صفحة جزء
[ ص: 173 ]

وإن كلا لما ليوفينهم ربك أعمالهم إنه بما يعملون خبير

تذييل للأخبار السابقة . والواو اعتراضية . و ( إن ) مخففة من إن الثقيلة في قراءة نافع ، وابن كثير ، وأبي بكر عن عاصم ، وأعملت في اسمها فانتصب بعدها . و ( إن ) المخففة إذا وقعت بعدها جملة اسمية يكثر إعمالها ويكثر إهمالها قاله الخليل وسيبويه ونحاة البصرة وهو الحق . وقرأ الباقون ( إن ) مشددة على الأصل .

وبتنوين ( كلا ) عوضا عن المضاف إليه . والتقدير : وإن كلهم ، أي كل المذكورين آنفا من أهل القرى ، ومن المشركين المعرض بهم ، ومن المختلفين في الكتاب من أتباع موسى - عليه السلام .

و ( لما ) مخففة في قراءة نافع ، وابن كثير ، وأبي عمرو ، والكسائي ، فاللام الداخلة على ( ما ) لام الابتداء التي تدخل على خبر ( إن ) . واللام الثانية الداخلة على ( ليوفينهم ) لام جواب القسم . و ( ما ) مزيدة للتأكيد . والفصل بين اللامين دفعا لكراهة توالي مثلين .

وقرأ ابن عامر ، وحمزة ، وعاصم ، وأبو جعفر ، وخلف - بتشديد الميم - من ( لما ) . فعند من قرأ ( إن ) مخففة وشدد الميم وهو أبو بكر عن عاصم تكون ( إن ) مخففة من الثقيلة ، وأما من شدد النون من ( إن ) وشدد الميم من ( لما ) وهم ابن عامر ، وحمزة ، وحفص عن عاصم ، وأبو جعفر ، وخلف فتوجيه قراءتهم وقراءة أبي بكر ما قاله الفراء : إنها بمعنى ( لمن ما ) فحذفت إحدى الميمات الثلاث ، يريد أن ( لما ) ليست كلمة واحدة وإن كانت في صورتها كصورة حرف ( لما ) في رسم المصحف ( لأنه اتبع فيه صورة النطق بها ) وإنما هي مركبة من لام الابتداء و ( من ) الجارة التي تستعمل في معنى كثرة تكرر الفعل كالتي في قول أبي حية النمري :

[ ص: 174 ]


وإنا لمما نضرب الكبش ضربة على رأسه تلقي اللسان من الفم



أي : نكثر ضرب الكبش ، أي أمير جيش العدو على رأسه . وقول ابن عباس : كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يلاقي من الوحي شدة ، وكان مما يحرك لسانه حين ينزل عليه القرآن ، فقال الله - تعالى : لا تحرك به لسانك لتعجل به الآية . فأصل هذه الكلمات في الآية على هذه القراءات : وإن كلا لمن ما ليوفينهم ، فلما قلبت نون من ميما لإدغامها في ميم ( ما ) اجتمع ثلاث ميمات فحذفت الميم الأولى تخفيفا وهي ميم ( من ) لوجود دليل عليها وهو الميم الثانية لأن أصل الميم الثانية نون ( من ) فصار ( لما ) .

ولام ليوفينهم لام قسم .

ومعنى الكثرة في هذه الآية الكناية عن عدم إفلات فريق من المختلفين في الكتاب من إلحاق الجزاء عن عمله به .

والمعنى : وإن جميعهم للاقون جزاء أعمالهم لا يفلت منهم أحد ، وإن توفية الله إياهم أعمالهم حققه الله ولم يسامح فيه . فهذا التخريج هو أولى الوجوه التي خرجت عليها هذه القراءة وهو مروي عن الفراء وتبعه المهدوي ونصر الشيرازي النحوي ومشى عليه البيضاوي . وقد أنهاها أبو شامة في شرح منظومة الشاطبي إلى ستة وجوه وأنهاها غيره إلى ثمانية وجوه .

وفي تفسير الفخر : سمعت بعض الأفاضل قال : إن الله - تعالى - لما أخبر عن توفية الأجزية على المستحقين في هذه الآية ذكر فيها سبعة أنواع من التوكيدات ، أولها : كلمة ( إن ) وهي للتأكيد ، وثانيها ( كل ) وهي أيضا للتأكيد ، وثالثها اللام الداخلة على خبر إن ، ورابعها حرف ( ما ) إذا جعلناه موصولا على قول [ ص: 175 ] الفراء ، وخامسها القسم المضمر ، وسادسها اللام الداخلة على جواب القسم ، وسابعها النون المؤكدة في قوله : ليوفينهم .

وتوفية أعمالهم بمعنى توفية جزاء الأعمال ، أي إعطاء الجزاء وافيا من الخير على عمل الخير ومن السوء على عمل السوء .

وجملة إنه بما يعملون خبير استئناف وتعليل للتوفية لأن إحاطة العلم بأعمالهم مع إرادة جزائهم توجب أن يكون الجزاء مطابقا للعمل تمام المطابقة . وذلك محقق التوفية .

التالي السابق


الخدمات العلمية