صفحة جزء
ويا قوم لا أسألكم عليه مالا إن أجري إلا على الله وما أنا بطارد الذين آمنوا إنهم ملاقو ربهم ولكني أراكم قوما تجهلون

إعادة الخطاب بـ يا قوم تأكيد لما في الخطاب به أول مرة من المعاني التي ذكرناها ، وأما عطف النداء بالواو مع أن المخاطب به واحد وشأن عطف النداء أن يكون عند اختلاف المنادى كقول المعري :


يا ساهر البرق أيقظ راقد السمر لعل بالجزع أعوانا على السهـر



ثم قال :


ويا أسيرة حجليها أرى سفـهـا     حمل الحلي بمن أعيا عن النظر



فأما إذا اتحد المنادى فالشأن عدم العطف كما في قصة إبراهيم - عليه السلام - في سورة مريم إذ قال لأبيه يا أبت لم تعبد ما لا يسمع ولا يبصر إلى قوله : وليا فقد تكرر النداء أربع مرات .

[ ص: 54 ] فتعين هنا أن يكون العطف من مقول نوح - عليه السلام - لا من حكاية الله عنه . ثم يجوز أن يكون تنبيها على اتصال النداءات بعضها ببعض ، وأن أحدها لا يغني عن الآخر ، ولا يكون ذلك من قبيل الوصل لأن النداء افتتاح كلام فجملته ابتدائية وعطفها إذا عطفت مجرد عطف لفظي . ويجوز أن يكون ذلك تفننا عربيا في الكلام عند تكرر النداء استحسانا للمخالفة بين التأكيد والمؤكد . وسيجيء نظير هذا قريبا في قصة هود - عليه السلام - وقصة شعيب - عليه السلام .

ومنه ما وقع في سورة المؤمن في قوله : وقال الذي آمن يا قوم إني أخاف عليكم مثل يوم الأحزاب مثل دأب قوم نوح وعاد وثمود والذين من بعدهم وما الله يريد ظلما للعباد ويا قوم إني أخاف عليكم يوم التناد يوم تولون مدبرين ما لكم من الله من عاصم ثم قال وقال الذي آمن يا قوم اتبعون أهدكم سبيل الرشاد يا قوم إنما هذه الحياة الدنيا متاع وإن الآخرة هي دار القرار من عمل سيئة فلا يجزى إلا مثلها ومن عمل صالحا من ذكر أو أنثى وهو مؤمن فأولئك يدخلون الجنة يرزقون فيها بغير حساب ويا قوم ما لي أدعوكم إلى النجاة وتدعونني إلى النار . فعطف ويا قوم تارة وترك العطف أخرى .

وأما مع اختلاف الوصف المنادى به فقد جاء العطف وهو أظهر لما في اختلاف وصف المنادى من شبه التغاير كقول قيس بن عاصم ، وقيل حاتم الطائي :


أيا ابنة عبد اللـه وابـنة مـالـك     ويا ابنة ذي البردين والفرس الورد



فقوله : " ويا بنة ذي البردين " عطف نداء على نداء والمنادى بهما واحد .

لما أظهر لهم نوح - عليه السلام - أنه يجبرهم على إيمان يكرهونه انتقل إلى تقريبهم من النظر في نزاهة ما جاءهم به ، وأنه لا يريد نفعا دنيويا بأنه لا يسألهم على ما جاء به ما لا يعطونه إياه فماذا يتهمونه حتى يقطعون بكذبه .

[ ص: 55 ] والضمير في قوله : عليه عائد إلى المذكور بمنزلة اسم الإشارة في قوله : ومن يفعل ذلك فإن الضمير يعامل معاملة اسم الإشارة .

وجملة إن أجري إلا على الله احتراس لأنه لما نفى أن يسألهم مالا ، والمال أجر ، نشأ توهم أنه لا يسأل جزاء على الدعوة فجاء بجملة إن أجري إلا على الله احتراسا . والمخالفة بين العبارتين في قوله : مالا وأجري تفيد أنه لا يسأل من الله مالا ولكنه يسأل ثوابا . والأجر : العوض على عمل . ويسمى ثواب الله أجرا لأنه جزاء على العمل الصالح .

وعطف جملة وما أنا بطارد الذين آمنوا على جملة لا أسألكم عليه مالا لأن مضمونها كالنتيجة لمضمون المعطوف عليها لأن نفي طمعه في المخاطبين يقتضي أنه لا يؤذي أتباعه لأجل إرضاء هؤلاء . ولذلك عبر عن أتباعه بطريق الموصولية بقوله : الذين آمنوا لما يؤذن به الموصول من تغليط قومه في تعريضهم له بأن يطردهم بما أنهم لا يجالسون أمثالهم إيذانا بأن إيمانهم يوجب تفضيلهم على غيرهم الذين لم يؤمنوا به والرغبة فيهم فكيف يطردهم . وهذا إبطال لما اقتضاه قولهم وما نراك اتبعك إلا الذين هم أراذلنا من التعريض بأنهم لا يماثلونهم في متابعته .

والطرد : الأمر بالبعد عن مكان الحضور تحقيرا أو زجرا . وتقدم عند قوله - تعالى : ولا تطرد الذين يدعون ربهم في سورة الأنعام .

وجملة إنهم ملاقو ربهم في موضع التعليل لنفي أن يطردهم بأنهم صائرون إلى الله في الآخرة فمحاسب من يطردهم ، هذا إذا كانت الملاقاة على الحقيقة ، أو أراد أنهم يدعون ربهم في صلاتهم فينتصر الله لهم إذا كانت الملاقاة مجازية ، أو أنهم ملاقو ربهم حين يحضرون مجلس دعوتي لأني أدعو إلى الله لا إلى شيء يخصني فهم عند ملاقاتي كمن يلاقون ربهم لأنهم يتلقون ما أوحى الله إلي . وهذا كقول النبيء - صلى الله عليه وسلم - في قصة النفر الثلاثة الذين [ ص: 56 ] حضروا مجلس النبيء - صلى الله عليه وسلم - فجلس أحدهم ، واستحيا أحدهم ، وأعرض الثالث " أما الأول فآوى إلى الله فآواه الله ، وأما الثاني فاستحيا فاستحيا الله منه ، وأما الثالث فأعرض فأعرض الله عنه " .

وتأكيد الخبر بـ إن إن كان اللقاء حقيقة لرد إنكار قومه البعث ، وإن كان اللقاء مجازا فالتأكيد للاهتمام بذلك اللقاء . وقد زيد هذا التأكيد تأكيدا بجملة ( ولكني أراكم قوما تجهلون )

وموقع الاستدراك هو أن مضمون الجملة ضد مضمون التي قبلها وهي جملة إنهم ملاقو ربهم أي لا ريب في ذلك ولكنكم تجهلون فتحسبونهم لا حضرة لهم وأن لا تبعة في طردهم .

وحذف مفعول تجهلون للعلم به ، أي تجهلون ذلك .

وزيادة قوله : ( قوما ) يدل على أن جهلهم صفة لازمة لهم كأنها من مقومات قوميتهم كما تقدم عند قوله - تعالى : لآيات لقوم يعقلون في سورة البقرة .

التالي السابق


الخدمات العلمية