولة عند عموم البشر ، فمن أجل ذلك جعل رزق الله إياها دليلا على علمه بما تحتاجه .

والدابة في اللغة اسم لما يدب أي يمشي على الأرض غير الإنسان .

وزيادة في الأرض تأكيد لمعنى دابة في التنصيص على أن العموم مستعمل في حقيقته .

والرزق : الطعام ، وتقدم في قوله تعالى : وجد عندها رزقا

والاستثناء من عموم الأحوال التابع لعموم الذوات والمدلول عليه بذكر رزقها الذي هو من أحوالها .

وتقديم على الله قبل متعلقه وهو رزقها لإفادة القصر ، أي على الله لا على غيره ، ولإفادة تركيب على الله رزقها معنى أن الله تكفل برزقها ولم [ ص: 6 ] يهمله ; لأن على تدل على اللزوم والمحقوقية ، ومعلوم أن الله لا يلزمه أحد شيئا ، فما أفاد معنى اللزوم فإنما هو التزامه بنفسه بمقتضى صفاته المقتضية ذلك له كما أشار إليه قوله تعالى : وعدا علينا وقوله : حقا علينا

والاستثناء من عموم ما يسند إليه رزق الدواب في ظاهر ما يبدو للناس أنه رزق من أصحاب الدواب ومن يربونها ، أي رزقها على الله لا على غيره ، فالمستثنى هو الكون على الله والمستثنى منه مطلق الكون مما يتخيل أنه رزاق فحصر الرزق في الكون على الله مجاز عقلي في العرف باعتبار أن الله مسبب ذلك الرزق ومقدره .

وجملة ويعلم مستقرها ومستودعها عطف على جملة الاستثناء لا على المستثنى ، أي والله يعلم مستقر كل دابة ومستودعها . فليس حكم هذه الجملة بداخل في حيز الحصر .

والمستقر : محل استقرارها . والمستودع : محل الإيداع ، والإيداع : الوضع والدخر . والمراد به مستودعها في الرحم قبل بروزها إلى الأرض كقوله : وهو الذي أنشأكم من نفس واحدة فمستقر ومستودع في سورة الأنعام .

وتنوين " كل " تنوين عوض عن المضاف إليه اختصار ، أي كل رزقها ومستقرها ومستودعها في كتاب مبين ، أي كتابة ، فالكتاب هنا مصدر كقوله : كتاب الله عليكم . وهو مستعمل في تقدير العلم وتحقيقه بحيث لا يقبل زيادة ولا نقصانا ولا تخلفا . كما أن الكتابة يقصد منها أن لا يزاد في الأمر ولا ينقص ولا يبطل . قال الحارث بن حلزة :


حذر الجور والتطاخي وهل ينق ض ما في المهارق الأهـواء



والمبين : اسم فاعل أبان بمعنى أظهر ، وهو تخييل لاستعارة الكتاب للتقدير . وليس المراد أنه موضح لمن يطالعه لأن علم الله وقدره لا يطلع عليه أحد .

التالي السابق


الخدمات العلمية