صفحة جزء
إذ قال يوسف لأبيه يا أبت إني رأيت أحد عشر كوكبا والشمس والقمر رأيتهم لي ساجدين

إذ قال بدل اشتمال أو بعض من أحسن القصص على أن يكون ( أحسن القصص ) بمعنى المفعول ، فإن أحسن القصص يشتمل على قصص كثير ، منه قصص زمان قول يوسف - عليه السلام - لأبيه إني رأيت أحد عشر كوكبا وما عقب قوله ذلك من الحوادث . فإذا حمل أحسن القصص على المصدر فالأحسن أن يكون إذ منصوبا بفعل محذوف يدل عليه المقام ، والتقدير : اذكر .

ويوسف اسم عبراني تقدم ذكر اسمه عند قوله - تعالى : وتلك حجتنا آتيناها إبراهيم على قومه إلخ في سورة الأنعام . وهو يوسف بن يعقوب بن إسحاق من زوجه " راحيل " . وهو أحد الأسباط الذين تقدم ذكرهم في سورة البقرة . وكان يوسف أحب أبناء يعقوب - عليهما السلام - إليه وكان فرط محبة أبيه إياه سبب غيرة إخوته منه فكادوا له مكيدة فسألوا أباهم أن يتركه يخرج معهم . فأخرجوه معهم بعلة اللعب والتفسح ، وألقوه في جب ، وأخبروا أباهم أنهم فقدوه ، وأنهم وجدوا قميصه ملوثا بالدم ، وأروه قميصه بعد أن لطخوه بدم ، والتقطه من البئر سيارة من العرب الإسماعيليين كانوا سائرين في طريقهم إلى مصر ، وباعوه كرقيق في سوق عاصمة مصر [ ص: 206 ] السفلى التي كانت يومئذ في حكم أمة من الكنعانيين يعرفون بالعمالقة أو ( الهكصوص ) . وذلك في زمن الملك ( أبو فيس ) أو ( ابيبي ) . ويقرب أن يكون ذلك في حدود سنة تسع وعشرين وسبعمائة وألف قبل المسيح - عليه السلام - ، فاشتراه ( فوطيفار ) رئيس شرطة فرعون الملقب في القرآن بالعزيز ، أي رئيس المدينة . وحدثت مكيدة له من زوج سيده ألقي بسببها في السجن . وبسبب رؤيا رآها الملك وعبرها يوسف - عليه السلام - وهو في السجن ، قربه الملك إليه زلفى ، وأولاه على جميع أرض مصر ، وهو لقب العزيز وسماه ( صفنات فعنيج ) ، وزوجه ( أسنات ) بنت أحد الكهنة وعمره يومئذ ثلاثون سنة . وفي مدة حكمه جلب أباه وأقاربه من البرية إلى أرض مصر ، فذلك سبب استيطان بني إسرائيل أرض مصر . وتوفي بمصر في حدود سنة خمس وثلاثين وستمائة وألف قبل ميلاد عيسى - عليه السلام - . وحنط على الطريقة المصرية . ووضع في تابوت ، وأوصى قبل موته بأنهم إذا خرجوا من مصر يرفعون جسده معهم . ولما خرج بنو إسرائيل من مصر رفعوا تابوت يوسف - عليه السلام - معهم وانتقلوه معهم في رحلتهم إلى أن دفنوه في ( شكيم ) في مدة يوشع بن نون .

والتاء في أبت تاء خاصة بكلمة الأب وكلمة الأم في النداء خاصة على نية الإضافة إلى المتكلم ، فمفادها مفاد : يا أبي ، ولا يكاد العرب يقولون : يا أبي . وورد في سلام ابن عمر على النبيء - صلى الله عليه وسلم - وصاحبه حين وقف على قبورهم المنورة . وقد تحير أئمة اللغة في تعليل وصلها بآخر الكلمة في النداء واختاروا أن أصلها تاء تأنيث بقرينة أنهم قد يجعلونها هاء في الوقف ، وأنها جعلت عوضا عن ياء المتكلم لعلة غير وجيهة . والذي يظهر لي أن أصلها هاء السكت جلبوها للوقف على آخر الأب لأنه نقص من لام الكلمة ، ثم لما شابهت هاء التأنيث بكثرة الاستعمال عوملت معاملة آخر الكلمة إذا أضافوا المنادى فقالوا : يا أبتي ، ثم استغنوا عن ياء الإضافة [ ص: 207 ] بالكسرة لكثرة الاستعمال . ويدل لذلك بقاء الياء في بعض الكلام كقول الشاعر الذي لا نعرفه :


أيا أبتي لا زلت فينـا فـإنـمـا لنا أمل في العيش ما دمت عائشا



ويجوز كسر هذه التاء وفتحها ، وبالكسر قرأها الجمهور ، وبفتح التاء قرأ ابن عامر وأبو جعفر .

والنداء في الآية مع كون المنادى حاضرا مقصود به الاهتمام بالخبر الذي سيلقى إلى المخاطب فينزل المخاطب منزلة الغائب المطلوب حضوره ، وهو كناية عن الاهتمام أو استعارة له .

والكوكب : النجم ، تقدم عند قوله - تعالى : فلما جن عليه الليل رأى كوكبا في سورة الأنعام .

وجملة رأيتهم مؤكدة لجملة رأيت أحد عشر كوكبا ، جيء بها على الاستعمال في حكاية المرائي الحلمية أن يعاد فعل الرؤية تأكيدا لفظيا أو استئنافا بيانيا ، كأن سامع الرؤيا يستزيد الرائي أخبارا عما رأى .

ومثال ذلك ما وقع في الموطأ أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال : أراني الليلة عند الكعبة فرأيت رجلا آدم الحديث .

وفي البخاري أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال : رأيت في المنام أني أهاجر من مكة إلى أرض بها نخل ، ورأيت فيها بقرا تذبح ، ورأيت . . والله خير . وقد يكون لفظ آخر في الرؤيا غير فعلها كما في الحديث الطويل إنه أتاني الليلة آتيان ، وإنهما ابتعثاني ، وإنهما قالا لي : انطلق ، وإني انطلقت معهما ، وإنا أتينا على رجل مضطجع الحديث بتكرار كلمة " إن " وكلمة " إنا " مرارا في هذا الحديث .

[ ص: 208 ] وقرأ الجمهور أحد عشر - بفتح العين - من عشر . وقرأه أبو جعفر - بسكون العين - .

واستعمل ضمير جمع المذكر للكواكب والشمس والقمر في قوله : رأيتهم لي ساجدين ؛ لأن كون ذلك للعقلاء غالب لا مطرد ، كما قال - تعالى - في الأصنام وتراهم ينظرون إليك وهم لا يبصرون ، وقال يا أيها النمل ادخلوا .

وقال جماعة من المفسرين : إنه لما كانت الحالة المرئية من الكواكب والشمس والقمر حالة العقلاء ، وهي حالة السجود نزلها منزلة العقلاء ، فأطلق عليها ضمير هم وصيغة جمعهم .

وتقديم المجرور على عامله في قوله : لي ساجدين للاهتمام ، عبر به عن معنى تضمنه كلام يوسف - عليه السلام - بلغته يدل على حالة في الكواكب من التعظيم له تقتضي الاهتمام بذكره فأفاده تقديم المجرور في اللغة العربية .

وابتداء قصة يوسف - عليه السلام - بذكر رؤياه إشارة إلى أن الله هيأ نفسه للنبوة فابتدأه بالرؤيا الصادقة كما جاء في حديث عائشة " أن أول ما ابتدئ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - من الوحي الرؤيا الصادقة فكان لا يرى رؤيا إلا جاءت مثل فلق الصبح " . وفي ذلك تمهيد للمقصود من القصة وهو تقرير فضل يوسف - عليه السلام - من طهارة وزكاء نفس وصبر . فذكر هذه الرؤيا في صدر القصة كالمقدمة والتمهيد للقصة المقصودة .

وجعل الله تلك الرؤيا تنبيها ليوسف - عليه السلام - بعلو شأنه ليتذكرها كلما حلت به ضائقة فتطمئن بها نفسه أن عاقبته طيبة .

وإنما أخبر يوسف - عليه السلام - أباه بهاته الرؤيا لأنه علم بإلهام أو بتعليم سابق من أبيه أن للرؤيا تعبيرا ، وعلم أن الكواكب والشمس والقمر كناية [ ص: 209 ] عن موجودات شريفة ، وأن سجود المخلوقات الشريفة له كناية عن عظمة شأنه . ولعله علم أن الكواكب كناية عن موجودات متماثلة ، وأن الشمس والقمر كناية عن أصلين لتلك الموجودات فاستشعر على الإجمال دلالة رؤياه على رفعة شأنه فأخبر بها أباه .

وكانوا يعدون الرؤيا من طرق الإنباء بالغيب ، إذا سلمت من الاختلاط وكان مزاج الرائي غير منحرف ولا مضطرب ، وكان الرائي قد اعتاد وقوع تأويل رؤياه ، وهو شيء ورثوه من صفاء نفوس أسلافهم إبراهيم وإسحاق - عليهما السلام - ، فقد كانوا آل بيت نبوة وصفاء سريرة .

ولما كانت رؤيا الأنبياء وحيا ، وقد رأى إبراهيم - عليه السلام - في المنام أنه يذبح ولده فلما أخبره قال يا أبت افعل ما تؤمر . وإلى ذلك يشير قول أبي يوسف - عليه السلام - ويتم نعمته عليك وعلى آل يعقوب كما أتمها على أبويك من قبل إبراهيم وإسحاق . فلا جرم أن تكون مرائي أبنائهم مكاشفة وحديثا ملكيا .

وفي الحديث : لم يبق من المبشرات إلا الرؤيا الصالحة يراها المسلم أو ترى له .

والاعتداد بالرؤيا من قديم أمور النبوءة . وقد جاء في التوراة أن الله خاطب إبراهيم - عليه السلام - في رؤيا رآها وهو في طريقه ببلاد شاليم بلد ملكي صادق وبشره بأنه يهبه نسلا كثيرا ، ويعطيه الأرض التي هو سائر فيها ( في الإصحاح 15 من سفر التكوين ) .

أما العرب فإنهم وإن لم يرد في كلامهم شيء يفيد اعتدادهم بالأحلام ، ولعل قول كعب بن زهير :

إن الأماني والأحلام تضليل



[ ص: 210 ] يفيد عدم اعتدادهم بالأحلام ، فإن الأحلام في البيت هي مرائي النوم .

ولكن ذكر ابن إسحاق رؤيا عبد المطلب وهو قائم في الحجر أنه أتاه آت فأمره بحفر بئر زمزم فوصف له مكانها ، وكانت جرهم سدموها عند خروجهم من مكة . وذكر ابن إسحاق رؤيا عاتكة بنت عبد المطلب أن : " راكبا أقبل على بعير فوقف بالأبطح ثم صرخ : يا آل غدر اخرجوا إلى مصارعكم في ثلاث " فكانت وقعة بدر عقبها بثلاث ليال .

وقد عدت المرائي النومية في أصول الحكمة الإشراقية وهي من تراثها عن حكمة الأديان السالفة مثل الحنيفية . وبالغ في تقريبها بالأصول النفسية شهاب الدين الحكيم السهروردي في هياكل النور وحكمة الإشراق ، وأبو علي ابن سينا في الإشارات بما حاصله : وأصله : أن النفس الناطقة - وهي المعبر عنها بالروح - هي من الجواهر المجردة التي مقرها العالم العلوي ، فهي قابلة لاكتشاف الكائنات على تفاوت في هذا القبول ، وأنها تودع في جسم الجنين عند اكتمال طور المضغة ، وأن للنفس الناطقة آثارا من الانكشافات إذا ظهرت فقد ينتقش بعضها بمدارك صاحب النفس في لوح حسه المشترك ، وقد يصرفه عن الانتقاش شاغلان : أحدهما حسي خارجي ، والآخر باطني عقلي أو وهمي ، وقوى النفس متجاذبة متنازعة فإذا اشتد بعضها ضعف البعض الآخر ، كما إذا هاج الغضب ضعفت الشهوة ، فكذلك إن تجرد الحس الباطن للعمل شغل عن الحس الظاهر ، والنوم شاغل للحس ، فإذا قلت شواغل الحواس الظاهرة فقد تتخلص النفس عن شغل مخيلاتها ، فتطلع على أمور مغيبة ، فتكون المنامات الصادقة .

والرؤيا الصادقة حالة يكرم الله بها بعض أصفيائه الذين زكت نفوسهم فتتصل نفوسهم بتعلقات من علم الله وتعلقات من إرادته وقدرته وأمره التكويني فتنكشف بها الأشياء المغيبة بالزمان قبل وقوعها ، أو المغيبة بالمكان قبل اطلاع الناس عليها اطلاعا عاديا . ولذلك قال النبي - صلى الله عليه وسلم - [ ص: 211 ] الرؤيا الصالحة من الرجل الصالح جزء من ستة وأربعين جزءا من النبوءة .

وقد بين تحديد هذه النسبة الواقعة في الحديث في شروح الحديث . وقال : لم يبق من النبوءة إلا المبشرات وهي الرؤيا الصالحة للرجل الصالح يراها أو ترى له .

وإنما شرطت المرائي الصادقة بالناس الصالحين لأن الارتياض على الأعمال الصالحة شاغل للنفس عن السيئات ، ولأن الأعمال الصالحات ارتقاءات وكمالات فهي معينة لجوهر النفس على الاتصال بعالمها الذي خلقت فيه وأنزلت منه ، وبعكس ذلك الأعمال السيئة تبعدها عن مألوفاتها وتبلدها وتذبذبها .

والرؤيا مراتب :

منها أن : ترى صور أفعال تتحقق أمثالها في الوجود مثل رؤيا النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه يهاجر من مكة إلى أرض ذات نخل ، وظنه أن تلك الأرض اليمامة فظهر أنها المدينة ، ولا شك أنه لما رأى المدينة وجدها مطابقة للصورة التي رآها ، ومثل رؤياه امرأة في سرقة من حرير فقيل له اكتشفها فهي زوجك فكشف فإذا هي عائشة ، فعلم أن سيتزوجها . وهذا النوع نادر وحالة الكشف فيه قوية .

ومنها أن ترى صورا تكون رموزا للحقائق التي ستحصل أو التي حصلت في الواقع ، وتلك من قبيل مكاشفة النفس للمعاني والمواهي وتشكيل المخيلة تلك الحقائق في أشكال محسوسة هي من مظاهر تلك المعاني ، وهو ضرب من ضروب التشبيه والتمثيل الذي تخترعه ألباب الخطباء والشعراء ، إلا أن هذا تخترعه الألباب في حالة هدو الدماغ من الشواغل الشاغلة ، فيكون أتقن وأصدق . وهذا أكثر أنواع المرائي . ومنه رؤيا النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه يشرب من قدح لبن رأى الري في أظفاره ثم أعطى فضله عمر بن الخطاب رضي الله عنه . وتعبيره ذلك بأنه العلم .

[ ص: 212 ] وكذلك رؤياه امرأة سوداء ناشرة شعرها خارجة من المدينة إلى الجحفة ، فعبرها بالحمى تنتقل من المدينة إلى الجحفة ، ورئي عبد الله بن سلام أنه في روضة ، وأن فيها عمودا ، وأن فيه عروة ، وأنه أخذ بتلك العروة فارتقى إلى أعلى العمود ، فعبره النبي - صلى الله عليه وسلم - بأنه لا يزال آخذا بالإيمان الذي هو العروة الوثقى ، وأن الروضة هي الجنة ، فقد تطابق التمثيل النومي مع التمثيل المتعارف في قوله - تعالى : فمن يكفر بالطاغوت ويؤمن بالله فقد استمسك بالعروة الوثقى ، وفي قول النبي - صلى الله عليه وسلم - : ما بين بيتي ومنبري روضة من رياض الجنة .

وسيأتي تأويل هذه الرؤيا عند قوله - تعالى : وقال يا أبت هذا تأويل رؤياي من قبل .

التالي السابق


الخدمات العلمية