صفحة جزء
واستفتحوا وخاب كل جبار عنيد من ورائه جهنم ويسقى من ماء صديد يتجرعه ولا يكاد يسيغه ويأتيه الموت من كل مكان وما هو بميت ومن ورائه عذاب غليظ .

جملة واستفتحوا يجوز أن تكون معطوفة على جملة فأوحى إليهم ربهم ، أو معترضة بين جملة ولنسكننكم الأرض من بعدهم وبين جملة وخاب كل جبار عنيد ، والمعنى : أنهم استعجلوا النصر ، وضمير استفتحوا عائد إلى الرسل ، ويكون جملة وخاب كل جبار عنيد عطفا على جملة فأوحى إليهم ربهم الخ ، أي : فوعدهم الله النصر وخاب الذين كفروا ، أي : لم يتحقق توعدهم الرسل بقولهم لنخرجنكم من أرضنا أو لتعودن في ملتنا ، ومقتضى الظاهر أن يقال : وخاب الذين كفروا ، فعدل عنه إلى كل جبار عنيد للتنبيه على أن الذين كفروا كانوا جبابرة عنداء وأن كل جبار عنيد يخيب . ويجوز أن تكون جملة واستفتحوا عطفا على جملة وقال الذين كفروا لرسلهم ويكون ضمير استفتحوا عائدا على الذين كفروا ، أي : وطلبوا النصر على رسلهم فخابوا في ذلك ، ولكون في قوله وخاب كل جبار [ ص: 210 ] عنيد إظهار في مقام الإضمار عدل عن أن يقال : وخابوا ، إلى قوله كل جبار عنيد لمثل الوجه الذي ذكر آنفا .

والاستفتاح : طلب الفتح وهو النصر ، قال تعالى إن تستفتحوا فقد جاءكم الفتح .

والجبار : المتعاظم الشديد التكبر .

والعنيد : المعاند للحق ، وتقدما في قوله واتبعوا أمر كل جبار عنيد في سورة هود ، والمراد بهم المشركون المتعاظمون ، فوصف " جبار " خلق نفساني ، ووصف " عنيد " من أثر وصف جبار ; لأن العنيد المكابر المعارض للحجة .

وبين خاف وعيد ، وخاب كل جبار عنيد جناس مصحف .

وقوله من ورائه جهنم صفة لـ جبار عنيد أي : خاب الجبار العنيد في الدنيا ، وليس ذلك حظه من العقاب بل وراءه عقاب الآخرة .

والوراء : مستعمل في معنى ما ينتظره ويحل به من بعد ، فاستعير لذلك بجامع الغفلة عن الحصول كالشيء الذي يكون من وراء المرء لا يشعر به ; لأنه لا يراه ، كقوله تعالى وكان وراءهم ملك يأخذ كل سفينة غصبا ، أي : وهم غافلون عنه ولو ظفر بهم لأفتك سفينتهم ، وقول هدبة بن خشرم :


عسى الكرب الذي أمسيت فيه يكون وراءه فرج قريب

وأما إطلاق الوراء على معنى ( من بعد ) فاستعمال آخر قريب من هذا وليس عينه .

والمعنى : أن جهنم تنتظره ، أي : فهو صائر إليها بعد موته .

[ ص: 211 ] والصديد : المهلة . أي : مثل الماء يسيل من الدمل ونحوه ، وجعل الصديد ماء على التشبيه البليغ في الإسقاء ، لأن شأن الماء أن يسقى ، والمعنى : ويسقى صديدا عوض الماء إن طلب الإسقاء ، ولذلك جعل " صديدا " عطف بيان لـ " ماء " ، وهذا من وجوه التشبيه البليغ .

وعطف جملة ( يسقى ) على جملة من ورائه جهنم ; لأن السقي من الصديد شيء زائد على نار جهنم والتجرع : تكلف الجرع ، والجرع : بلع الماء .

ومعنى ( يسيغه ) يفعل سوغه في حلقه ، والسوغ : انحدار الشراب في الحلق بدون غصة ، وذلك إذا كان الشراب غير كريه الطعم ولا الريح ، يقال : ساغ الشراب ، وشراب سائغ ، ومعنى لا يكاد يسيغه لا يقارب أن يسيغه فضلا عن أن يسيغه بالفعل ، كما تقدم في قوله تعالى وما كادوا يفعلون في سورة البقرة .

وإتيان الموت : حلوله ، أي : حلول آلامه وسكراته ، قال قيس بن الخطيم :

متى يأت هذا الموت لا تبق حاجة لنفسي إلا قد قضيت قضاءها بقرينة قوله وما هو بميت ، أي : فيستريح .

والكلام على قوله ومن ورائه عذاب غليظ مثل الكلام في قوله من ورائه جهنم ، أي : ينتظره عذاب آخر بعد العذاب الذي هو فيه .

والغليظ : حقيقته الخشن الجسم ، وهو مستعمل هنا في القوة والشدة بجامع الوفرة في كل ، أي : عذاب ليس بأخف مما هو فيه ، وتقدم عند قوله ونجيناهم من عذاب غليظ في سورة هود .

التالي السابق


الخدمات العلمية