صفحة جزء
أفأمن الذين مكروا السيئات أن يخسف الله بهم الأرض أو يأتيهم العذاب من حيث لا يشعرون بعد أن ذكرت مساويهم ومكائدهم وبعد تهديدهم بعذاب يوم البعث تصريحا ، وبعذاب الدنيا تعريضا فرع على ذلك تهديدهم الصريح بعذاب الدنيا بطريق استفهام التعجيب من استرسالهم في المعاندة غير مقدرين أن [ ص: 165 ] يقع ما يهددهم به الله على لسان رسوله - صلى الله عليه وسلم - فلا يقلعون عن تدبير المكر بالنبيء - صلى الله عليه وسلم - ، فكانت حالهم في استرسالهم كحال من هم آمنون بأس الله ، فالاستفهام مستعمل في التعجيب المشوب بالتوبيخ .

والذين مكروا : هم المشركون .

والمكر تقدم في قوله تعالى قد مكر الذين من قبلهم في هذه السورة .

وقوله تعالى ( السيئات ) صفة لمصدر ( مكروا ) محذوفا يقدر مناسبا لتأنيث صفته ، فالتقدير : مكروا المكرات السيئات ، كما وصف المكر بالسيئ في قوله تعالى ولا يحيق المكر السيئ إلا بأهله ، والتأنيث في مثل هذا يقصد منه الدلالة على معنى الخصلة أو الفعلة ، كالغدرة للغدر .

ويجوز أن يضمن ( مكروا ) معنى ( اقترفوا ) فانتصب ( السيئات ) على المفعولية به ، ويجوز أن يكون منصوبا على نزع الخافض وهو باء الجر التي معناها الآلة .

والخسف : زلزال شديد تنشق به الأرض فتحدث بانشقاقها هوة عظيمة تسقط فيها الديار والناس ، ثم تنغلق الأرض على ما دخل فيها ، وقد أصاب ذلك أهل بابل ، ومكانهم يسمى خسف بابل . وأصاب قوم لوط إذ جعل الله عاليها سافلها ، وبلادهم مخسوفة اليوم في بحيرة لوط من فلسطين .

وخسف من باب ضرب ، ويستعمل قاصرا ومتعديا ، يقال : خسفت الأرض ، ويقال : خسف الله الأرض ، قال تعالى فخسفنا به وبداره الأرض ، ولا يتعدى إلى ما زاد على المفعول إلا بحرف التعدية ، والأكثر أن يعدى بالباء كما هنا وقوله تعالى فخسفنا به وبداره الأرض ، أي جعلناها خاسفة به ، فالباء للتعدية ، كما يقال : ذهب به .

والعذاب يعم كل ما فيه تأليم يستمر زمنا ; فلذلك عطف على الخسف ، وإتيان العذاب إليهم : إصابته إياهم ، شبه ذلك بالإتيان .

[ ص: 166 ] و من حيث لا يشعرون من مكان لا يترقبون أن يأتيهم منه ضر ، فمعنى من حيث لا يشعرون أنه يأتيهم بغتة لا يستطيعون دفعه ; لأنهم لبأسهم ومنعتهم لا يبغتهم ما يحذرونه إذ قد أعدوا له عدته ، فكان الآتي من حيث لا يشعرون عذابا غير معهود ، فوقع قوله من حيث لا يشعرون كناية عن عذاب لا يطيقون دفعه بحسب اللزوم العرفي ، وإلا فقد جاء العذاب عادا من مكان يشعرون به ، قال تعالى فلما رأوه عارضا مستقبل أوديتهم قالوا هذا عارض ممطرنا ، وحل بقوم نوح عذاب الطوفان وهم ينظرون ، وكذلك عذاب الغرق لفرعون وقومه .

التالي السابق


الخدمات العلمية