صفحة جزء


[ ص: 7 ] وقال الملك ائتوني به أستخلصه لنفسي فلما كلمه قال إنك اليوم لدينا مكين أمين قال اجعلني على خزائن الأرض إني حفيظ عليم السين والتاء في " أستخلصه " للمبالغة . مثلها في استجاب واستأجر . والمعنى أجعله خالصا لنفسي ، أي خاصا بي لا يشاركني فيه أحد ، وهذا كناية عن شدة اتصاله به والعمل معه . وقد دل الملك على استحقاق يوسف عليه السلام تقريبه منه ما ظهر من حكمته وعلمه ، وصبره على تحمل المشاق ، وحسن خلقه ونزاهته ، فكل ذلك أوجب اصطفاءه .

وجملة فلما كلمه مفرعة على جملة محذوفة دل عليها وقال الملك ائتوني به ، والتقدير : فأتوه به ، أي يوسف عليه السلام فحضر لديه وكلمه فلما كلمه .

والضمير المنصوب في " كلمه " عائد إلى الملك ، فالمكلم هو يوسف عليه السلام كلم الملك كلاما أعجب الملك بما فيه من حكمة وأدب . ولذلك فجملة قال إنك اليوم لدينا مكين أمين جواب ( لما ) ، والقائل هو الملك لا محالة .

والمكين : صفة مشبهة من مكن بضم الكاف إذا صار ذا مكانة ، وهي المرتبة العظيمة ، وهي مشتقة من المكان .

والأمين : فعيل بمعنى مفعول ، أي مأمون على شيء . أي موثوق به في حفظه .

وترتب هذا القول على تكليمه إياه دال على أن يوسف عليه السلام كلم الملك كلام حكيم أديب فلما رأى حسن منطقه وبلاغة قوله وأصالة رأيه رآه أهلا لثقته وتقريبه منه .

[ ص: 8 ] وهذه صيغة تولية جامعة لكل ما يحتاج إليه ولي الأمر من الخصال ; لأن المكانة تقتضي العلم والقدرة ، إذ بالعلم يتمكن من معرفة الخير والقصد إليه ، وبالقدرة يستطيع فعل ما يبدو له من الخير ، والأمانة تستدعي الحكمة والعدالة ، إذ بالحكمة يؤثر الأفعال ويترك الهوات الباطلة ، وبالعدالة يوصل الحقوق إلى أهلها . وهذا التنويه بشأنه والثناء عليه تعريض بأنه يريد الاستعانة به في أمور مملكته وبأن يقترح عليه ما يرجو من خير ، فلذلك أجابه بقوله اجعلني على خزائن الأرض .

وجملة قال اجعلني على خزائن الأرض حكاية جوابه لكلام الملك ولذلك فصلت على طريقة المحاورات .

و ( على ) هنا للاستعلاء المجازي ، وهو التصرف والتمكن ، أي اجعلني متصرفا في خزائن الأرض .

و " خزائن " جمع خزانة بكسر الخاء ، أي البيت الذي يختزن فيه الحبوب والأموال . والتعريف في الأرض تعريف العهد ، وهي الأرض المعهودة لهم ، أي أرض مصر . والمراد من خزائن الأرض خزائن كانت موجودة ، وهي خزائن الأموال ; إذ لا يخلو سلطان من خزائن معدودة لنوائب بلاده لا الخزائن التي زيدت من بعد لخزن الأقوات استعدادا للسنوات المعبر عنها بقوله مما تحصنون .

واقتراح يوسف عليه السلام ذلك إعداد لنفسه للقيام بمصالح الأمة على سنة أهل الفضل والكمال من ارتياح نفوسهم للعمل في المصالح ، ولذلك لم يسأل مالا لنفسه ولا عرضا من متاع الدنيا ، ولكن سأل أن يوليه خزائن المملكة ليحفظ الأموال ويعدل في توزيعها ويرفق بالأمة في جمعها وإبلاغها لمحالها .

[ ص: 9 ] وعلل طلبه ذلك بقوله إني حفيظ عليم المفيد تعليل ما قبلها لوقوع إن في صدر الجملة فإنه علم أنه اتصف بصفتين يعسر حصول إحداهما في الناس بل كلتيهما ، وهما : الحفظ لما يليه ، والعلم بتدبير ما يتولاه ، ليعلم الملك أن مكانته لديه وائتمانه إياه قد صادفا محلهما وأهلهما ، وأنه حقيق بهما لأنه متصف بما يفي بواجبهما ، وذلك صفة الحفظ المحقق للائتمان ، وصفة العلم المحقق للمكانة . وفي هذا تعريف بفضله ليهتدي الناس إلى اتباعه . وهذا من قبيل الحسبة .

وشبه ابن عطية بمقام يوسف عليه السلام هذا مقام أبي بكر رضي الله عنه في دخوله في الخلافة مع نهيه المستشير له من الأنصار من أن يتأمر على اثنين . قلت : وهو تشبيه رشيق ، إذ كلاهما صديق .

وهذه الآية أصل لوجوب عرض المرء نفسه لولاية عمل من أمور الأمة إذا علم أنه لا يصلح له غيره ; لأن ذلك من النصح للأمة ، وخاصة إذا لم يكن ممن يتهم على إيثار منفعة على مصلحة الأمة . وقد علم يوسف عليه السلام أنه أفضل الناس هنالك لأنه كان المؤمن الوحيد في ذلك القطر ، فهو لإيمانه بالله يبث أصول الفضائل التي تقتضيها شريعة آبائه إبراهيم وإسحاق ويعقوب عليهم السلام ، فلا يعارض هذا ما جاء في صحيح مسلم عن عبد الرحمن بن سمرة قال : قال لي رسول الله صلى الله عليه وسلم : يا عبد الرحمن لا تسأل الإمارة فإنك إن أعطيتها عن مسألة وكلت إليها وإن أعطيتها عن غير مسألة أعنت عليها ; لأن عبد الرحمن بن سمرة لم يكن منفردا بالفضل من بين أمثاله ولا راجحا على جميعهم .

ومن هذه الآية أخذ فقهاء المذهب جواز طلب القضاء لمن يعلم أنه أهل وأنه إن لم يول ضاعت الحقوق . قال المازري : يجب على من هو أهل الاجتهاد والعدالة السعي في طلب القضاء إن علم أنه إن لم يله ضاعت الحقوق [ ص: 10 ] أو وليه من لا يحل أن يولى . وكذلك إن كان وليه من لا تحل توليته ولا سبيل لعزله إلا بطلب أهله .

وقال ابن مرزوق : لم أقف على هذا لأحد من قدماء أهل المذهب غير المازري .

وقال عياض في كتاب الإمارة ، أي من شرح صحيح مسلم ، ما ظاهره الاتفاق على جواز الطلب في هذه الحالة ، وظاهر كلام ابن رشد في المقدمات حرمة الطلب مطلقا . قال ابن مرزوق : وإنما رأيت مثل ما نقل المازري أو قريبا منه للغزالي في الوجيز .

التالي السابق


الخدمات العلمية