صفحة جزء
[ ص: 93 ] المقدمة التاسعة في أن المعاني التي تتحملها جمل القرآن تعتبر مرادة بها

إن العرب أمة جبلت على ذكاء القرائح وفطنة الأفهام ، فعلى دعامة فطنتهم وذكائهم أقيمت أساليب كلامهم ، وبخاصة كلام بلغائهم ، ولذلك كان الإيجاز عمود بلاغتهم لاعتماد المتكلمين على أفهام السامعين كما يقال " لمحة دالة " .

لأجل ذلك كثر في كلامهم : المجاز ، والاستعارة ، والتمثيل ، والكناية ، والتعريض ، والاشتراك ، والتسامح في الاستعمال كالمبالغة ، والاستطراد ومستتبعات التراكيب ، والأمثال ، والتلميح ، والتمليح ، واستعمال الجملة الخبرية في غير إفادة النسبة الخبرية ، واستعمال الاستفهام في التقرير أو الإنكار ، ونحو ذلك .

وملاك ذلك كله توفير المعاني ، وأداء ما في نفس المتكلم بأوضح عبارة وأخصرها ليسهل اعتلاقها بالأذهان ; وإذ قد كان القرآن وحيا من العلام سبحانه وقد أراد أن يجعله آية على صدق رسوله وتحدى بلغاء العرب بمعارضة أقصر سورة منه كما سيأتي في المقدمة العاشرة ، فقد نسج نظمه نسجا بالغا منتهى ما تسمح به اللغة العربية من الدقائق واللطائف لفظا ومعنى بما يفي بأقصى ما يراد بلاغة إلى المرسل إليهم .

فجاء القرآن على أسلوب أبدع مما كانوا يعهدون وأعجب ، فأعجز بلغاء المعاندين عن معارضته ولم يسعهم إلا الإذعان ، سواء في ذلك من آمن منهم مثل لبيد بن ربيعة وكعب بن زهير والنابغة الجعدي ، ومن استمر على كفره عنادا مثل الوليد بن المغيرة . فالقرآن من جانب إعجازه يكون أكثر معاني من المعاني المعتادة التي يودعها البلغاء في كلامهم . وهو لكونه كتاب تشريع وتأديب وتعليم كان حقيقا بأن يودع فيه من المعاني والمقاصد أكثر ما تحتمله الألفاظ ، في أقل ما يمكن من المقدار ، بحسب ما تسمح به اللغة الوارد هو بها التي هي أسمح اللغات بهذه الاعتبارات ، ليحصل تمام المقصود من الإرشاد الذي جاء لأجله في جميع نواحي الهدى ، فمعتاد البلغاء إيداع المتكلم معنى يدعوه إليه غرض كلامه وترك غيره ، والقرآن ينبغي أن يودع من المعاني كل ما يحتاج السامعون إلى علمه وكل ما له حظ في البلاغة سواء كانت متساوية أم متفاوتة في البلاغة إذا كان المعنى الأعلى مقصودا وكان ما هو [ ص: 94 ] أدنى منه مرادا معه لا مرادا دونه سواء كانت دلالة التركيب عليها متساوية في الاحتمال والظهور أم كانت متفاوتة بعضها أظهر من بعض ولو أن تبلغ حد التأويل وهو حمل اللفظ على المعنى المحتمل المرجوح .

أما إذا تساوى المعنيان فالأمر أظهر ، مثل قوله تعالى وما قتلوه يقينا

أي ما تيقنوا قتله ولكن توهموه ، أو ما أيقن النصارى الذين اختلفوا في قتل عيسى علم ذلك يقينا بل فهموه خطأ ، ومثل قوله فأنساه الشيطان ذكر ربه ففي كل من كلمة " ذكر " و " ربه " معنيان ، ومثل قوله قال معاذ الله إنه ربي أحسن مثواي ففي لفظ ( رب ) معنيان . وقد تكثر المعاني بإنزال لفظ الآية على وجهين أو أكثر تكثيرا للمعاني مع إيجاز اللفظ وهذا من وجوه الإعجاز . ومثاله قوله تعالى إلا عن موعدة وعدها إياه بالمثناة التحتية وقرأ الحسن البصري : أباه ، بالباء الموحدة ، فنشأ احتمال فيمن هو الواعد . ولما كان القرآن نازلا من المحيط علمه بكل شيء ، كان ما تسمح تراكيبه الجارية على فصيح استعمال الكلام البليغ باحتماله من المعاني المألوفة للعرب في أمثال تلك التراكيب ، مظنونا بأنه مراد لمنزله ، ما لم يمنع من ذلك مانع صريح أو غالب من دلالة شرعية أو لغوية أو توقيفية . وقد جعل الله القرآن كتاب الأمة كلها وفيه هديها ، ودعاهم إلى تدبره وبذل الجهد في استخراج معانيه في غير ما آية كقوله تعالى فاتقوا الله ما استطعتم وقوله وإذا جاءهم أمر من الأمن أو الخوف أذاعوا به ولو ردوه إلى الرسول وإلى أولي الأمر منهم لعلمه الذين يستنبطونه منهم وقوله بل هو آيات بينات في صدور الذين أوتوا العلم وغير ذلك .

على أن القرآن هو الحجة العامة بين علماء الإسلام لا يختلفون في كونه حجة شريعتهم وإن اختلفوا في حجية ما عداه من الأخبار المروية عن رسول الله صلى الله عليه وسلم لشدة الخلاف في شروط تصحيح الخبر ، ولتفاوتهم في مقدار ما يبلغهم من الأخبار مع تفرق العصور والأقطار ، فلا مرجع لهم عند الاختلاف يرجعون إليه أقوى من القرآن ودلالته .

ويدل لتأصيلنا هذا ما وقع إلينا من تفسيرات مروية عن النبيء صلى الله عليه وسلم لآيات ، فنرى منها ما نوقن بأنه ليس هو المعنى الأسبق من التركيب ; ولكنا بالتأمل نعلم أن الرسول عليه الصلاة والسلام ما أراد بتفسيره إلا إيقاظ الأذهان إلى أخذ أقصى المعاني من ألفاظ القرآن ، مثال ذلك ما رواه أبو سعيد بن المعلى قال : دعاني رسول الله وأنا في الصلاة فلم أجبه فلما فرغت أقبلت إليه فقال ما منعك أن تجيبني ؟ فقلت : يا رسول الله [ ص: 95 ] كنت أصلي ، فقال : ألم يقل الله تعالى استجيبوا لله وللرسول إذا دعاكم ؟ ، فلا شك أن المعنى المسوقة فيه الآية هو الاستجابة بمعنى الامتثال ، كقوله تعالى الذين استجابوا لله والرسول من بعد ما أصابهم القرح ، وأن المراد من الدعوة الهداية كقوله يدعون إلى الخير وقد تعلق فعل دعاكم بقوله لما يحييكم أي لما فيه صلاحكم ، غير أن لفظ الاستجابة لما كان صالحا للحمل على المعنى الحقيقي أيضا وهو إجابة النداء حمل النبيء صلى الله عليه وسلم الآية على ذلك في المقام الصالح له ، بقطع النظر عن المتعلق وهو قوله ( لما يحييكم ) وكذلك قوله صلى الله عليه وسلم يحشر الناس يوم القيامة حفاة عراة غرلا ، كما بدأنا أول خلق نعيده إنما هو تشبيه الخلق الثاني بالخلق الأول لدفع استبعاد البعث ، كقوله تعالى أفعيينا بالخلق الأول بل هم في لبس من خلق جديد وقوله وهو الذي يبدأ الخلق ثم يعيده وهو أهون عليه فذلك مورد التشبيه ، غير أن التشبيه لما كان صالحا للحمل على تمام المشابهة أعلمنا النبيء صلى الله عليه وسلم أن ذلك مراد منه ، بأن يكون التشبيه بالخلق الأول شاملا للتجرد من الثياب والنعال . وكذلك قوله تعالى إن تستغفر لهم سبعين مرة فلن يغفر الله لهم فقد قال النبيء صلى الله عليه وسلم لعمر بن الخطاب لما قال له : لا تصل على عبد الله بن أبي ابن سلول فإنه منافق وقد نهاك الله عن أن تستغفر للمنافقين ، فقال النبيء : خيرني ربي وسأزيد على السبعين فحمل قوله تعالى استغفر لهم أو لا تستغفر لهم على التخيير مع أن ظاهره أنه مستعمل في التسوية ، وحمل اسم العدد على دلالته الصريحة دون كونه كناية عن الكثرة كما هو قرينة السياق لما كان الأمر واسم العدد صالحين لما حملهما عليه فكان الحمل تأويلا ناشئا عن الاحتياط .

ومن هذا قول النبيء لأم كلثوم بنت عقبة بن معيط حين جاءت مسلمة مهاجرة إلى المدينة وأبت أن ترجع إلى المشركين فقرأ النبيء قوله تعالى يخرج الحي من الميت فاستعمله في معنى مجازي هو غير المعنى الحقيقي الذي سيق إليه ، وما أرى سجود النبيء صلى الله عليه وسلم في مواضع سجود التلاوة من القرآن إلا راجعا إلى هذا الأصل ، فإن كان فهما منه رجع إلى ما شرحنا تأصيله ، وإن كان وحيا كان أقوى حجة في إرادة الله من ألفاظ كتابه ما تحتمله ألفاظه مما لا ينافي أغراضه .

وكذلك لما ورد عن أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم ومن بعدهم من الأئمة مثل ما روي [ ص: 96 ] أن عمرو بن العاص أصبح جنبا في غزوة في يوم بارد فتيمم وقال : الله تعالى يقول ولا تقتلوا أنفسكم إن الله كان بكم رحيما مع أن مورد الآية أصله في النهي عن أن يقتل الناس بعضهم بعضا . ومن ذلك أن عمر لما فتحت العراق وسأله جيش الفتح قسمة أرض السواد بينهم قال : إن قسمتها بينكم لم يجد المسلمون الذين يأتون بعدكم من البلاد المفتوحة مثل ما وجدتم فأرى أن أجعلها خراجا على أهل الأرض يقسم على المسلمين كل موسم فإن الله يقول والذين جاءوا من بعدهم وهذه الآية نزلت في فيء قريظة والنضير ، والمراد بالذين جاءوا من بعد المذكورين هم المسلمون الذين أسلموا بعد الفتح المذكور . وكذلك استنباط عمر ابتداء التاريخ بيوم الهجرة ، من قوله تعالى لمسجد أسس على التقوى من أول يوم أحق أن تقوم فيه فإن المعنى الأصلي أنه أسس من أول أيام تأسيسه ، واللفظ صالح لأن يحمل على أنه أسس من أول يوم من الأيام أي أحق الأيام أن يكون أول أيام الإسلام فتكون الأولية نسبية .

وقد استدل فقهاؤنا على مشروعية الجعالة ومشروعية الكفالة في الإسلام ، بقوله تعالى في قصة يوسف ولمن جاء به حمل بعير وأنا به زعيم كما تقدم في المقدمة الثالثة ، مع أنه حكاية قصة مضت في أمة خلت ليست في سياق تقرير ولا إنكار ، ولا هي من شريعة سماوية ، إلا أن القرآن ذكرها ولم يعقبها بإنكار .

ومن هذا القبيل استدلال الشافعي على حجية الإجماع وتحريم خرقه بقوله تعالى ومن يشاقق الرسول من بعد ما تبين له الهدى ويتبع غير سبيل المؤمنين نوله ما تولى ونصله جهنم وساءت مصيرا مع أن سياق الآية في أحوال المشركين ، فالمراد من الآية مشاقة خاصة واتباع غير سبيل خاص ولكن الشافعي جعل حجية الإجماع من كمال الآية .

وإن القراءات المتواترة إذا اختلفت في قراءة ألفاظ القرآن اختلافا يفضي إلى اختلاف المعاني لمما يرجع إلى هذا الأصل .

ثم إن معاني التركيب المحتمل معنيين فصاعدا قد يكون بينهما العموم والخصوص ، فهذا النوع لا تردد في حمل التركيب على جميع ما يحتمله ، ما لم يكن عن بعض تلك المحامل صارف لفظي أو معنوي ، مثل حمل الجهاد في قوله تعالى ومن جاهد فإنما يجاهد لنفسه في سورة العنكبوت على معنى مجاهدة النفس في إقامة شرائع الإسلام ، ومقاتلة الأعداء في الذب عن حوزة الإسلام . وقد يكون بينهما التغاير ، بحيث يكون تعيين التركيب للبعض [ ص: 97 ] منافيا لتعيينه للآخر بحسب إرادة المتكلم عرفا ، ولكن صلوحية التركيب لها على البدلية مع عدم ما يعين إرادة أحدها تحمل السامع على الأخذ بالجميع إيفاء بما عسى أن يكون مراد المتكلم ، فالحمل على الجميع نظير ما قاله أهل الأصول في حمل المشترك على معانيه احتياطا . وقد يكون ثاني المعنيين متولدا من المعنى الأول ، وهذا لا شبهة في الحمل عليه ، لأنه من مستتبعات التراكيب ، مثل الكناية والتعريض والتهكم مع معانيها الصريحة ، ومن هذا القبيل ما في صحيح البخاري عن ابن عباس قال : كان عمر يدخلني مع أشياخ بدر فكأن بعضهم وجد في نفسه فقال : لم يدخل هذا معنا ولنا أبناء مثله ؟ ، فقال عمر : إنه من حيث علمتم ، فدعاه ذات يوم فأدخله معهم قال : فما رئيت أنه دعاني إلا ليريهم ، قال : ما تقولون في قول الله تعالى إذا جاء نصر الله والفتح ؟ فقال بعضهم : أمرنا أن نحمد الله ونستغفره إذا نصرنا وفتح علينا ، وسكت بعضهم فلم يقل شيئا ، فقال لي : أكذلك تقول يا ابن عباس ؟ فقلت : لا ، فقال : فما تقول ؟ قلت : هو أجل رسول الله أعلمه له ، قال : إذا جاء نصر الله والفتح وذلك علامة أجلك فسبح بحمد ربك واستغفره إنه كان توابا ، فقال عمر : ما أعلم منها إلا ما تقول .

وإنك لتمر بالآية الواحدة فتتأملها وتتدبرها فتنهال عليك معان كثيرة يسمح بها التركيب على اختلاف الاعتبارات في أساليب الاستعمال العربي . وقد تتكاثر عليك فلا تك من كثرتها في حصر ولا تجعل الحمل على بعضها منافيا للحمل على البعض الآخر إن كان التركيب سمحا بذلك .

فمختلف المحامل التي تسمح بها كلمات القرآن وتراكيبه وإعرابه ودلالته ، من اشتراك وحقيقة ومجاز ، وصريح وكناية ، وبديع ، ووصل ، ووقف ، إذا لم تفض إلى خلاف المقصود من السياق ، يجب حمل الكلام على جميعها كالوصل والوقف في قوله تعالى لا ريب فيه هدى للمتقين إذا وقف على " لا ريب " أو على " فيه " . وقوله تعالى ( وكأين من نبي قتل معه ربيون كثير ) باختلاف المعنى إذا وقف على قوله ( قتل ) ، أو على قوله ( معه ربيون كثير ) وكقوله تعالى وما يعلم تأويله إلا الله والراسخون في العلم يقولون باختلاف المعنى عند الوقف على اسم الجلالة أو على قوله " في العلم " وكقوله تعالى قال أراغب أنت عن آلهتي يا إبراهيم لئن لم تنته لأرجمنك باختلاف ارتباط النداء من قوله [ ص: 98 ] يا إبراهيم بالتوبيخ بقوله أراغب أنت ، أو بالوعيد في قوله لئن لم تنته لأرجمنك ، وقد أراد الله تعالى أن يكون القرآن كتابا مخاطبا به كل الأمم في جميع العصور ، لذلك جعله بلغة هي أفصح كلام بين لغات البشر وهي اللغة العربية ، لأسباب يلوح لي منها : أن تلك اللغة أوفر اللغات مادة ، وأقلها حروفا ، وأفصحها لهجة ، وأكثرها تصرفا في الدلالة على أغراض المتكلم ، وأوفرها ألفاظا ، وجعله جامعا لأكثر ما يمكن أن تتحمله اللغة العربية في نظم تراكيبها من المعاني ، في أقل ما يسمح به نظم تلك اللغة ، فكان قوام أساليبه جاريا على أسلوب الإيجاز ; فلذلك كثر فيه ما لم يكثر مثله في كلام بلغاء العرب .

ومن أدق ذلك وأجدره بأن ننبه عليه في هذه المقدمة استعمال اللفظ المشترك في معنييه أو معانيه دفعة ، واستعمال اللفظ في معناه الحقيقي ومعناه المجازي معا . بله إرادة المعاني المكنى عنها مع المعاني المصرح بها ، وإرادة المعاني المستتبعات بفتح الباء من التراكيب المستتبعة بكسر الباء .

وهذا الأخير قد نبه عليه علماء العربية الذين اشتغلوا بعلم المعاني والبيان . وبقي المبحثان الأولان وهما استعمال المشترك في معنييه أو معانيه ، واستعمال اللفظ في حقيقته ومجازه ، محل تردد بين المتصدين لاستخراج معاني القرآن تفسيرا وتشريعا ، سببه أنه غير وارد في كلام العرب قبل القرآن أو واقع بندرة ، فلقد تجد بعض العلماء يدفع محملا من محامل بعض آيات بأنه محمل يفضي إلى استعمال المشترك في معنييه أو استعمال اللفظ في حقيقته ومجازه ، ويعدون ذلك خطبا عظيما .

من أجل ذلك اختلف علماء العربية وعلماء أصول الفقه في جواز استعمال المشترك في أكثر من معنى من مدلوله اختلافا ينبي عن ترددهم في صحة حمل ألفاظ القرآن على هذا الاستعمال . وقد أشار كلام بعض الأئمة إلى أن مثار اختلافهم هو عدم العهد بمثله عند العرب قبل نزول القرآن ، إذ قال الغزالي وأبو الحسين البصري : يصح أن يراد بالمشترك عدة معان لكن بإرادة المتكلم وليس بدلالة اللغة . وظني بهما أنهما يريدان تصيير تلك الإرادة [ ص: 99 ] إلى أنها دلالة من مستتبعات التراكيب لأنها دلالة عقلية لا تحتاج إلى علاقة وقرينة ، كدلالة المجاز والاستعارة .

والحق أن المشترك يصح إطلاقه على عدة من معانيه جميعا أو بعضا إطلاقا لغويا ، فقال قوم : هو من قبيل الحقيقة ، ونسب إلى الشافعي وأبي بكر الباقلاني وجمهور المعتزلة . وقال قوم : هو المجاز ، وجزم ابن الحاجب بأنه مراد الباقلاني من قوله في كتاب التقريب والإرشاد : إن المشترك لا يحمل على أكثر من معنى إلا بقرينة ، ففهم ابن الحاجب أن القرينة من علامات المجاز وهذا لا يستقيم لأن القرينة التي هي من علامات المجاز هي القرينة المانعة من إرادة المعنى الحقيقي ، وهي لا تتصور في موضوعنا ; إذ معاني المشترك كلها من قبيل الحقيقة وإلا لانتقضت حقيقة المشترك فارتفع الموضوع من أصله . وإنما سها أصحاب هذا الرأي عن الفرق بين قرينة إطلاق اللفظ على معناه المجازي وقرينة إطلاق المشترك على عدة من معانيه ، فإن قرينة المجاز مانعة من إرادة المعنى الحقيقي وقرينة المشترك معينة للمعاني المرادة كلا أو بعضا .

وثمة قول آخر لا ينبغي الالتفات إليه وإنما نذكره استيعابا لآراء الناظرين في هذه المسألة ، وهو صحة إطلاق المشترك على معانيه في النفي وعدم صحة ذلك في الإيجاب ، ونسب هذا القول إلى برهان علي المرغيناني الفقيه الحنفي صاحب كتاب " الهداية في الفقه " ، ومثاره في ما أحسب اشتباه دلالة اللفظ المشترك على معانيه بدلالة النكرة الكلية على أفرادها حيث تفيد العموم إذا وقعت في سياق النفي ولا تفيده في سياق الإثبات .

والذي يجب اعتماده أن يحمل المشترك في القرآن على ما يحتمله من المعاني سواء في ذلك اللفظ المفرد المشترك ، والتركيب المشترك بين مختلف الاستعمالات ، سواء كانت المعاني حقيقية أو مجازية ، محضة أو مختلفة . مثال استعمال اللفظ المفرد في حقيقته ومجازه قوله تعالى ألم تر أن الله يسجد له من في السماوات ومن في الأرض والشمس والقمر والنجوم والجبال والشجر والدواب وكثير من الناس فالسجود له معنى حقيقي وهو وضع الجبهة على الأرض ومعنى مجازي وهو التعظيم ، وقد استعمل فعل " يسجد " هنا في معنييه المذكورين لا محالة . وقوله تعالى ويبسطوا إليكم أيديهم وألسنتهم بالسوء فبسط الأيدي حقيقة في مدها للضرب والسلب ، وبسط الألسنة مجاز في عدم إمساكها عن القول البذيء [ ص: 100 ] وقد استعمل هنا في كلا معنييه . ومثال استعمال المركب المشترك في معنييه قوله تعالى ويل للمطففين فمركب " ويل له " يستعمل خبرا ويستعمل دعاء ، وقد حمله المفسرون هنا على كلا المعنيين .

وعلى هذا القانون يكون طريق الجمع بين المعاني التي يذكرها المفسرون ، أو ترجيح بعضها على بعض ، وقد كان المفسرون غافلين عن تأصيل هذا الأصل فلذلك كان الذي يرجح معنى من المعاني التي يحتملها لفظ آية من القرآن ، يجعل غير ذلك المعنى ملغى . ونحن لا نتابعهم على ذلك بل نرى المعاني المتعددة التي يحتملها اللفظ بدون خروج عن مهيع الكلام العربي البليغ ، معاني في تفسير الآية .

فنحن في تفسيرنا هذا إذا ذكرنا معنيين فصاعدا فذلك على هذا القانون . وإذا تركنا معنى مما حمل بعض المفسرين عليه في آيات من القرآن فليس تركنا إياه دالا على إبطاله ، ولكن قد يكون ذلك لترجح غيره ، وقد يكون اكتفاء بذكره في تفاسير أخرى تجنبا للإطالة ، فإن التفاسير اليوم موجودة بين يدي أهل العلم لا يعوزهم استقراؤها ولا تمييز محاملها متى جروا على هذا القانون .

التالي السابق


الخدمات العلمية